مقالاتمقالات المنتدى

في وداع حبر السودان

في وداع حبر السودان

 

بقلم عامر الخميسي (خاص بالمنتدى)

 

خسرت لغة الضاد اليوم أحد رموزها البررة وأعلامها المهرة فضيلة الدكتور العلامة البروفسير الحبر يوسف نور الدائم وقد كان رحمه الله مفسرا جليلا ولغويا نبيلا وهو أعلم أهل السودان بلغة العرب وتفسير القرآن..

زرتُه مرات عديدة في بيته في حي “بانت” بأم درمان فوجدت عنده الكرم الأصيل والخلق النبيل ولا تكاد تمل من مجالسته وقد لاحظته عين الإسعاد فورد عليه طلبة العلم من كل ناد، وهو ممن برز في المحافل محاضرا وعلى المنابر خطيبا مفوّها وفي المجالس الأدبية متكلما بارعا متفنّنا، وفي البرلمان صادعا بالحق موجها، ومع الناس مصلحا مرشدا حنونا، وفي الجامعات عبقريا معلما، وفي الإذاعات والقنوات مفسرا للقرآن مبينا.

له المقطعات اللذيذة المعاني اللطيفة المباني إذا سمعته طربت له وأنست بحديثه ينور الأفكار ببلاغته، والبصائر بحكمته ودلالته، ولقد صعد في العربية مكانا عليا فأفاد وأجاد، وصنع بصمة لا تمحوها الأيام، وبرحيله نخسر جبلا من جبال العلم لا عوض له وليس له من خلف ..

نَعوهُ فكان العلمُ أعظم نادبٍ
معارف منه زانها البحثُ والكشفُ

فإن غيبوه في الثرى لم تغِب له
فضائلُ تزهو من تلألها الصحفُ

كان له اليد الطولى في توجيه مناهج التعليم في البرلمان فهو العالم المفسر اللغوي الذي هندس مناهج التعليم اللغوية والأدبية والشرعية تحت قبة البرلمان، وكان مصلحا اجتماعيا أجمع عليه أهل السودان بمختلف أطيافهم رغم أنه كان مراقبا عاما للإخوان المسلمين إلا أنه فتح بابه للجميع أبا حنونا ومرشدا موجها لا تغيب عنه الطرفة والكلمة الطيبة، وكان عالما بالقرآن وتفسيره وله على إذاعة أم درمان برنامجه الشيق “سحر البيان” ينفذ منه إلى القلوب ويدهش فيه الألباب، وقد لازمَ تفسير الطبري من أول فتوّته حتى ظهرت عليه أنواره وبرزت عليه آثاره ثمّ عندما استضافته إذاعة أم درمان في برنامج ” سحر البيان ” تدفق علمه غزيرا جامعا بين بلاغة الزمخشري ونحو ابن حيان وتخريج ابن عطية وفقه القرطبي وجمع الطبري فغدا تفسيره آية للسائلين..
رأسَ البروفيسور الراحل مجلس إدارة جامعة القرآن الكريم وعلومه بأم درمان، وكان من قبل ولا زال إلى ساعة رحيله أستاذ اللغة العربية الأبرز في جامعة الخرطوم وصاحب كرسيها الأول منذ عقود من الزمن ..

استضافَني مرة لأخطب نيابة عنه في مسجده الذي يخطب فيه في بانت فلما سألتُ عنه قالوا هو خرج إلى ( سروراب ) بلدته التي نشأ بها _ ويكثر في السودان إضافة ( آب) إلى أسماء الأماكن نحو( الدروشاب) ( الفتيحاب) ( سامرّاب) أحياء في الخرطوم وضواحيها_ .
فكتبتُ له حينها ملاطفا له:
( سرورٌ آب) أزمانا عديدة
عليكم شيخنا مُددا مديدة

قلتُ البيت متفائلا بهذه الكلمة الجميلة مبينا معنى مستترا فيها، وفي أحد الأعياد أكملتُ على وزن هذا البيت له معيّدا :

( سرورٌ آب) أزمانا عديدة
عليكم شيخنا مُددا مديدة
فأنتم حبر علمٍ قد أفضتم
علوما في معاهدنا فريدة
غذاك الله بالنعماء دوما
وأبقى كلّ أيامكْ سعيدة
وتبقى دائما دوما معافَى
وخصك بالكرامات العديدة
ونظّر قلبكم بالسُّعد يهمي
كغيثٍ جاد بالنعم المزيدة

نشأ الحبر في بيت النجابة، وبزغ في مغرس اللبابة ومن كان أباه البحر الزاخر فلا غرو إن كان صدفة لدر المفاخر، إذا رأيته رأيت الأنوار الباهرة والفضائل الظاهرة ومن محاسن كلماته وغرر أبياته قصيدته الماتعة في شيخه البروفيسر عبد الله الطيب وقد شرحتُها في كتابي” برؤ المريض في استنشاق عبير أنفاس القريض” وحسبي أني قد بذلت شيئا يسيرا من الوفاء إليه والتعريف به وبأستاذه البروفيسر الطيب.

لقد كان رحمه الله عالما مفردا وكاملا أوحدا مع زهادة وعبادة وتقوى عبادة فخر علماء السودان وصدر فضلائهم لاحت من بروج سمائه أنوار بيانه، وهطلت من سحائب علمه غيوث تبيانه فكان حبرا كاسمه فله من اسمه أوفر الحظ والنصيب، وقد جد في طلب العلم حتى غدا من الأكابر.

يعجبك طيب مفاكهته وحسن منادمته ولطيف عبارته ورقيق إشارته طال في الفضل باعه وأشربت حب المعارف طباعه، نشأ في كنف والده وكان والده محبا للقرآن شاعرا ملهما فتأثر بوالده ونشأ من صغره على مائدة القرآن وأخذ عنه علوم الأدب فغدا شاعرا مفلقا وفارسا منطلقا لا يشق له غبار.

استمعتُ للبروفيسور وحضرت له مجالس كثيرة ولقاءات عديدة وفي اليوم العالمي للغة العربية وأذكر أنه في سنة ٢٠١٨م وجهت إليّ دعوة من منظمي الحفل لإلقاء قصيدة فحضرت وإذا بقاعة البروفيسر عبدالله الطيب مزدحمة غاصة بالحضور وكان فارس ميدان ذلك اليوم تلميذه النجيب وخليفته من بعده الحبر إذ أمتعنا بكل جديد وفريد فيا لله ما أجمل بيانه العذب الذي ينفذ إلى القلوب ويسيح في الأرواح فكان يومها بحرا عجاجا وغيثا ثجاجا فلله دره إذ تبدو شواهد العربية في صدره أحكاما مرقومة وسبائك منظومة، وقد رقت كلماته وراقت ودقت وفاقت.

كأنّ سامعها مذ مال من طربِ
بين الرياض وبين الكأس والوَترِ

وفي أحد الأعياد التي عشتها في الخرطوم أذكر أنه وُجّهت لي دعوة لحضور عيدية نظمها مجلس الشورى فقام البروفيسر من بين الحضور فكأنه القمر صعد على المنبر الأزهر فأتى بما هو أغلى وأندر من الكبريت الأحمر وبعد خروجه استوقفته وقلتُ له أريد منك موعدا في شرح وإعراب المعلقات العشر فسألني من صاحب المعلقة الذي أسلم؟ أجبتُ: لبيد قال: اقرأ معلقته.
فافتتحتها ورغم أنه كان حينها في أواخر السبعينيات من عمره إلا أنه ظل واقفا يسمع لي مناقشا شارحا معلقا قرابة نصف ساعة ومرافقوه يشيرون عليّ_ أن أخفف عنه _ وليس لي من حيلة_ ويشيرون عليه بركوب السيارة _ وما له من صبر _ فألفيته جلدا صبورا صاحب همة وعزيمة يزجي كلامه بالطرف وجميل التّحف،متواضعا لطلابه، بشوشا ضحوكا لأحبابه.

يدهشك البروفيسور من قوة استنباطه وإداركه، وفي سعة استشهاده تخاله القمر يسير في أفلاكه، فهو محيط بأشعار الجاهليين شديدُ الشّغَف بها يستشهد بها في كل محفل ويدبّج محاضراته بها ويزين كلماته بعبقعا وقد تضلع منها وتشرب بحبها بسبب تأثره بأستاذه الطيب الذي ما كان يغيب عنه منها شاهد فكانها بين عينيه يأخذ منها ما يشاء وقد ذكرتُ شواهد كثيرة على هذا في مؤلفي ” برؤ المريض في استنشاق عبير أنفاس القريض”.
تقر عيون طلابه برؤيته، وتشتهي نفوسهم شهود طلعته، فالشيخ الحبر آتاه الله لسانا فصيحا فرياض عباراته حياض الشفاء لغليل كل عليل، وغياض إشاراته مرتع الصفاء وأنس الخليل، إذا سمعته وهو يصدح بتفسير القرآن أنست به وخيل إليك من كلامه أنه متفنن دارت شموس الكمالات عليه، وسارت بدور السعادات إليه، وليس قصدي هنا إلا أن أتذكر تلك الأيام التي عشتها مترددا عليه فهو أشهر من أن يُذكر :

من كان فوق محل الشمس موضعه
فليس يرفعه شيء ولا يضعُ

كان نبعا يتدفّق بالعلم، وامتلك ناصية البيان، ورغم سموه العالي كان دوماً هاشاً باشاً متواضعا للصغير والكبير، وقد مُنح القبول بين الناس فأطلّ على الناس عبر الإذاعة السودانية في “سحر البيان” وكثيرا ما نافح عن الفصحى بل هو من كبار المنافحين عنها، وكانت اللغة طيعة له، يقرض الشعر باقتدار فتظنه جاء للتّو من عصر امرى القيس والنابغة وعصر الفرزدق وجرير، يبث في قصائده من روحه فيسمع ويبدع ويمتع ، عالم في الفقه، بحر في التفسير، آية في الأدب، منارةُ الدَّعوة، إمام في الزهد، أستاذ في الإرشاد، صاحب بيان ساحر، وحجة بليغة، نقي السَّريرة وموطَّأ الأكناف، جميل الطباع، حلو المزايا، عذب الحديث، جمع الله له بين إمامة الدعوة، وإمامة اللغة، وإمامة التفسير، وإمامة الخلق، ولا يجتمع هذا إلا في النوادر فهو بحق فلتةٌ من فلتات الزمان.

ومن الحسرات التي لحقت هذا العالم الجليل _ ضياع سفر ضخم في التفسير منه_ فقد أخبرني ولده فضيلة الأستاذ الحبيب أبو راشد محمد الحبر أن صديقا لوالده زاره ذات يوم لمنزله فرأى مع البروفيسر مجلدا ضخما قد أعده وراجعه فيه تفسير سورة البقرة وآل عمران، أو البقرة _ النسيان مني _ فتصفحه هذا الصديق فأعجب بجمال عباراته وبديع إشاراته وحسن سبكه وتأنق نظمه وبلاغة تحبيره فقد سكب فيه الحبر عصارة جهده وأخلص أوقاته وغاية بحثه فطلب هذا الصديق هذا المجلد الضخم لينسخه ويعيده وليس عند البروفيسر نسخة أخرى منه ثم طال الزمن على هذه الاستعارة _ والأصدقاء فئران الكتب كما قيل_ ثم إن البروفيسر نسي اسم هذا الصديق ولم يَعُد الكتاب وظلّ البروفيسر الحبر يتجرع تلك الحسرات عقودا من الزمن وقد يكون هذا الصديق متعمدا إخفاء هذا السفر الضخم من شدة إعجابه به وحسدا لصاحبه عليه، وإن حملناها على السلامة قلنا قد يكون نسيَ هو أيضا أن يرده إليه وضاع في مكتبته أو تلف، وسيرده الله طال الزمن أم قصر فكل حرف كُتب لله لن يضيع فهذا كتاب معاني القرآن ومشكل إعرابه لقطرب تلميذ سيبويه ظل مفقودا لأكثر من ألف سنة وهو أول كتاب في توجيه القراءات وقد عثر عليه أحد الجزائريين فأعاده للحياة وحققه، ومثله كُتب ابن تيمية التي ظل أكثرها مفقودا لمئات السنين حتى جاء من بحث عنها وأخرجها للناس وهذا ظني في الكريم الذي لا يضيع عمل عامل وإن أتى بمثقال الذرة، ولو تفرغ الحبر للتأليف لأتى بما يشبه كتب الأوائل من حسن تأليف وجمال ترصيف لكن بقي مشغولا عمره كله بالعمل الدعوي فهو داعية من طراز فريد تجري الدعوة في لحمه ودمه لا ينفك عنها ولا تنفك عنه، يخطب الجمعة، وفي جدوله لقاء بالدعاة يوم السبت، ويوم الأحد عنده محاضرة، وهو في الاثنين في الإذاعة يفسر القرآن ، ويخرج يومين بقية الولايات وهكذا يمضي أسبوعه في الإجازات، أما أيام التدريس فهو كل يوم في الجامعة وفي المساء أيضا يستقبل الطلاب هاشا لهم باشا لا يشكو السآمة والملل وعلماء ودعاة السودان الجدد أكثرهم زرعه وقطرات نبعه يكفي على سبيل المثالين أن أذكر علمين فقط هم أشهر من نار على علم في السودان الدكتور عبدالحي يوسف والدكتور محمد عبد الكريم أشرف عليهما في رسائلهما الأكاديمية الماجستير والدكتوراه وغيرهما العشرات بل المئات من دعاة السودان فقد فرغ نفسه لطلابه معلما في الجامعة مرشدا لهم في البيت موجها ناصحا حيث يرتادون بيته على ضفاف النيل كمنتجعٍ واسع للنواظر فيه مرتع، وللخواطر منه مستمتع، يأخذون الفصاحة من لفظه، وفنون البلاغة من حفظه، فهو بهذا قد أسهم في صناعة جيل واعٍ مثقف عالم بدينه، بصير بواقعه وفن تأليف الرجال أصعب من فن تأليف الكتب فمن يصنع الجيل يصنع فكرا ويرسم خريطة لنشء الأمة ويضع بصمة تبقى ولا تزول وقد تبقى الكتب في الرفوف يعلوها الغبار وقد يبقى نفعها محدودا ثم إنه من تلاميذك الذين تصنعهم سيأتي من يكتب ويبلغ علمك فالأجر حاصل لا محالة للعلماء المخلصين والدعاة العاملين وطوبى للحبر إن كان من طلابه مثل من ذكرنا .

لقد كان الحبر في التفسير بحر لا يجارى ولا يبارى، وهو العبقري الذي نبغ في الأدب فألقت إليه البلاغة مقاليدها، وخلعت عليه اللغة طارفها وتليدها، إن تكلم لم يترك كلاما لغيره، وإن سار سيرة قلت ما أحسن سيره له قصائد أرفع من الدر قدرا، وأضوع من المسك نشرا ..مع نفس عذبت صفاء، وشيمة ملئت وفاء..
النيل والحبر أجمل ما وجدته في السودان وكلاهما يفوق وصفي فالنيل كنتُ أستمتعُ بتدفّقه الجاري والحبر كذلك، والنيل كنت أرتاحُ لمرآه الصافي النقي العذب والحبر كذلك فكلاهما صافٍ عذب واسع ويتدفق..

النيلُ والحبرُ في السّودان صنوان
كلاهما الفيض يجري دون نقصانِ

فالحبر مثل اسمه يُنبيك مجلسُه
إن فسّرَ الذكرَ دفّاقا بتبيانِ

يجري بعلمٍ كمثلِ النيل منبعهُ
صافٍ، ويقذفُ في جُود بمرجانِ

ولقد حاولت أن أرثيه فقلتُ :
“عَلَيكَ سَلامُ اللهِ (حبْرَ بنَ يوسُفٍ)
وَرَحمَتُهُ ما شاءَ أَن يَتَرَحَّما

وأسبغَ من نعمائهِ غيثَ رحمةٍ
على قبركَ الزّاكي ولقّاك أنعما

وأغدقَ مِن أفضاله كلّ منحةٍ
عليك وجازاكَ الثّواب وكرّما

لقد كنتَ بَحرا لا تكدرهُ الدِّلا
وسيلا عظيما في النّواحي عرمرما

وكنت كبدرٍ مشرقٍ فاضَ نورهُ
تُبدد جهلا عمّ في الأفق مُظلما

عظيما تبوءتَ المكانة مُرتقٍ
مكارمَ آباءٍ وصافحتَ أنجما

وكنتُ كمثلِ النيل صَفوا وموردا
غَرفنا زُلالا منه يشبهُ زمزما

وسِحرُك في ساح البيان مؤثرٌ
كشهدٍ مصفّى كم حسبناهُ بَلسما

لقد كنتَ في سُوح البلاغة بُلبلا
يهيمُ بألحانُ الجمالِ مُرنّما

بصوتٍ رشيقٍ قد صنعتَ بدائعا
على فننِ التّحبير تصدحُ مُلهَما

وكنتَ رياضا زهرُها متضوّعٌ
تفوحُ بهِ الأطيابُ عُودا تضرّما

تفسرُّ آيَ الذكرِ تنشرُ نورها
وتسكبُ للصّادي رحيقا مُختّما

فَما كانَ (حبرٌ) هُلكُهُ هُلكُ واحِدٍ
وَلَكِنَّهُ بُنيانُ قَومٍ تَهَدَّما”

عليك سلامُ الله حيًّا وميتًا
يدومُ دوامَ الخلدِ والأرضِ والسّما

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى