مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢١١) .. دور الخشوع في تيسير الصلاة

جواهر التدبر (٢١١)

دور الخشوع في تيسير الصلاة

بقلم أ. د. فؤاد البنا

لقد عاب الله على بني إسرائيل وجود فجوة كبيرة بين ما يدّعونه من إيمان ويدْعون إليه من صلاح وبين ما يتجسد في ذواتهم من أخلاق ويظهر في حياتهم من سلوكيات، فقال عز من قائل: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} [البقرة: ٤٤]، وزاد النكير عليهم لأنهم يتلون الكتاب بشكل مستمر كما يفيد الفعل المضارع {تتلون}.
ولأنهم يتلون الكتاب بغفلة سادرة لا يتوافر لها التفكر العقلي ولا الخشوع القلبي؛ فقد ختم الآية بمطالبتهم بالتعقل {أفلا تعقلون}، وبالطبع لو كانوا يُفعلون مدارك عقولهم وشغاف قلوبهم أثناء قراءة الكتاب ما أصابهم هذا الانفصام النكد في الأصل ولا نشأت هذه الفجوة الخطيرة بين دينهم وتديّنهم؛ لأن التدبر يشتمل على التفكر العقلي والخشوع القلبي وهما يزرعان في العقل والوجدان معرفة قدر الله والخوف مما عنده من عقاب، وبهذه المعادلة تنشأ البيئة الخصبة لنمو ملَكة التقوى التي تدفع صاحبها نحو العمل بتعاليم الكتاب الكريم بكل صدق ودأب.
ومن أجل تجسير الفجوة بين ما نقوله وما نفعله فقد أمرنا الله جميعا من خلال خطابه لبني إسرائيل بالصبر وإقامة الصلاة، فقال: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}[البقرة: ٤٥]، وكأن الصبر والصلاة جسران صلبان يربطان بين الأقوال والأفعال بكل اقتدار وسلاسة!
وأخبرنا الله أن الصلاة مسألة كبيرة وليست هينة؛ ذلك أنها تحتاج إلى طهارة القلب والجسد، ومن أجل إقامتها بحق فإنها تحتاج إلى عدد من الشروط والأركان التي لا تُقبل إلا بها، ثم إنها تتكرر خمس مرات في أوقات مضبوطة بصرامة خلال اليوم والليلة، وتحتاج إلى استمرار وديمومة كل يوم حتى خروج الروح، لكنه عز وجل أخبرنا في نفس الآية بأن الصلاة ليست كبيرة على الخاشعين؛ ذلك أن التحلي بالخشوع واستحضار عظمة المعبود وتذكر ضخامة الأجور الدنيوية والأخروية؛ يهوّن هذه الأمور كلها بل ويجعل الصلاة مع المدى البعيد متعة روحية وسياحة عقلية وواحة نفسية، يشتاق المرء لولوجها ويتلذذ بالاسترواح تحت ظلالها الندية، كما كان صلى الله عليه وسلم يقول لمؤذنه بلال رضي الله عنه: “أرِحنا بها يا بلال”!
ومن الطبيعي أن الالتذاذ بالصلاة خاصة والطاعة عامة لا يصل إليه المسلم إلا بعد مجاهدة ومكابدة في طريق استكمال الأركان واستيفاء الشروط بشقيها المادي والمعنوي، مرتقيا من منزلة الإسلام إلى درجة الإيمان، وبعد أن يتذوق حلاوة الإيمان يرتقي إلى سدرة الإحسان، وهناك تنمحي الفواصل بين عالمي الغيب والشهادة، بحيث يعبد المرء الله وكأنه يراه أمامه أو كأن الله يراه من عل، ثم إنه يرى الجنة فيشتعل التياعُه، ويرى النار فيشتد ارتياعُه، وكيف لا يبتهج بالصلاة من يناجي الله وكأنه أمامه عيانا بيانا، مستحضراً الجنة عن يمينه والنار عن شماله؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى