مقالاتمقالات المنتدى

نماذج علمائية مُلهمة: الإمام البخاري؛ حافظ الإسلام وإمام أئمته الأعلام (1)

نماذج علمائية مُلهمة: الإمام البخاري؛ حافظ الإسلام وإمام أئمته الأعلام (1)

 

بقلم د. علي محمد الصَّلابي (خاص بالمنتدى)

 

يُعدُّ شيخ الإسلام وعمدة المحدثين الإمام البخاري هو من اكبر الحفاظ، وأبرز الفقهاء المسلمين وأقدرهم، وهو من أشهر علماء الحديث، وعلوم الرجال، والجرح والتعديل، والعلل عند أهل السنة والجماعة، ويُصَنف كتابه “صحيح البخاري”، والذي جمع فيه الأحاديث النبوية، واحداً من أعظم مصادر الأثر النبوي الشريف. وهو العالم الرباني الذي قضى شطراً أكبر من حياته في خدمة أقوال النبي ﷺ، وكان يبدأ بجمع الحديث، ويقرأه، ويحققه، ويوثقه (رحمه الله).

أولاً: الإمام البخاري: أصله، ونشأته، وحياته

هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ولد في شوال عام 194 ه الموافق 810م في مدينة بخارى التي نسب إليها وهي إحدى مدن أوزبكستان الحالية، وقد مات والده وهو صغير، فتربى يتيماً في حجر أمه التي أحسنت تربيته وكان لها دور في شحذ همته وحبه للعلم.

سافر البخاري إلى إلى مكة المكرمة في سن الـــ 16 بصحبة أمه وأخيه أحمد لأداء فريضة الحج، وتخلف عنهما للاستزادة من المعارف حيث بقي هناك لستة أعوام وبدأ جمع الأحاديث، وبعدها سافر بين البلدان لهذا الهدف، من بغداد إلى الكوفة ودمشق ومصر وخراسان وغيرها، وكان يحفظ ويجتهد في طلب المزيد والتدوين، وروي أنه لا يكتب الحديث إلا بعد أن يكون قد توضأ وصلى ركعتين.

توفي البخاري في الأول من شوال 256هـ الموافق 869 م عند صلاة العشاء وصلي عليه يوم العيد بعد الظهر ودفن بإحدى قرى سمرقند، وكان قد وصلها بعد أن طرده حاكم بخارى من المدينة؛ لأنه رفض أن يذهب لتعليم أبنائه دون العامة، وقال قولته: “أنا لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب الناس”.

ثانياً: علمه وشيوخه

أُصيب الإمام في صغره بمرض في عينيه حتى كاد يفقد بصره ولكنه تعالج منه، وعادت إليه عافيته، وكان رأساً في العلم، ورأساً في الورع والعبادة، يتمتع بالذكاء والنجابة والذاكرة القوية، وهي إحدى الصفات التي ساعدته لاحقاً في جمع الأحاديث النبوية.

حفظ البخاري القرآن الكريم، وتلقى العلوم الأساسية في الدين وقد حفظ آلاف الأحاديث وهو لا يزال غلاماً، وقد ساعدته أجواء بخارى التي كانت في ذلك العصر مركزاً من مراكز العلم، فكان يرتاد حلقات العلماء و رجال الدين.

اِلتقى البخاري بعدد كبير من الشيوخ والعلماء، حتى بلغوا أكثر من ألف رجل، وذلك في رحلاته الكثيرة وتطوافه الواسع في الأقاليم، قال البخاري: «كتبت عن ألف وثمانين نفساً ليس فيهم إلا صاحب حديث».

وقد اهتمّ العلماء بذكر شيوخ البخاري فسمّاهم بعض العلماء ورتّبهم على الأقطار كالذهبي في سير أعلام النبلاء، ورتّبهم بعضهم حسب الطبقة كالحافظ ابن حجر في هدي الساري، ورتّبهم بعضهم حسب عدد الروايات، ورتّبهم بعضهم على حروف المعجم. قال الإمام النووي: «هذا الباب واسع جدًا لا يمكن استقصاؤه، فأنبه على جماعة من كل إقليم وبلد، ليستدل بذلك على اتساع رحلته، وكثرة روايته، وعظم عنايته».

أما شيوخه الذين أكثر عنهم جداً في الصحيح، ولهم عنده أكثر من مائة رواية : عبد الله بن يوسف التنيسي، وقد فاقت رواياته عنه الثلاثمائة رواية، علي بن عبد الله المديني فاقت مروياته المائتين، أبو اليمان الحكم بن نافع، موسى بن إسماعيل التبوذكي، عبد الله بن محمد المسندي، أبو نعيم الفضل بن دكين، محمد بن بشار المعروف ببندار، قتيبة بن سعيد، سلمان بن حرب، أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، محمد بن المثنى .

أما المتوسطون الذين لهم دون المائة رواية وأكثر من خمسين: عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، عبد الله بن الزبير الحميدي، إبراهيم بن موسى، إبراهيم بن المنذر، محمد بن يوسف الفريابي، محمد بن كثير، حفص بن عمر.

ومن أهم شيوخه الذين بلغوا رتبة الإمامة في العلم والدين: الإمام أحمد بن حنبل، وإن لم يرو عنه في الصحيح، وإسحاق بن راهويه روى عنه نحو الثلاثين رواية، وأحمد بن صالح المصري، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وغيرهم .

ولعل أعظمهم تأثيراً في نفس الإمام البخاري وشخصيته، وأجلهم مرتبة عنده هو الإمام علي بن المديني رحمه الله، حيث قال البخاري فيه: “ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني”.

ثالثاً: منهج الإمام البخاري في كتابة الحديث، والشبهات حوله، والرد عليها:

كان منهج البخاري (رحمه الله) في كتابة الحديث صارماً، يستقصي من الرواة والأسانيد، وأصبح علماً في هذا الباب في حسن التصانيف والتدقيق، وتعدُّ قصة تأليفه لكتابه (الجامع الصحيح) الذي يعد أول كتاب صنف في الحديث الصحيح المجرد، دليلاً عظيماً على الهمة والذكاء والإخلاص، وقد استغرق هذا العمل 16 عاماً في رحلات شاقة بين البلدان والأمصار.

ولم يتعجل إخراج الكتاب إذ بذل فيه الكثير من المراجعة والتنقيح والاستقصاء حتى خرج بالصورة النهائية له ليضم 7275 حديثاً اختارها البخاري من بين 600 ألف حديث كانت قد وصلته، حيث عمل على تدقيق الروايات ووضع شروطاً لقبول رواية راوي الحديث، وهي أن يكون معاصرًا لمن يروي عنه، وأن يكون قد سمع الحديث منه، إلى جانب: الثقة والعدالة والضبط والإتقان والعلم والورع.

إن البخاري في صحيحه لا يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، بل هو يروي عن شيوخ ثقات، في أعلى درجات الحفظ والضبط والأمانة عن مثلهم إلى أن يصل إلى الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقل عدد بين البخاري والنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الرواة.

وقد عقد الإمام ابن حجر في مقدمته لشرح (صحيح البخاري)، فصلاً خاصاً أورد فيه الأحاديث التي انتقدها الإمام الحافظ الدار قطني وغيره من النقاد على صحيح البخاري حديثاً حديثاً على سياق الكتاب، وأجاب عنها، وبلغ عدد هذه الأحاديث مئة وعشرة أحاديث، وقال: “ينبغي لكل منصف أن يعلم أن هذه الأحاديث وإن كان أكثرها لا يقدح في أصل موضوع الكتاب فإن جميعها واردٌ من جهة أخرى”، وذكر عن الإمام أبي عمر بن الصلاح: “أن المواضع المتنازع في صحتها لم يحصل لها من التلقي ما حصل لمعظم الكتاب”. وجل انتقادات الدار قطني فنيّة غامضة على غير أهل الاختصاص في الحديث النبوي، وتنقسم إلى ستة أقسام، كما بين ابن حجر، وهي:

  1. الأول: ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد.
  2. الثاني: ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد.
  3. الثالث: ما تفرد بعض الرواة في زيادة فيه دون من هو أكثر عدداً أو أضبط ممن لم يذكرها.
  4. الرابع: ما تفرد به بعض الرواة ممن ضعف من الرواة.
  5. الخامس: ما حكم فيه بالوهم على بعض رجاله، فمنه ما يؤثر ذلك الوهم قدحاً، ومنه ما لا يؤثر.
  6. السادس: ما اختلف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن فهذا أكثره لا يترتب عليه قدح.

ثم قال المؤلف قبل الشروع في استعراض الأحاديث المئة وعشرة واحداً واحداً: “فهذه جملة أقسام ما انتقده الأئمة على الصحيح، وقد حررتها وحققتها، وقسمتها، وفصّلتها. لا يظهر منها ما يؤثر في أصل موضوع الكتاب بحمد الله إلا النادر”.

وختم الحافظ ابن حجر هذا الفصل بقوله: “هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد، المطّلعون على خفايا الطرق، وليست كلها قادحة، بل أكثرها الجواب عنه ظاهر والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسف”. “فإذا تأمل المنصف ما حررته من ذلك عَظُم مقدار هذا المُصنَّف (يعني: صحيح البخاري) في نفسه، وجلّ تصنيفه في عينه، وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم، وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم، وليسا سواءً: من يدفع بالصدر فلا يأمن دعوى العصبية، ومن يدفع بيد الإنصاف على القواعد المرضية والضوابط المرعية”.

رابعاً: مكانة الإمام البخاري وكتابه، والردّ على نقاده

لقد كان البخاري محلَّ قبولِ وثناء عامة الأئمة عبر التاريخ، فقد قال أحمد بن حنبل: “ما أخرجتْ خراسان مثلَ محمد بن إسماعيل البخاري”، وأفاض الحافظ الخطيب البغدادي في بيان مكانة البخاري في حواضر الإسلام: البصريين والحجازيين والكوفيين والبغداديين وأهل الريّ وخراسان، وقال الإمامان النووي والطوفي: “تلقيب البخاري ومسلم بإمامَي المحدّثين هو باعتبار ما كانا عليه من الورع والزهد والجد والاجتهاد في تخريج الصحيح حتى ائتم بهما في التصحيح كلُّ من بعدهما”. وقال الحافظ الترمذي: «لم أر أحداً بالعراق، ولا بخراسان، في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل».

ولا يوجد كِتاب لدى المسلمين، نال الحظوة والسمعة والشهرة عند جمهور الفقهاء والشيوخ كصحيح البخاري، ونال بنفس القدر والقسط من التبجيل والتكريم والتعظيم، فهو أصح كتاب بعد القرآن (فيما يخص نصوص الشرع)، وقد انعقد إجماع الأمة على أن التراجم التي وضعها البخاري تدل عن فهم عميق ونظر دقيق في معاني النصوص، فهو محل اتفاق بين عامة العلماء عبر القرون بعد أن أصبح البخاري محل قَبول منهم على كثرة دراسته والكتابة عنه أو عن جانب منه، وقد أقر بهذا أئمة كالإمام أحمد بن حنبل، والحافظ النسائي وحكى الاتفاق عليه أئمة كابن الصلاح والنووي والطوفي وآخرين. وقد رَوَى عن البخاري عددٌ كبير من تلامذته كمسلم وأبي زُرعة الرازي، والترمذي وابن خزيمة وخلق كثير.

هذه هي مكانة صحيح البخاري لدى علماء الأمة الإسلامية وشيوخها وفقهائها، وهذا غيض من فيض ما قيل في هذا الإمام العلم، فليعلم كل ناقد له عن أي عظيم يتكلم. ونختم هذا البحث بما قاله ابن تيمية: “جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه، بخلاف مسلم بن الحجاج فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرَّجها وكان الصواب فيها مع من نازعه.. ولكن جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة أهل الحديث، تلقوها بالقبول، وأجمعوا عليها، وهم يعلمون علماً قطعياً أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها”.

ونحن نعلم خطورة التقليل من شأن الإمام البخاري وجامعه الصحيح، وعدم إعطائهما حقّهما، ولا نعني بذلك عدم النقد العلمي المنصف النزيه إذا جاء من أهله، إذ شتان بين ناقد بصير باحث عن الحقيقة يصدر في نقده عن علم، وأدب، وناقد يبخس الناس أشياءهم بدافع الجهل أو الهوى.

 

مراجع  المقال:

  1. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المملكة السعودية، (1/256).
  2. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، 1379ه، (1/ 479).
  3. ابن كثير، البداية والنهاية، دار هجر، مصر، ط1، 1417 – 1997م، (14/527)
  4. ابن مفلح، المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، مكتبة الرشد، السعودية، ط1، 1410هـ – 1990م، (2/ 230 – 377).
  5. الترمذي، سنن الترمذي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1996م، (9/ 232).
  6. شمس الدين الذهبي تذكرة الحفاظ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1419هـ- 1998م (2/428).
  7. شمس الدين الذهبي سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3، 1405 هـ – 1985م، (12 /467).
  8. النووي، تهذيب الأسماء واللغات، دار الكتب العلمية، بيروت، (1/71).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى