مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٤٤) .. قلوب العباد بين الصرف والتصريف

جواهر التدبر (٢٤٤)

قلوب العباد بين الصرف والتصريف

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

من المعلوم أن الله تعالى في غاية الرحمة بعباده، وأنه حريص على هدايتهم إلى أبعد حد، ويحب لهم الخير أكثر من آبائهم وأمهاتهم، ومن مظاهر رحمته السابغة أنه يصرّف لهم الآيات في القرآن من أجل أن تتشرب قلوبهم الهداية بشتى أنواعها وميادينها، وتعتنق عقولهم عقيدة الإيمان بكل أبعادها وشُعبها، وذلك من خلال منظومة فاعلة تضمن انسياب الخير من الجوانح إلى الجوارح.
وفي هذا الإطار يقول تعالى: {وكذلك نصرّف الآيات وليقولوا درستَ ولنبينه لقوم يعلمون} [الأنعام: ١٠٥]، ويمكن القول بأن التصريف القرآني منهج للولوج إلى العقول والقلوب من مداخل متعددة وفي ظروف مختلفة وتحت رايات وعناوين متنوعة، مع تغيير أساليب الخطاب وتطوير وسائل التأثير، واستخدام الوعد والوعيد في استثارة طاقتي الرجاء والخوف، وتوظيف الأمثال والقصص في حقن العقول بالأفكار وزراعة القلوب بالمشاعر، بحيث تتضافر سائر الطرائق في صناعة التأثير المطلوب، وصولا إلى جعل مدارك العقل تتشبث بالتوحيد وجعل حقائق القرآن تتغلغل في شغاف القلب.
ويشير اسم الإشارة (وكذلك) الوارد في مطلع الآية إلى البصائر المذكورة في الآية السابقة لها، وهي قوله تعالى: {قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ}[الأنعام: ١٠٤]، فكل آية من آيات القرآن الكريم تحتوي على بصيرة يحتاجها المرء في دروب الحياة اليومية المليئة بالكُبد وخاصة في ظلمات الفتن الحالكة، لكنها لا تفيد من أغمض عينيه ولم يطلق طاقات التفكر والتدبر والتفقه والتبصر الثاوية في ذاته، ومن ثم فإنها دعوة مفتوحة لتفعيل فريضة التدبر التي تتضمن عملية الاستبصار أو التبصر أو الإبصار، كما في جملة: {فمن أبصر فلنفسه}!
وفي المقابل فإن من لم يفتحوا أبصار التدبر ولم يستفيدوا من تصريف الآيات؛ فإن الله يعاقبهم من جنس ما اختاروا لأنفسهم، وهذا مقتضى عدل الله بعد أن رفضوا رحمته وفضله، حيث يصرف الله قلوبهم عن آياته، كما قال عز من قائل: {صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون} [التوبة: ١٢٧]،  وواضح بأن الصرف عقوبة لعدم التفاعل مع التصريف، كما تشير نهاية الآية {بأنهم قوم لا يفقهون}، أي أن صرف قلوبهم جاء بسبب انصرافهم عن التدبر وعدم استفادتهم من إمكانات التصريف في التعقل والتفقه، ويتأكد هذا المعنى حينما نقرأ الآية كاملة، قال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون}[التوبة: ١٢٧].
وعقوبة الصرف شديدة الخطورة بلا شك؛ لأنها تدفع بأصحابها نحو فكر الأنعام والدواب، حيث التعطيل التام للأسماع والأبصار والعقول، وطغيان الغفلة وغياب الوعي، والذهول عن حقيقة الحياة وسر الوجود، وصولا إلى دركة: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: ١٠]!
وللعلم فإن تصريف الآيات ورد ذكره في عشرة مواضع من القرآن الكريم، وثلاثة من هذه المواضع مذكورة في سورة الأنعام، وكأن تصريف الآيات وسيلة فعالة لمقاومة فكر الأنعام، وضمانة أكيدة لعدم السقوط في دوامة ثقافة القطيع!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى