مع تطور وسائل الإعلام وتنامي أساليب الحروب الإعلامية الفكريّة والنّفسيّة اليوم؛ لم تعُد تقتصر وظيفة المراسل الإعلامي على نقل الخبر وتوثيق الأحداث والمشاهد والقصص الخبرية ومراقبة البيئة فحسب؛ إنما تعدّت ذلك لتصبح أحد أهم مرتكزات توجيه الرأي العام بل وصناعته، في مضمار يتّسم بشدة التّنافس والتّدافع والاستقطاب على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي خدمةً لمصالح الحكومات والسياسات والحركات والمؤسسات، وقد ينخرط هذا المراسل في عمليّة صناعة الوعي الجماهيري أدرك ذلك أم لم يدرك! بل ويشارك بشكل فاعل في صناعة وصياغة القرارت المصيرية على المستوى التكتيكي والاستراتيجي، فخطورة عمل المراسل الإعلامي وحساسيّته دفعت المتنفّذين وأصحاب المصالح من السياسيين والعسكريين للاهتمام بعلم الإعلام وفنّ إدارته وبدوره الخطير في الحروب النّفسية بشكل عام وبالإعلاميين على وجه الخصوص؛ إذ يُعتَبَرون الوسائل الأهم في تأدية وظيفة تشكيل الوعي والإدراك.
بين المراسل التقليدي والمراسل العارف
مما لا شكّ فيه أنّ الإعلامي العفوي أو التّقليدي الذي لم يتلقَ علم الإعلام كأداة للتّحكم في العقول والسيطرة على التوجهات والممارسات، ولم يتمرّس فنون كشف خداع وحِيَل الضالعين في علم البرمجيات الّلغوية والعصبية ومخاطبة العقل الباطن للسيطرة عليه بالإقناع وتبني الأفكار؛ قد يقع في أخطاء جسيمة تعود عليه وعلى من يعمل لصالحه بالويلات مما يؤثر في موازين المعادلة في المواجهة لصالح العدو.
وقد تزداد أهمية المراسل الإعلامي بزيادة خطورة الدّور الذي يؤدّيه، خاصةً في زمن الحروب، فيعد دور المراسل الحربي أشد خطراً من المراسل النّمطي، إذ إنّ الحروب الميدانية عادةً ما يسبقها حروب إعلامية هدفها إيقاع الهزيمة النفسية بالناس تمهيداً للهزيمة العسكرية، وكثيرة هي أدواتها، منها نشر الشائعات والبروباجندا والكذب والتّشكيك والتخويف والاستعطاف وغيرها من الأساليب المعروفة إعلامياً.
حرمة دماء “المراسلين”
لقد أولى الإسلام اهتماماً كبيراً بالرسل، رُسل الله -تبارك وتعالى- ورُسل رسوله -صلى الله عليه وسلم- ورُسل البشر، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ المائدة: 70، ولقد جاء ذكر قتل الرسل هنا في معرض التّقريع والتّبكيت لفداحة الفعل وجسامته حيث عُرف عن بني اسرائيل أنهم كانوا يقتّلون أنبياء الله؛ الأمر الذي استوجب عقابهم على هذا الفعل القبيح، فللرسول حرمة مُعتبرة إسلامياً وإنسانياً لأنه ليس إلا ناقلاً للخبر، وعن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي، عن أبيه نعيم، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول حين قرأ كتاب مسيلمة الكذاب الذي ادّعى فيه النّبوة، قال للرسولين: فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، فقال -رسول الله صلى الله عليه وسلم-: “والله لولا أنّ الرُّسل لا تُقتل لضربت أعناقكما” أخرجه أحمد في مسنده، وقد جرَت العادةُ عند الملوك والزُّعماء أنَّ الرُّسلَ لا تُقْتَل، فلما جاء الإسلام أقَرّ هذا الخُلُقَ وعَمِل به، فحِفظُ دماء الرّسل مبدأ اتّفقت عليه الأعراف الإنسانية والقيم الأخلاقية بين بني البشر، بل إنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- جهّز جيشاً للاقتصاص لرسوله الصحابي الجليل حبيب بن زيد -رضي الله عنه- من مسيلمة الكذاب حيث قتله لرفضه الإقرار لمسيلمة زعمه أنه شريك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النّبوة.
ومع فارق التّشبيه بين رُسل الله ورُسل البشر، حيث إن رُسل الله تكتسب قدسيّتها من قيمة مضامين الرسائل المحمولة ومن المُرسِل -سبحانه عز وجل- ومن أفضلية الرسل عند الله على بني البشر، إلا إنهما يشتركان في قدسية الوظيفة والمُهمة المنوطة بهم وهي إيصال الأخبار والحقائق، وإلا لما حرّك رسول الله جيشاً للاقتصاص لرسوله!!
عِظم المُهمّة وجسامة الدّور
يُذكر أن في غزوة الأحزاب قام النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فصلَّى من الليل، وبعد أن فرغَ من صلاتِه؛ إلتفت إلى أصحابه قائلاً: ألا رجل يأتيني بخبرِ القوم، جعلَه الله معي يوم القيامة؟ فسكت الجميع، ثم أعاد: مَنْ يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع؟! يشترِط له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الرجعَة، (أسأل الله أن يكون رفيقِي في الجنة)، فسكت القومُ، فلم يُجِبْه أحد!
فلمَّا لم يقُم أحد؛ دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حذيفةَ -رضي الله عنه-، وفي بعض الرِّوايات: أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أتى حذيفةَ -رضي الله عنه-، وهو جاثٍ على ركبتيه، فقال: من هذا؟ قال حذيفة: فتقاصرتُ بالأرض كراهية أن أقوم. فقال -صلى الله عليه وسلم-: (حذيفة؟) فقلت: بلى يا رسول الله، قال: (قُمْ يا حذيفة، فأتنا بخبر القوم، انظر ما يفعلون، ولا تذعرهُم عليَّ)، قال حذيفة -رضي الله عنه-: فلم أجد بُدًّا إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال -رضي الله عنه-: وأنا من أشدِّ الرجال فزعًا، وأشدِّهم قُرًّا (يعني: بردًا).
صحابة رسول الله الذين بايعوه على المنشط والمكره وعلى السمع والطاعة والذين كانوا يتواثبون لتلبية أوامر رسولهم الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، بل كانوا مستعدين لبذل الغالي والنّفيس والأرواح رخيصة طمعاً في نيل شرف مرافقته في الجنة؛ يسكتون في موقف كهذا!!! بل ويضمن لهم الجنة والعودة من عند القوم سالمين!! ويلتزمون الصّمت!! إنّ تأخرهم عن إجابة رسولهم لم يكن عن تكاسلٍ أو تراخٍ بل إن الأمرَ كان في غاية الصعوبة، والمُهمّة تحتاج لشجاعة وبسالة مُتناهية فالجو شديد البرودة، والظلام حالك في تلك الليلة، إن صعوبة المُهمة وجسامة الدور دعتهم للسكوت وللتفكير مليّاً قبل الاندفاع -غير الرّاشد- الذي قد يعود على المجموع بالخسائر والفشل! وإنّ عِظم المهمة وجسامة الدور قدّم لها رسولنا ثمناً غالياً ألا وهو الجنة.
تمّ تكليف سيدنا حذيفة بن اليمان للقيام بهذه المُهمة الإعلامية الاستخباراتية بطلب مباشر من القائد الأعلى -صلى الله عليه وسلم- فما كان من المراسل الحربي إلا التنفيذ الفوري دون تلكّؤ أو مماطلة، وكذا كانت وما زالت الحال في معركة طوفان الأقصى حيث يلاقي مراسلو الحرب هناك من المشاق والصعاب والفقد والوجع ما يلاقونه وبالرغم من ذلك هم صامدون على هذا الثغر لإدراكهم عظم هذه المسؤولية وقدسية المهنة، إنهم يؤدون دوراً مهماً في تحقيق عميلة التطمين النفسي من خلال نقل أخبار المقاومين الصامدين وثبات الناس ويقينهم بالنصر، ونقل جرائم العدو في حق الأبرياء، المراسل الإعلامي الحربي الرسالي الإسلامي مراسل مُتفرّد بما حباه الله من خصوصية الوقوف على ثغور الدفاع بمواجهة الحرب النفسية بأدوات المُتمكن الماهر والخبير باللعبة الإعلامية وحيلها.
المُراسل الحربي، ذكاء وسرعة بديهة
اختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حذيفةَ بن اليمان -رضي الله عنه- خاصة دون غيره من الصحابة -رضي الله عنهم جميعًا- لعلمه المُسبق بكفاءته، ونباهتِه، وذكائه ومُناسبته للمهمة المعهودة إليه، فالاختيار مدروس وليس عفوياً.
انطلقَ حذيفة -رضي الله عنه- من عند النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهو في بردٍ شديدٍ، فلمَّا بدأ السير جعل كأنما يمشي في حمَّام دافئ حار، لقد أبدل الله خوفَه طمأنينةً، وبرده دفئًا، ويسَّر له أمرَه، وذلَّل له الصعاب.
سار حذيفة -رضي الله عنه- وعناية ربِّه تحرسُه، فتخفّى ثم دخل وسط معسكرِ المشركين، وإذا ريح شديدة قد أتَتْ عليهم، فأطفأت نيرانهم، وأكفأت قدورهم، واهتزَّت خيمُهم وكادت تطير مع الريح العاصف، فنظرَ فإذا هو بأبي سفيان بن حرب قائدِ جيشِ المشركين في عُصبَة حوله وقد تفرَّق الجنود عنه لما حلَّ بهم من الكرب، فدخل حذيفة وجلسَ بينهم، وأحسّ أبو سفيان أنَّه قد دخلَ بينهم مَنْ ليس منهم، فقال لأصحابِه: ليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيد جليسه، لينظر مَنْ جليسُه حتى يتأكد من عدم وجود مَن ليس منهم.
فقال سيدنا حذيفة -رضي الله عنه-: فأخذت بيد الرجل الذي عن يميني، فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان.
قال: وأخذت بيد الرجل الذي عن يساري، فقلت: مَنْ أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان.
وهنا يتجلّى ذكاء سيدنا حذيفة ونباهته، كان عبقريًّا فذًّا؛ فاستبقهم بالسؤال قبل أن يسألوه! ولهذا اختاره النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه المهمة العظيمة التي تحتاج لسرعة بديهة وحضور ذهن وحُسن تصرف.
وتجلّى هذا المطلب حقيقة في مراسلي معركة الطّوفان في كثير من المواقف، أذكر منها على سبيل المثال موقفاً كان رد المراسل فيه مبدعاً وحصيفاً، فعندما سأل مذيع الاستوديو مراسل القناة في أرض المعركة؛ “مِن أين تطلق المقاومة الصواريخ” فرد فوراً تنطلق الصواريخ من الشمال ومن الجنوب ومن الشرق ومن الغرب ومن كل اتجاه وصوب، قاصداً بذلك تعمية العدو -الذي يتابع إعلامنا- وتشتيته عن أماكن تواجد المقاومة، والموقف الثاني للمُحلل العسكري “الدويري” الذي فهم لعبة الحرب النفسية فكانت تحليلاته حاذقة رافعة للمعنويات ومشحونة بنبرة الانتصار ومؤكدة على قوة المقاومة القتالية الفائقة، وعلى انهزام العدو الحتمي نفسياً وعسكرياً، المراسل الحربي مراسل فذ ألمعي يمتلك القدرة والكفاءة القتالية بالألفاظ والكلمات والتعبيرات.
المراسل الحربي؛ طاعة للمركزية ولا اجتهاد مع الأوامر!
كانت الفرصة مواتية لسيدنا حذيفة -رضي الله عنه- لقتل أبي سفيان حيث كان شديد الاقتراب منه ومع ذلك تذكر قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذعرْهم عليَّ))، فامتنع عن قتله وامتثل لأوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم، فدوره اقتصر على نقل المعلومات الاستخباراتية فقط في هذا المقام لا على المباغتة والقتال، بالرغم من أن قتل أبي سفيان كان هدفاً لهزيمة الجيش، وهنا تتجلى قيمة السمع والطاعة والامتثال لأوامر الإدارة المركزية العُليا؛ فكل عنصر منوط به دور محدد لا يتجاوزه حتى لو غلب على ظنه غير ذلك، فالنجاح الحقيقي والنصر لا يكون إلا من خلال العمل الجماعي المتضافر، شديد التنظيم دقيق التّنفيذ.
لقد جسد سيدنا حذيفة شخصية المراسل الحربي وهو أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، تم انتقاؤه لمعايير مدروسة ودقيقة لتأدية مهمة خطيرة على مستوى مصير الأمة، فكان كاتم السر مطيعاً؛ أطاع ونفذ الأوامر بدقة متناهية ثم عاد سالماً كما وعده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
المراسل الحربي أخلاقي صاحب مبادئ، فالرغبة في تحقيق النصر لا تتنافى والحفاظ على الأخلاق والقيم في تغطية الأخبار من مصداقية وموضوعية وتوازن وضبط للنفس وللتصرفات.
إن مهمة المراسل الحربي لا تقل أهمية عن دور المحارب في أرض المعركة، والنجاح والانتصار لا يتحققان إلا بتكامل الأدوار جميعها، وحسن الوقوف والدفاع عن الثغور يجلب النصر والتمكين والفوز بالجنان.