مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٤٦) .. خيباتُ التعجّل

جواهر التدبر (٢٤٦)

خيباتُ التعجّل

 

بقلم أ.د.فؤاد البنا

 

– إضعاف التعجل للصبر:
التعجل طبيعة بشرية فرضته خلقته الأولى من التراب، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {خُلق الإنسان من عَجَل} [الأنبياء: ٣٧]، وتؤكد هذه الجملة أصالة طبع التعجل في تكوين الإنسان وكأن التراب الذي خلق منه قد صار كله عجَلاً أو تعجلا، أو كأن جميع أكدار التراب كلها قد اختزلت في العجلة؛ ذلك أن التعجل ينعكس على طرائق تفكير الناس وسلوكياتهم بشكل واسع، مثلما ورد في قوله تعالى: {ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا} [الإسراء: ١١].
ويبدو أن هذه الطبيعة كانت أحد العوامل الأساسية التي جعلت الأغلبية الساحقة من البشر تقدم الدنيا على الآخرة في الطلب، وبسبب هذا التعامل فقد سمى الله الدنيا ب(العاجلة) في ثلاثة مواضع منه، كما في قوله تعالى: {كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة} [القيامة: ٢٠، ٢١].
ومن المرجح أن طبيعة العجلة الثاوية في تركيبة يونس عليه السلام هي التي ضغطت على صبره، وجعلته يستبطئ إيمان قومه ويغضب منهم تاركا إياهم في غيهم يعمهون، فحدث له ما حدث مما ذكره القرآن!
وقد أوصى المولى عز وجل خاتم أنبيائه بأن يلتحق بركب أولي العزم من الرسل، من خلال الرسوخ في الصبر وعدم العجلة، فقال تعالى: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم} [الأحقاف: ٣٥]، ونفهم من كلمة (لهم) الواردة في النص السابق أن الله نهاه عن التعجل حتى لو بدا الأمر لصالحهم، وليس المقصود استعجال العذاب الذي يطلبونه، ذلك أن الرسول كان رحمة خالصة كما وصفه ربه، ولم يطلب لهم عذابا يستأصل شأفتهم أبدا!

– استعجال العذاب:
أورد القرآن الكريم في ثلاثة مواضع منه أن المشركين استعجلوا النبي صلى الله عليه وسلم في نزول العذاب عليهم، وذلك بصيغة {ويستعجلونك بالعذاب}، والفعل المضارع يفيد التكرار والاستمرار في هذا الطلب، وهناك صيغ أخرى وردت في طلب العذاب، مثل دعوة أحد كبراء قريش الأحمق حينما قال: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطِر علينا حجارة من السماء..}، وحدث مثل هذا من قبل جميع الكفار مع كافة أنبيائهم؛ مما يوضح بجلاء أن العجلة طبيعة بشرية عامة!

– العَجَلةُ تصنع العِجل:
من المعلوم أن موسى قد ضرب ربه له موعدا كي يذهب مع مجموعة من قومه لمكالمة الله في جبل الطور بجزيرة سيناء، لكن الكليم موسى دفعه شوقه للذهاب قبل حلول الموعد بمفرده، فسأله الله ربما سؤال المعاتب: {وما أعجلك عن قومك يا موسى. قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربي لترضى. قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري} [طه: ٨٣ – ٨٥]، وكأن الآية تقول بأن حرق المراحل ضار مهما كان المقصد نبيلا والمراد ابتغاء مرضاة الله تعالى، وكأن فتنة بني إسرائيل واتخاذ العجل كان في جانب منه نتيجة لعجلة الكليم عليه السلام!
وبالنسبة لجانب بني إسرائيل فقد كانوا يعرفون أن موسى ذهب لميقات الله وكأنه ذهب يبحث عنه! وكانوا مسكونين بتصورات ذات قوالب مادية للآلهة، حتى طلبوا من موسى قبل هذا الموقف أن يجعل لهم إلها ماديا كما لبقية الشعوب آلهة من الأصنام، ولهذا فقد استعجلوا سماع صوت الله ظانين أن العجل الذي صنعه السامري هو من يبحث عنه موسى وأن الخوار (أستغفر الله) هو صوت الله، وعندما راجعهم هارون أصروا على أن يبقوا عاكفين عليه حتى يرجع إليهم موسى ليخبرهم إن كان هذا هو الإله الذي يبحث عنه أم لا!
وحينما عاد موسى وسمع منهم ومن هارون القصة، يبدو أنه اكتشف دور العجلة، بجانب أسباب أخرى، في الوصول إلى هذه النتيجة القبيحة، فقال لهم: {بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم..} [الأعراف: ١٥٠]

– الاستعجال في قراءة القرآن:
ورد في القرآن الكريم نهي الله للنبي صلى الله عليه وسلم عن التعجل في قراءة القرآن، كما في قوله تعالى: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما} [طه: ٨٤]، ونلاحظ كيف ربطت الآية بين التمهل في قراءة القرآن وبين الاستزادة من العلم، وقال أيضا: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه}[القيامة: ١٦، ١٧]، وهذا النهي جاء مع أن الحاجة كانت ماسة لحفظ القرآن قبل أن يجمع في مصحف واحد، حتى لا يضيع بعضه أو يتم تحريفه، وبعد أن تعهد الله بحفظه طالبا من المسلمين التركيز على التدبر، فإننا نجد أغلب المسلمين يعجلون في القراءة مركزين على الكم بحجة التبرك وطلب الأجر!
وكم تجد اليوم من يقرأ مصحفا كاملا على عجل ومن دون أن يخالط قلبه أي وجل، حتى أنه لا تهتز له شعرة ولا يقشعر له جلد ولا تذرف له دمعة خلال قراءته لأكثر من ٦٢٠٠ آية، بينما كان الرسول والصحابة يتمهلون في تلاوة القرآن حتى أن أحدهم قد يقوم ليلة كاملة في آية يرددها ويبكي!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى