إعادة بناء مفهوم الشهود الحضاري بين التاريخ والحاضر (الجزء الأول)
بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
مقدمة
المفاهيم، رموز تختزل الرؤى، وتدل على التصورات، وتعبر عن الوقائع والعلاقات والأحداث. وهي الأدوات الضرورية لفهم الواقع وتصوره، ومن خلالها تتشكل الرابطة الاجتماعية والثقافية بين أفراد أي أمة. ومفهوم الشهود الحضاري من المفاهيم القاعدية في الإسلام، وهو يشير إلى الوعي الذي يكسبه الإسلام للمؤمنين به ويمنحهم القدرة على إدراك طبيعة قضايا المجتمع وما يؤمن به من قيم وممارسات وعقائد، وطبيعة دور ووظيفة هذا المجتمع فرداً وجماعة في الحياة داخل مجتمعه وعالمه. والقرآن المجيد والسنة المشرفة وتاريخ المؤمنين الذين صدقوا وأتبعوا وصاروا قدوة لنا وسبقوا، هي مصادر هذا المفهوم، ومنابع ترسيخها عبر مؤسسات الأمة المختلفة القادرة.
وقد كان افتقار التكوين الحضاري للأجيال العربية المسلمة لمفهوم الشهود الحضاري، سبباً في “مآلات” ليست محمودة على كل المستويات: المجتمعية والفكرية وصولاً إلى المستوى السياسي داخل أمتنا المسلمة؛ نظراً لما يشكله وجود المفهوم وتمثل الذات المسلمة له، من آثار في الفعل والحركة, تبدت واضحة جلية في غياب المسلمين عن شهود عالمهم والشهادة عليه بعد أن غابوا عن دورهم ووظيفتهم داخل مجتمعاتهم فدخلت عليهم من أقطارها وصاروا مشهودين محتلين.
وقد تكشفت كثير من أمراض الأمة الناتجة عن غياب أو تغييب هذا المفهوم، بعد ثورات الربيع العربي، والتي انقلبت خيبات متوالية بعد بارقة أمل في النهوض بلغت عنان السماء، مظهرة مدى فداحة الخسارة التي منيت بها الأمة في ظل غيابه.
ولذلك، يعد مفهوم” الشهود الحضاري”، في نظر هذه الدراسة، حجر الزاوية في إعادة بناء المجال العام الإسلامي بكافة تجلياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبالطبع الدينية، من أجل تحقيق البناء الجديد للأمة في الداخل، والذي يخرج إنسان الشهود الحضاري ومؤسساته الحاملة لمشروع الأمة للعالمين.
وقد بذلت محاولات كثيرة لإعادة بناء المفهوم في تاريخنا الإسلامي، من أهمها محاولة الإمام أبي حامد الغزالي مجدد القرن الخامس الهجري في “إحيائه” لإعادة بناء المفهوم وإن كان يطلق عليه “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. وتوالت المحاولات خصوصاً في القرن العشرين وبدايات قرننا الحالي لإعادة بناء المفهوم وتفعيله وتشغيله في واقعنا لتحقيق خيرية الأمة وشهادتها على العالمين وإخراجها من جديد وبعثها القادم.
والغزالي وعصره، يمثل في نظرنا محاكاة لعصرنا وزماننا وما يتعرض له المسلمون من تحديات وصعاب، كما أن الغزالي يعد نموذجا استثنائيا وراقيا لحالة القدرة في العقل المسلم على عملية تجديد المفاهيم تلك من خلال كتابه إحياء علوم الدين، حيث شعر بحاجة الفقه الإسلامي لتجديد مفاهيمه وتقديم مفاهيم جديدة ورؤية جديدة للحياة تشكل حياة المسلم اليومية في زمانه تؤهله للنهض من كبوته وكان هذا جزءا من عملية نهوض شاملة تكللت بتحرير القدس.
ولهذا، فإن هذه الدراسة تحاول أن تقترح مدخلا تجديدا لمفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أعاد قراءته وتقديمه الغزالي، ليصير مفهوم الشهود الحضاري في القرن الخامس عشر الهجري على الهيئة التي تجعله يسهم إعادة تكوين الإنسان المسلم وإعداده لتحمل مسئوليات كونه مسلماً التي تؤهله لتحقيق الشهود الحضاري الإسلامي على العالمين.
إشكالية الدراسة
تمثل إشكالية هذه الدراسة، في كيفية إعادة بناء مفهوم الشهود الحضاري. وذلك من خلال إعادة طرح بناء المفهوم انطلاقا من القرآن والسنة وعصر الراشدين ومحاولة الإمام أبي حامد الغزالي والمحاولات الحديثة التي بذلت لإعادة بنائه، حتى تعود العلاقة بين الأمة(الفرد والمجتمع) والدين والعالم، علاقة الانتماء الحق للمنهاج بممارسته كما عرفها الجيل الأول من المسلمين.
أسئلة الدراسة:
السؤال الرئيسي لهذه الدراسة يتمثل في: هل عرفت أمتنا مفهوم الشهود الحضاري كما تطرحه الدراسة، وكيف غاب بعد حضور وما هي أسباب ذلك الغياب؟ وكيف تعامل علماؤنا-ممثلين في الإمام الغزالي- مع مفهوم الشهود الحضاري؟ وما هي آفاق الاستفادة من تراثه وتأصيله لفكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إحياء علوم الدين، لإعادة بناء مفهوم الشهود الحضاري؟ وما هي نتائج آثار جهود علمائنا المعاصرين في بناء المفهوم في عصرنا وكيف يمكن إعادة بناء مفهوم الشهود الحضاري وتشغيله؟ وما هي الآثار التي يمكن أن تنتج عن ذلك فيما يتعلق بإعادة بناء الأمة ومشروعها الحضاري العالمي ؟
منهج الدراسة:
منهج وصفي تحليلي تركيبي. فهو يصف ويحلل وينقب عن مفهوم الشهود الحضاري في بداية نشأة الإسلام، ويحلل كيف تكون ومتى بدأ يتراجع ويضمحل حتى تراجع لصالح مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في صورته التراثية التي وصلت إلينا. وهو تركيبي يحاول تركيب رؤية جديدة لأدوار ووظائف مفهوم الشهود الحضاري تنطلق من منهجية القرآن المعرفية، جهود علمائنا في القديم والحديث لإعادة بناء المفهوم اليوم.
تقسيم الدراسة
تمهيد: نبين فيه إشكالية الدراسة ومنهجها وتقسيمها والمفاهيم الرئيسية فيها.
الفصل الأول: جذور مفهوم الشهود الحضاري.
الفصل الثاني: مفهوم الشهود الحضاري في هبوطه حتى عصر الغزالي.
الفصل الثالث: محاولات إعادة بناء مفهوم الشهود الحضاري.
خاتمة ونتائج الدراسة.
مفاهيم الدراسة
أولاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المعروف: هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات . والمنكر: هو كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف في استقباحه واستحسانه العقول، فتحكم بقبحه الشريعة. وقد أولى القرآن المجيد والسنة المشرفة هذا المفهوم أهمية بالغة في الحث عليه والتأكيد على وجوبه وذكر فضائله والعقوبات المترتبة على تركه.
ثانياً: التراث الإسلامي
التراث الإسلامي، هو مجمل الاجتهادات التي قام بها علماء المسلمين، من خلال تفاعلهم مع القرآن والسنة، في التعامل مع مختلف قضايا الواقع الإسلامي في الماضي.
ثالثاً: مفهوم التجديد
التجديد هو إعادة الشيء أقرب ما يكون إلى صورته الأولى يوم ظهر لأول مرة، والمحافظة كل المحافظة على جوهره وخصائصه ومعالمه وعدم المساس بها. كما يشير حديث” أبو داود “إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدد لها دينها”[1] . التجديد، هنا، هو تجديد فهمنا للدين ليكون كما فهمه رجال الصدر الأول من الإسلام كما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة تبارك وتعالى. فالتجديد هو الابن الشرعي للاجتهاد الإسلامي المحكوم بالشريعة.
رابعاً: مفهوم الشهود الحضاري
نعني بالشهود الحضاري: الرؤية الكلية للكون: إلهه وإنسانه وأشيائه المستمدة من القرآن والسنة الصحيحة الثابتة وتطبيقات عصر الراشدين التي أسهمت في بناء حضارة الإسلام وتقديمه نظاماً اجتماعياً بنى أمة ومهد لنظام عالمي يقوم على العدل والإحسان والكرامة والمساواة بين أبناء آدم. وهو عملية يتمكن المسلم الملم بمكوناتها والوعي بجوانبها من الحضور في عالمه الاجتماعي الإسلامي، فاعلاً أصيلاً في نموه وارتقائه والمحافظة عليه من عوادي الجمود أو التحريف والغلو. والحضور في عالمه الإنساني الفسيح، يخبر عنه خبراً صحيحاً ويخبره خبر السماء الصحيح عن التوحيد ويدل الناس على الخير ويصنع نظاماً إنسانياً يتمتع بالعدل والإحسان ومظلة الأمان لكل أبناء آدم.
الفصل الأول
جذور مفهوم الشهود الحضاري
1-الإنسان والدين
الدين، هو الذي يهب للإنسان الراحة النفسية والطمأنينة القلبية، التي تطلقه حراً متفرغاً لبناء الكون الذي استخلفه الله فيه ليوحده، وليعمر الكون ويبنيه ويحيا حياة طيبة فيه. ويعد الدين، بالمقارنة بباقي المذاهب والفلسفات الوضعية، الإجابة الوحيدة الممكنة الأكثر تأثيراً في تاريخ الإنسان على سؤال وجوده على الأرض: من أين؟ وإلى أين؟، وهو القادر بحسب ما يخبرنا التاريخ الإسلامي على بناء شهود حضاري مؤمن للإنسان على الأرض. فالدين، كما يقول مالك بن نبي، “يخلق نظاماً اجتماعياً يستحيل فيه الفرد إلى أفراد كثيرين، فالعلاقة الروحية بين الله وبين الإنسان، هي التي تلد العلاقة الاجتماعية، وهذه بدورها تربط ما بين الإنسان وأخيه الإنسان[2].
والدين، أيضاً، يبين أن العلاقة بين الله والإنسان عهد، ودوره على الأرض شهادة بدأت منذ خلق الله آدم وأوقفه وذريته في عالم الذر، وعاهدهم على أن يبقوا أوفياء لعبودتهم له وأشهدهم على أنفسهم، فكانت تلك أول شهادة شهدها الإنسان على نفسه وجماعة الإنسان كلها على نفسها أمام الله. وعبر هذه الشهادة مارس آدم وذريته الخلافة في الأرض.
ومنذ أن هبط آدم وزوجه من الجنة، وزودهما الله بالهدى الإلهي حتى لا يضلا ولا يشقيا، اختلف البشر من أبنائه إلى فريقين: المؤمنون الموحدون، الذين يورثون أبنائهم قيمهم وأخلاقهم ومثلهم، التي لا قيام لمجتمعاتهم من دونها، وفي القلب منها شهادتهم أنهم موحدون. وفريق الذين كفروا أو أشركوا ممن نسوا الله وتخلوا عن شهادتهم بالتوحيد، الذين أورثوا أبنائهم قيمهم السلبية المؤدية للشرك والكفر.
ومع تطور الزمن وارتقاء الإنسان في الحضارة وتوسعه في العمران وسياحته في أرض الله مكوناً القبائل والشعوب والأمم، تطور مفهوم الشهادة وتوسع، واختلف من ديانة لأخرى على طول مسيرة الكبار من أبناء آدم الذين اصطفاهم الله تعالى من الأنبياء والمرسلين ليبلغوا رسالاته للناس.
فالأنبياء والرسل، قد تحققوا بمعاني الشهادة-كل حسب طبيعة وحدود رسالته التي أرسل الله بها- وقاموا بتربية أتباعهم عليها، فألقوا في قلوبهم وعقولهم قوة نفسية إيمانية جعلتهم يدركون سمو الغاية التي يرفعهم إليها إيمانهم الجديد وأنهم شهداء على عالمهم. وقد ورث المؤمنون عن الأنبياء والرسل، مفهوم الشهود الحضاري، وطبقوه بأشكال وأدوات مختلفة بحسب مقتضيات الزمان والمكان وتطور عقل الإنسان، حتى أخرج الله للناس خير أمة، كان شعارها وواقعها الشهود على العالمين رحمة من الله ورأفة بهم.
2-وجاء الإسلام رحمة للعالمين
جاء الإسلام على حين فترة من الرسل والأنبياء، تخللتها انتكاسات عديدة للإنسانية على المستويات الروحية التي تبني الحضارة وتحقق للإنسان الهدى والأمن والسلام على الأرض، وتراجع خلالها مفهوم الشهود الحضاري واختفى مع تخلي حملة الديانات السماوية عن أدوارهم الحقيقية داخل وخارج مجتمعاتهم.
فاليهودية، صارت ديانة منغلقة على ذاتها، والنصرانية انقسمت على نفسها فرقاً ومذاهب، واهتمت بالدرجة الأولى بالخلاص الفردي ورعاية خراف بني إسرائيل الضالة، والبرهمية والبوذية والزرادشتية الوثنية كلها مع وثنيات العرب كانت تقدس النسب والسلالة الطبقة، ولم يكن لديها شيئاً تقدمها لأهلها حتى تقدمه لغيرها.
ومن هنا، جاء الإسلام، باعتباره خاتمة رسالات السماء للأرض، ليجدد مفهوم الشهود الحضاري ويعطيه جوهره ومداه النهائي حتى آخر الزمان. فالإسلام، هو خلاصة ثمار السماء للأرض، ووراث زرع الأنبياء والرسل على مدار تاريخ البشرية الذي نعرفه وما لم نعرفه. وقد جاء ليجدد رسالات السماء، ويضع اللبنة الأخيرة في بناء التوحيد الذي يتحقق به للإنسانية ما غاب عنها في غالب رسالات السماء السابقة: الأمة الخيرة النموذج في الاستقامة الدينية والمثل الأعلى في العمران الحضاري من ناحية، والمتحققة بالبعد العالمي الحامل لرسالة التوحيد للعالم، والمؤسسة لنظام إنساني قائم على العدل والإحسان وكرامة الإنسان من ناحية أخرى.
3-القرآن ودوره في بناء المفهوم
القرآن المجيد، هو تعبير عن الدين بمفهومه الشامل، كما تلقاه آدم عليه السلام من الله تعالى في الملأ الأعلى هدى ونور، ليحيا على الأرض حياة طيبة آمناً مطمئناً وهو وأبناؤه من بعده. فقد حوى القرآن قاعدة ربانية مستقيمة تهدي الإنسان رؤية شاملة للعالم، تمكنه من تحقيق شهادته لله بالتوحيد وشهوده الحضاري بالعمران. يقول الله تعالى عنه: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أمرنا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الاِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ”[3]. ولذلك، كان نزول القرآن، بمثابة حياة وبعث جديد لأمة العرب المصطفاة لحمل رسالته ولإنسان العالم أجمع من بعدهم.
والقارئ لتاريخ صدر الإسلام، سيجد أنه ما إن نزل الوحي، حتى تغير كل شيء في حياة المسلمين الأوائل، الذين تلقوه فرحين. فقد أوقظ القرآن، الفكر الغافي وأقامه على صراط الله المستقيم، ففتح الأبصار والأسماع والأفئدة لتتلقى الرسالة الجديدة وتحمل القول الثقيل وتبليغه للعالمين. وقد انعكس نور القرآن على نفسية وعقلية وحياة الإنسان المسلم، في شكل أفكار وتصورات قلبت نظام حياته وعالمه. فالفكرة القرآنية، زودت الحركة الاجتماعية للإنسان والمجتمع المسلم بمحور الارتكاز المتمثل في مفهوم “الشهود الحضاري”.
والشهود الحضاري، يقدم -كخطاب قرآني-، على أنه جزء من ميثاق الفطرة والتوحيد المنعقد بين الله والإنسان، والقائم على استخلاف الإنسان بهدف تحقيق العبادة لله، والعمارة للكون اللتين يتحقق بهما الحياة الطيبة للإنسان في الدنيا والآخرة. قال تعالى :”كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله”[4]، فالخيرية هنا خيرية شاملة للدين والدنيا والآخرة.
ويقول تعالى، مخاطباً المؤمن الجديد: “وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ”[5]. ويقول، أيضاً، جل في علاه: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”[6].
ويقول سبحانه وتعالى: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ”[7] ويقول تعالى :”وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم”[8]
ومع كل تلاوة للوحي وآياته يصعد مفهوم الشهود الحضاري درجة للأعلى في قلوب وعقول الجيل القرآني الفريد يتميز الوحي بكونه المصدر اليقيني الأوحد لإدراك الأشياء على حقيقتها بشكل منزه عن الخطأ. ويقدم الوحي معارف متنوعة؛ معرفة تتعلق بالغيب، وأخرى تتعلق بالقوانين الطبيعية في الكون، وثالثة تتعلق بالسنن الحاكمة للوجود الإنساني، ورابعة تتعلق بنظام الحياة الإنسانية ومنهجها القويم. كل ذلك حتى يوقظ تلك العقول والقلوب ويقيمها على صراط الله المستقيم، ويحققها بالشهود الحضاري.
وقد تولدت خلال 23 عاماً من دعوة الإسلام، معان حياة جديدة، وتجددت معان للحياة درست مع تحريف الدين من الأمم السابقة. فتوجهت قوى هذا الجيل القرآني الفريد، لبناء أمة جديدة تعلم أن الله خلق ما في الأرض جميعاً لكل الناس بالسوية، وأن العدل حق لكل إنسان كما الحرية والكرامة والحياة الطيبة، فتولدت فيهم قوى إيمانية دافعة لا حدود لها، فخرجوا من جاهليتهم ومن ظلامهم مسرعين، وطفقوا يجوبون الأرضين ليخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، متسلحين برؤية كونية حضارية لتحقيق الشهود الحضاري بين العالمين.
والقرآن يولد فكرة الجماعة/الأمة المفتوحة المتجددة باستمرار التي تطمح في أن ينضوي تحتها كل ابناء آدم عبر التعاون وتحقيق العدل يغمرهم حب الله ورسوله ورعايته وعنايته. فمع نزول القرآن وتكون الأمة المسلمة، لم تعد فكرة الجماعة الإنسانية المفتوحة والمنفتحة على كل أبناء آدم والقائمة بشهادتها عليهم بميزان التوحيد العادل، حلماً يوتوبياً يحلم به البعض، أو أملاً يتعلق به الكثيرون ويتحقق في آخر الزمان، لا، ولكنها صارت حقيقة تجسدت بالفعل في التاريخ خلال ربع قرن من ظهور الإسلام. وكانت تسير نحو تحققها الكامل وتمامها، لولا ما اعترضها من تغيير وتبديل ممن حملوا الفكرة بعد الجيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع نزول القرآن، بزع عصر “الإنسان” وبنى القرآن المجيد أمة الإسلام منذ أربعة عشر قرناً. وأخرج للعالم جيل فريد في تكوينه النفسي والعقلي، استطاع أن يفتح قلوب العباد قبل المدن والبلدان خلال ربع قرن من الزمن، وتمكن من إيصال الحق إلى الخلق، وإعادة بناء صورة الدين في حلته البهية التي تنزل بها من عند الله، ورسم للعالمين طريقاً واضحاً نحو إلههم وربهم، وعبد لهم السبيل نحو حياة حرة كريمة تليق بالإنسان المكرم من رب العالمين.
4-الرسول الشهيد الشاهد
كانت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وتعاليمه، وتصرفاته وقراراته اليومية الحاسمة، طيلة 23 عاماً في مكة ومدينته المنورة، نبراساً هادياً لبناء معالم الإنسان الشاهد، حتى غادرها تاركاً إياهم على المحجة البيضاء، بعد أن علموا وعملوا وأيقنوا أن: المؤمنون إخوةٌ، وأن العباد كلهم إخوة، وأيقنوا إن ربهم واحد، وإن أباهم واحد، كلهم لآدم، وآدم من تراب، وإن أكرمهم عند الله أتقاهم، وأنه ليس لعربي على عجمي فضلٌ إلا بالتقوى[9].
فقد نجح الرسول-صلى الله عليه وسلم-، في بناء الجماعة المترابطة، بين عرب الجزيرة العربية المسلمين، وردهم إلى فطرتهم في جانبها الاجتماعي السليم، فعلموا أن الناس كلهم إخوة، وأنهم سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين أبيض وأسود ولا أحمر، إلا بالتقوى والعمل الصالح.
وقد مكث النبي-صلى الله عليه وسلم-، عشر سنوات في المدينة، فأرسى بين المؤمنين دعائم المجتمع الشاهد الراشد، يقوم كل قرار فيه على الشورى،. وأنشأ مجتمعاً، يقوم بذمته أدناه، ويأخذ الضعيف فيه الحق من القوي غير متعتع، ولا تفاضل فيه إلا بالتقوى والعمل الصالح، ولا فضل فيه لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ولا لأبيض على أحمر، ولا مكان للفساد، أو الاستبداد السياسي فيه، أو لنخب تهيمن على مجموع الأمة وتحكمها.
وإن نظرة على أحوال هذا الجيل القرآني الفريد، تؤكد لنا، كيف نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال مؤسسة المسجد، عبر ما كان يقام فيه من عبادات؛ أولها الصلاة، متضافرة مع مؤسستي الأسرة والقبيلة، في جعل أبناء المدينة، يجتمعون على هوية واحدة، ويتعاملون بنهج واحد، ويتطبعون بصفات وقيم مشتركة، ساعدتهم على التوحد بعد الفرقة، والقوة بعد الضعف، وبنت بينهم رؤية مشتركة، جعلت البدوي الضارب في الصحراء، يبحث عن عشب أو كلأ أو ماء يعيش عليه، يخرج واثقاً في رسالته الجديدة، ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الأرض إلى سعة السماء، ومن جور الحكام إلى عدل الإسلام[10].
وإن دراسة ما قام به رسولنا الكريم، من خلال مؤسسة المسجد، وعلّمه لأصحابه طوال هذه المدة، ترينا أنه قدّم هدية للعالم، وقدّم تربية من أجل “حياة أفضل”، تقوم على هوية متماسكة، لأمة واحدة، تحمل هوية عالمية، ذات قيم عملية راقية تؤسس لثقافة سلم عالمي حقيقي.
5-رحمة الله للعالمين
وبمجرد ما بدأت معالم الإسلام تكتمل ودولته تستقر في الجزيرة العربية وتهدأ أهم القوى المناوئة لها متمثلة في قريش، حتى سارع صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من الحديبية بعد إقرار الهدنة مع قريش لمدة عشر سنوات، في البدء في المرحلة العالمية من الرسالة والتي جاء أوانها. مصداقاً لما علمه ربه وأمره ببيانه وتنفيذه في كتابه الكريم: قال تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا”[11].
وقوله تعالى: ” فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ”[12] وكذلك قوله سبحانه: “إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ”[13]. وقوله جل في علاه” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”[14].
وقوله تعالى: “وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ”[15].
وقوله تعالى: “قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”[16]. وقوله تعالى: “لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ”[17]. وكذلك قوله تعالى :” يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ”[18].
وطرح رسول الاسلام قضية دعوة الملوك والامراء الى الاسلام، على أصحابه، كجزء من مسئوليتهم المشترة عنها، فقال صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس إن اللّه قد بعثني رحمة وكافَّة فلا تختلفوا عليَّ كما اختلف الحواريّون على عيسى بن مريم”. فقال أصحابه: وكيف اختلف الحواريون يا رسول اللّه؟ قال: “دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلم وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل”[19]. ثم اختار صلّى اللّه عليه وسلم ستة أشخاص من خيرة أصحابه وكتب معهم كتباً إلى الملوك تضمنت دعوته العالمية، وبعثهم إلى مختلف بقاع الأَرض الممكن للعرب الوصول إليها في ذلك الزمان.
6-الصحابة وتمثل المفهوم وتطبيقه
شخصيات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، تختلف أصولهم الاجتماعية وأوضاعهم الاقتصادية، ويتنوعون بين النساء والرجال. وقد اختلفت حظوظهم من العمل للإسلام ما بين حاكم ومحكوم، وتنوعت أدوارهم في مختلف أطوار حياتهم، لكن ما يجمعهم أنهم جميعاً أدوا ما عليهم وسألوا الله ما لهم، فلم يبخلوا بجهد أو مال أو مقدرات في سبيل بناء صرح هذا الدين وأمته المسلمة. فكيف تحول كل واحد من هؤلاء الصحابة أفراداً وجماعات، من مجرد مشروع فتى مبرز في قومه، أو عبد مطيع لسيده، أو زوجة فاتنة في بيت زوجها، أو أمة مرهونة بيد مالكها، أو قبيلة قوية أو ضعيفة في محيطها، إلى مثال أعلى لزمانه وغير زمانه؟
لقد كان أكثر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلمون شيئا عن معنى حياتهم ولا ما يدور في علمهم فعلمهم القرآن والرسول معنى حياتهم، واطلعهم على دورهم ووظيفتهم في عالمهم. ويعود الفضل في ذلك لتمثلهم وإيمانهم بدورهم الحضاري وشهودهم على العالمين. فقد استيقظت أرواحهم على هذه الرسالة التي حباهم بها الإسلام، ونجح القرآن في استرداد فطرتهم الطبيعية حتى عادت “فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أثر الناس لا يعلمون”[20] فتحققوا بشهودهم الحضاري.
وإن الدارس، للحظة ميلاد المجتمع المسلم، منذ أكثر من خمسة عشر قرناً من الزمان، سيجد نفسه أمام حقائق لا يمكن نكرانها. فقد كانت الثلاثة وعشرون عاماً البانية في عمر الإسلام في مكة والمدينة، هي التي كونت وأهدت للبشرية ولأمة الإسلام، أغلب رجالات الشهود الحضاري الذين مازالوا وسيظلوا المثل الأعلى لكل من يروم تحقيق الشهد الحضاري في خاصة نفسه وفي عموم أمته.
وقد أنبئنا تاريخ الإسلام وفتحه الباهر للعالم، أن هؤلاء الرجال والنسوة كانوا لديهم من الرؤية والتربية الإسلامية التي أهلتهم لما وصلوا إليه من تصور صحيح للحياة والوحدة الإنسانية المنبثق من التوحيد القرآني.والتي أسست لبناء مجتمع السلم والحلم والعلم والإبداع الذي كان النواة والقاعدة المتينة التي على أساسها انداح الإسلام في قارات العالم القديم محدثاً في أقل من قرن ما عجزت امبراطوريات توسعية عن تحقيقه في سبعة قرون.
ثلاثة وعشرون عاماً تساوي 365 يوم مضروبة في 23 سنة تساوي ما يقارب 7000 يوم في حياة الرسول ومن آمن معه يؤمنون بالله وملائكته وكتبه وبرسله وباليوم الآخر ويجاهدون في سبيله بأنفسهم وأموالهم، تكونت فيها تلك النفوس وترابطت وعلت وسمت على تفاهات الحياة اليومية وصعوباتها ومنغصاتها ومغرياتها التي نعيشها ونراها في زماننا. فاستطاعوا أن يوازنوا بين متطلبات عيشهم اليومية واحتياجات بيوتهم وتطلعات نفوسهم وصعوبات حياتهم وبين مثلهم العليا، وأخرجوا لنا الجيل الذي تلاهم والذي حمل الإسلام للعالمين، من خلال تمثلهم لمفهوم الشهود الحضاري الذي منحهم رؤية شاملة للكون مدتهم بهذه القوة الهائلة التي أخرجتهم من ضيق أنفسهم وجزيرتهم إلى سعة الجماعة والأمة والإيمان ليسعوا العالم من حولهم في زمانهم ويحتووه.
7-مؤسسات تحقيق الشهود الحضاري في العهد النبوي
بذرة المؤسسية، منثورة في كل لحظات زمان العهد النبوي وتصرفاته، من بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وبيت الأرقم بن أبي الارقم في مكة، حيث تعلم المسلمون قيم الإسلام، وانغرست فيهم قيم الجماعية، مروراً ببيعة العقبة الثانية، واختيار مؤسسة النقباء الإثنا عشر من الأنصار ليكونوا على شئون قومهم، ومؤسسة مصعب بن عمير وعبد الله بن مسعود التي فتحت المدينة بالقرآن وعلمت أهلها مبادئه في مسجد قباء، حتى كتابة الصحيفة بين أهل المدينة من المسلمين وغيرهم من اليهود والكافرين، مروراً بالمسجد الجامع، الذي كان نواة كل المؤسسات التي ابتكرها هذا المجتمع من: الكتاتيب لتعليم الأطفال، وحلقات العلم، ودروس الرسول اليومية، وكل ما يلم بالمجتمع من قضايا يناقشه أبناء المجتمع في حوار مفتوح لكل أبنائه دون تفرقة، ومشاورات جماعة المسلمين فيه في كل أمورهم، ومجلس العشرة ومجلس السبعين، والستة الذين اختارهم لتبليغ رسالته لملوك الأرض في زمانه، وغيرها من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تقوم على رعاية مصالح المسلمين وتؤهلهم لحمل رسالة الله للعالمين.
فالإسلام عندما جاء، أكد على ضرورة التنظيم المؤسسي والجماعي للأمة، من أدنى صوره إلى أعلاها، وأعاد تشكيل فكر العربي المسلم وتحول به من حكم الفرد أو العائلة أو الصفوة، إلى حكم المؤسسات الاجتماعية الممثلة للإرادة العامة[21]. وأكد، على أهمية الجماعية والمؤسسية في العمل، عندما خاطب المؤمنين دائماً، ولم يخاطب الفرد المؤمن وحده، محملاً الجميع مسئولية بناء مؤسسات الأمة، القادرة على تحقيق أهدافها ومثلها، مشدداً على دور الطائفة القائمة بأمر الله في كل المجالات،: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ[22]. ومعلياً من قيمة التخصص، في كافة مجالات الحياة المادية والمعنوية، حتى تحتفظ الأمة بعافيتها وقدرتها على القيام ، بواجباتها: قال تعالى:”وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ وَيَأْمُرونَ بالمَعْروفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَر وأولئك هم المفلحونِ”[23].
فالدين الإسلامي، هو الذي قدم للإنسانية، أول مجموعة مؤسسات كونت أمة، وعدل مؤسسات زمانه لتتوافق مع مفهوم جديد للحياة، يقوم على أن أدنى المسلمين يقوم بذمتهم، وعلى أن الانتماء للأمة وللإنسانية لا يكون إلا بالاهتمام بأمورها والنصح لها.
وعالج هذا الدين الخاتم، عبر هذه المؤسسات عناصر التشوه والتشرذم، الذي حدث في فهم الناس لاجتماعهم الإنساني، وتعامل معها، واستطاع أن يجمعهم على هوية واحدة، وأخرج منهم أمة واحدة، وسيظل قادراً على إخراج تلك الأمة” لا تزال طائفة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس[24].
ومن خلال المؤسسات، التي قام عليها هذا البناء، والمتمثلة في: المسجد كمكان للشورى، والبت في أمور المسلمين، ووثيقة المدينة التي تعد الدستور السياسي لأهل المدينة، ومؤسسة الشورى المكونة من المهاجرين والأنصار، ومؤسسة السبعين ومؤسسة العشرة، والنقباء الإثنا عشر، ورؤساء القبائل، تم تأهيل أبناء المجتمع الأول للمسلمين ليكونوا عناصر نافعة لمجتمعهم وقادرة على قيادته وإدارة شئونه في الاتجاه الصحيح: حكاماً، ومحكومين، وأن يقوموا بمهامهم في: الاستخلاف، والشهود الحضاري بين العالمين من إخوتهم من أبناء آدم.
فقد تم خلال السنوات العشر، التي قضاها الرسول في مدينته، وعبر المؤسسات الجديدة للأمة، بناء وعي أبناء الأمة الحضاري، على الهيئة التي بنت كيانها الجديد، حيث نشأت علاقة انتماء جديدة، علاقة انتماء إلى أمة، أنتجت علاقات جديدة ومفاهيم جديدة من أهمها مفهوم الشهود الحضاري. وقد نجحت تلك المؤسسات، في المجتمع الإسلامي الأول، في بناء الثقافة والوعي لدى المسلم الجديد، وتجذيرها في بنية المجتمع وأفراده، وإعداد حملة الرسالة الجدد، وتهيئة نفوسهم، لحمل الرسالة وبناء المجتمع الجديد، خلال ما يقارب الربع قرن.
فقد كانت مؤسسة المسجد، تتسع لجميع أبناء المجتمع الرجال والنساء، وكانت تلك المؤسسة، تعمل ليل نهار، ولا تكتفي بدروس الرسول الكريم، فقد ثبت أن عبد الله بن رواحة ومعاذ بن جبل، كانا يتوليان في المسجد مهمة تعليمية وتربوية، بعد أن يغادرهم النبي صلى الله عليه وسلم[25].وكان الرسول، يخصص يوماً للنساء لتعلمن أمور دينهم، ويتحققن بهويتهم الإسلامية، ويتشبعن بالقيم الجديدة التي يبثها القرآن فيهم[26]. كما تدل رواية أخرى، أن فترة الصباح بعد الصلاة في المسجد، كانت فترة تعلم وتعليم في المسجد: فقد ورد في السيرة أنه “كان المسلمين، إذا صلوا الغداة، قعدوا حلقاً حلقاً، يقرأون القرآن، ويتعلمون الفرائض، والسنن[27].
وقد كانت مؤسسة المسجد النبوي، في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مركز الإعلان عن قيم وهوية المجتمع، الذي احتضن الجيل الأول من المسلمين أبنائهم، طوال سنوات عشر قضاها بينهم الرسول الأمين، يعلمهم قيم دينهم ومعالم هويتهم الجديدة، التي تؤهلهم ليشهدوا على العالمين.
وكان توفير الأمان الجمعي لكل افراد المجتمع هو ما أدى إلى نهوضه وتحققه في التاريخ فلم يعد الأمر موكولاً للفرد في مجتمع طبقي يرتب أفراده في سلم تفاضلي يصعب على الغالبية أن تجد لها مكاناً محترماً.
وفي مجتمع المدينة، تم تربية الإنسان المسلم، عبر مؤسسات الأمة المختلفة من: الأسرة إلى المسجد الجامع إلى الكتاتيب وحلقات العلم، ومؤسسة القضاء وغيرها من المؤسسات، على التحكم في الطباع التي تنزع بالإنسان إلى الظلم ومنع الحقوق. فقد كانت مؤسسة المسجد[28]، والتردد عليه يوميا،ً عملية إدماج للإنسان المسلم” في شبكة اجتماعية، من خلال عملية تنحية، وهو في الوقت ذاته عملية انتقاء، إذ يجد الفرد نفسه متخلياً عن عدد من الانعكاسات المنافية للنزعات الاجتماعية، ليكسب مكانها أخرى أكثر توافقاً مع الحياة الاجتماعية. فهو عملية تنحية، تجعل الفرد لا يعبأ ببعض المثيرات ذات الطابع البدائي(كتلك الحمية التي كانت تعتري عرب الجاهلية وتدفعهم إلى الأخذ بالثأر)، وهو عملية انتقاء أو إحساس، تجعل الفرد قابلاً لمثيرات ذات طابع أكثر سمواً، طابع أخلاقي أو جمالي مثلاً.
وكانت المؤاخاة الفعلية العملية، بعد أخوة الإيمان العقيدية، هي الركيزة التي قام عليها أساس المجتمع الجديد، فكانت مثل الأخوة النسبية في مترتباتها من: نصرة، وتعاون، وتكافل، وإرث، ويزيدها الإيمان عمقاً وقوة.
وقد تم تأهيل مؤسسة القبيلة، لتكون سداً منيعاً، في وجه أي محاولات لبذر بذور الشقاق داخل المجتمع المسلم، سواء من داخلها أو من بعض العناصر المنتمي للأمة لكنها لا تبغي لها خيراً حسداً من عند أنفسهم.
ولو قارننا، أخيراً، بين حال النفر من أهل يثرب، من الخزرج ، الذين عرض عليهم الرسول الإسلام في مكة، فقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك[29]، قبل هجرته إليهم صلى الله عليه وسلم، حيث كانت يثربهم تموج بالفتن والحروب والأحقاد الداخلية والخارجية[30]، بحالهم بعد هجرته، حيث نقلت “الصحيفة” أهل المدينة، من أجواء الحقد والكراهية والتفرقة العنصرية والقبلية، إلى أجواء الاحترام المتبادل، والتسامح الديني، والتعايش السلمي، والتعاون على البر دون الإثم، والمساواة[31]، حيث نص البند رقم 39 منها، على أن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. فالنص صريح في تحريم الحروب والقتال بين القبائل والعشائر، وتثبيت السلم في المدينة[32]. فتحقق التماسك الاجتماعي وتقوية شبكة العلاقات الاجتماعية مما أدى لتهيئة هذا المجتمع لاستكمال معنى إسلامه المتمثل في الشهود الحضاري على العالمين.
وقد نعم هذا المجتمع بالأمان والسكينة المجتمعية، من خلا ما قام الرسول-صلى الله عليه وسلم، بعقده من معاهدات كثيرة مع عرب الجزيرة العربية، لنشر الأمن والسلام وتبليغ منهجه الرباني المبشر بالخير للناس في دنياهم وأخراهم، ولم ينقض عهداً عاهده مع فئة منهم, وعلى الرغم من أن كثيراً من أعراب الجزيرة كانوا يخونون العهود، إلا أنه صلى الله عليه لم يبادلهم خيانة بخيانة أبداً[33].
فمؤسسة الأمة، هذا الكيان المتميز بخصائصه ومقوماته وتنظيماته، والتي تدعم وحدتها المتمثلة في: وحدة العقيدة والشريعة واللغة، هي الأصل والمرجع في الإسلام، ومنها تنبثق كل مؤسسات الجماعة المسلمة. ولذلك كانت الجماعة، التي تمثل الأمة المسلمة، حسب التصور القرآني، هي الحافظة لقيمها، والراعية لاستقامة السلطان والحكومة التي تنوب عن المسلمين في رعاية والقيام على مصالحهم، والمؤدية لتحقيق مجتمع المؤمنين والمؤمنات الذين هم أولياء بعضهم البعض.
فقد خاطب القرآن، أمة المؤمنين قائلاً :” ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون”[34]، ثم وصفهم بقوله تعالى “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر”[35]، ووصف المؤمنين بأنهم “يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك من الصالحين”[36]. وهذا ما يشير إلى أن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي مسؤولية الجماعات والأفراد، التي يجب أن تكون منظمة كالبنيان أو الجسد الواحد، وهو ما يشير إلى فكرة المؤسسية وإلزاميتها في الإسلام.
وقد كانت مؤسسات الأمة تلك، هي التي أسهمت، جميعها، في بناء وعي أبناء الأمة السياسي والاجتماعي الثقافي: جمهور الأمة، ونخبها وكوادرها، بدءاً من مرحلة الطفولة، مروراً بالشباب والمرأة ، عبر تدريب كل أبناء المجتمع على الممارسة الحياتية السليمة والمشاركة الإيجابية في صنع حاضر ومستقبل الأمة، مما كان له أكبر الأثر في إخراج هذا الجيل الفذ من القادة، الذين حملوا رسالة الإسلام للعالمين، ومؤسساتهم التي حملت حضارتنا ومجتمعاتنا حتى اليوم.
وهذا المجهود الضخم، هو الذي جعل توسع الإسلام الكبير والمذهل، سهلاً ميسوراً على المسلمين، فقد تكونت النواة الصلبة للمجتمع: نخبه التي لازمت قواعده المجتمعية، ولم تتخل عنها لحظة، والتي بنت مؤسساته، التي تحفظ حيويته الدائمة في اتصالها بالنص المؤسس القرآن، وفي تقديم العلم والمعرفة والسعي إليهما بكل السبل، ورفع وعي الناس لطلب العلم ولو في الصين. فولد المجتمع القوي، ومن ثم كان النظام السياسي القادر على تحقيق العدل، عبر توازن مؤسسات جماعته مع سلطتها التنفيذية. فقد نجح هذا المجتمع الجديد، في النمو والاستمرار والتوسع، وتحقيق الاستقرار، وبناء حضارته الجديدة.
8-جهاز مفاهيمي جديد
يعلمنا تاريخ الأفكار المؤثرة في الإنسان، أنه لكي يسود أي اتجاه فكري لا بد من تقديم جهاز مفاهيم يكون مقبولاً ومتوافقاً مع أحاسيس وفطرة معتنقيه، ومنسجماً مع قيمهم ورغباتهم، وأن يكون متوافقاً أيضاً مع الإمكانات القائمة في العالم الاجتماعي الذي يعيشون فيه. فإذا كان هذا الجهاز ناجحاً يصبح متأصلاً في فطرتهم السليمة ويسلم به ولا يكن عرضة للشك، ويؤهلهم لأداء أدوارهم ووظائفهم التي يوجبها عليهم .
وهذا ما فعله الإسلام بنجاح غير مسبوق، فقد اتخذ كرامة الإنسان وفطرته وبراءته الأصلية وميثاقه الأزلي مع الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشهادة على العالمين مثله العليا التي عليها تم تربية وإخراج الجيل القرآني الفريد في تاريخ عالمنا خير أمة أخرجت للناس.
فقد خلق من عرب الجزيرة الذين آمنوا به وبرسوله خلقاً جديداً من خلال جهازه المفاهيمي الجديد الذي نفثه في روع هؤلاء البشر من خلال القرآن والرسول. وإلا كيف نفسر النجاح الذي لاقته دعوة الإسلام وانتشارها المبهر خلال برهة قصيرة من الزمن في قارات العالم الثلاث.
فقد حقق نظام الإسلام الاجتماعي، نظام شراكة مجتمعية فريداً في التاريخ بين أبناء مجتمع المسلمين، في زمن النبوة المعصومة والخلافة الراشدة. وليس هذا فحسب، لكنه، أيضاً، انتزع العربي ومن وراءه من العالمين، من روح الفردية والقبلية والأنانية، إلى روح الجماعية التي تعتنق نظرة شاملة للحياة والكون والإنسان؛ تقع الشراكة بين المؤمنين وغير المؤمنين من أبنائها في قلبها، وقيم التعارف والتلاقي والجماعية هي نبراسها وهديها في تعاملها مع العالمين، حيث تقوم برسالتها وتحقق شهودها الحضاري، الذي يهدف للسلم العالمي الذي يدخل فيه الناس جميعاً، فينتفي الإكراه ويكون الدين كله لله.
فقد جعل هذا النظام، من الإيمان المشترك، أساساً للتضامن الاجتماعي بين أتباعه، من خلال رابطة “الأمّة” التي تجمعهم: “وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ”[37]. فالمجتمع، في الإسلام، جسد واحد متكامل، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. والشعور بالمسؤولية عن الأمة والاهتمام بأمرها، هو المعلم الرئيسي للانتماء لهذه الامة، وهو واجب وفرض على جميع أبنائها، حتى تتحقق خيريتها ورساليتها وشهودها على العالمين.
وقد حضَّ الإسلام، جميع أبناء الأمة، على التعاون فيما فيه خيرها، وحثهم على التعاون مع باقي الأمم، فيما يحقق البر والتقوى وينهى عن الإثم والعدوان، فقال تعالى “وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوانِ”[38].وجعل ولاية المؤمنين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المظهر الرئيسي لكمالهم كجماعة مؤمنة قائمة بالحق: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”[39].
كل هذا حتى تتهيأ البيئة الداخلية في الأمة لترث مهمة الرسول العالمية بين العالمين ونشر رحمة الله لكل أبناء آدم، لكونها العملية التي تخلق الإحساس المشترك بالجماعة، وتقوي دافعية أبنائها للذود عنها، كما أنها الإسمنت الذي يمسك لحمة المجتمع، ويوحده تحت سلطة واحدة يرتضيها كافة أبناء المجتمع، يمكنها أن تقوم برسالتها بين العالمين.
فالإسلام، رسالة شاملة، لا تتحقق إلا من خلال الأمة وشراكة أبنائها جميعاً من ناحية، وشراكة الأمة مع العالمين في حلف فضول إنساني رحماني من ناحية أخرى. ولهذا يجد الناظر في كل تشريعات الإسلام وعباداته، أنها تنزع للشراكة والجماعية، حتى في أخص علاقات الفرد مع ربه؛ فيما يدعو به في صلاته وفي صيامه وحجه، فكل دعاء المسلم جماعي، ومعظم العبادات جماعية، وتحتاج إلى التنظيم الجماعي للقيام بها على خير وجه.
وهي العملية التي نطلق عليها، الشهود الحضاري. فالشهود الحضاري، هو ما يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عالميا، ويجعل الإنسان المسلم وارثا حقيقيا لرسالات الأنبياء والمرسلين ومكملا لها من خلال بعده العالمي.
9-إنسان الشهود الحضاري
وقد جاء الإنسان المسلم الذي صنع على عين الله وعلى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجسد معنى الشهود الحضاري، وليمكن الإنسانية من تحقيق رسالتها التي تعطلت طويلاً، وتجسيد معاني التعارف والإيمان والأخوة والمحبة في كيان اجتماعي منظم ومن خلال أنشطة وفعاليات ومؤسسات قائمة تكون نبراساً لكل ابناء آدم.
فعندما يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يدخل بها في الإسلام، ويلج من خلال اعتقادها والإيمان بها وتغلغلها في ثنايا عقله وقلبه وتتشربها روحها فيصير شاهداً على العالمين. وكما أن الرسول مبلغ وداع ونذير لأمته، فإن الإنسان المسلم على دربه يسير: داعياً ورسولاً برسالة الإسلام إلى أقصى مكان يمكنه الوصول إليه، ليوصل رحمة الله للعالمين.
فالمؤمن يتدرج من شهادة أن لا إله إلا الله يدخل بها عالم الإسلام وعالم شهوده الحضاري فيعلم أن المؤمنون أخوة ويمارس ذلك في إطار الجماعة المسلمة التي تحتضنه وهي الأمة، فيشهد على عالمه الداخلي ويشهده بوجوده من خلال الأمر بالمعروف والهي عن المنكر، ثم ينساح في عالمه فيخرج من محيطه الأمتي بعد أن تحقق بشهوده الحضاري ليخرج للناس أفضل ما في أمته من صفات وأخلاق وتشريعات نظم تدفع بالحياة للأمام وتعطي للإنسان الأمن والكرامة والأمان. ففي الصلاة والزكاة والصيام وحضور الجماعات وشبكة العلاقات الاجتماعية التي تربط المسلم بأمته تجعله يفهم معنى الأمة، ويأتي الحج لتحقق معنى الأمة في عالميتها وتنوعها من كل بلدان الدنيا فيرى المسلم تنوع المسلمين في وحدتهم، هذا التلاقي العالمي الصغير الذي يذكره بحجة الوداع وما على المسلمين من دور في حياة غيرهم
وقد تمكنت “لا إله إلا الله”، من نفوس هذا الجيل الأول من المسلمين، فاعتصموا بحبل الله جميعاً، وخرجوا حرباً على كل أنواع الأثرة والأنانية والعصبية والاستكبار والطبقية، ومظاهرها في نفوسهم وفي مجتمعاتهم، وفي العالم أجمع من حولهم، فضحوا بكل غال ونفيس من: نفس، ومال، وجهد، ليخرجوا من شاء من العباد؛ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن شرور الفساد إلى خير الإصلاح، وليدخل الناس في السلم الإسلامي الراسخ، المشمول بالتعاون والتكافل، الذي يطعم الناس فيه فلا يجوعوا، ويأمنوا على أنفسهم وأموالهم ويومهم وغدهم فلا يخافوا، فيعبدوا ربهم راضين غير مكرهين، أو يعيشوا في ظلال “لا إكراه في الدين” آمنين مطمئنين.
10-أمة الشهود الحضاري
انتقل الإسلام بالعرب من التعديد إلى التوحيد، ومن القبائل المتفرقة المتعادية إلى الأمة الواحدة المؤلفة، والجماعة المتماسكة كالبنيان المرصوص. ومن المحلية القبلية والدينية التي ميزت تاريخ الديانات السابقة إلى عالمية الدعوة وشهودها الحضاري على العالمين. فالتوحيد، هو قطب الإسلام، والرسول مركزه، والاجتماع هو قلب الإسلام، والدعوة والشهود الحضاري هو أساس خيريته وإسلاميته.
فهذه الأمة، التي يبدأ مشوارها بالشهادة لله بالوحدانية التي تعود جذورها إلى عهد الذر” وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ “[40]. والتي تتبع رسولها الخاتم المبعوث رحمة للعالمين كافة، تعلمت أن إيمانها لا يكتمل إلا بتحقيق شهودها الحضاري وتمكينها الحضاري، الذي يحقق العدل الإحسان والأمر المعروف والنهي عن المنكر والبغي في الأرض، وعرض التوحيد والإيمان بالله حراً من أي معيقات أو مكبلات تقف في طريقه.
فالأمة الإسلامية، أمة بلاغ وأمة دعوة، وهي تشترك مع رسولها في هذه الوظيفة وفي حمل تلك الرسالة. قال تعالي: “قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ”[41].
وأمة القرآن، مأمورة أن تعيد لأبناء آدم أخص وأهم وألزم حقوقهم وواجباتهم في الوقت ذاته: توحيد ربهم توحيداً لا شرك فيه. فالإسلام دعوة عالمية، وحاملي طلائع الحق لا ينتهي واجبهم بإقامة دولة القرآن في دار السلام الموروثة، بل تبدأ بعد قيامها رحلة تبليغ الرسالة للعالمين.
والمجتمع المسلم، مجتمع رسالي، إنه مجتمع الشهود الحضاري، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجور إلى العدل، ومن الاستبداد إلى الحرية، ومن الضيق إلى السعة. إنه مجتمع، ملتزم بقضية الإسلام وأهدافه في تحقيق الإنسان: المكرم، الحر، المتعاون مع بني دينه ووطنه وجنسه عموماً، ليحيوا جميعاً حياة طيبة، ملؤها الأمن والأمان والاطمئنان وعبادة الرحمن.
لقد أيقن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قدرهم وليس فقط دورهم ووظيفتهم واجبهم أن يحملوا أمانة تبليغ التوحيد، وتوحيد العالم في ظل نظام إنساني جديد قوامه العدل والإحسان. وإن الوحي الذي نزل على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبلغه وأنذرهم به، عليهم أن يبلغوه إلى العالمين بلسان مبين. قد فهموا من دينهم وتعاليم رسولهم صلى الله عليه وسلم أن هذه الرسالة الخاتمة للناس كافة، والدعوة لكل الناس، لهداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الطبيعي. ومن خلال هذا المجهود الضخم، توسع الإسلام هذا التوسع الكبير والمذهل، فقد مارس الجيل الأول من المسلمين الشهود الحضاري منهج حياة وحياة منهج.
ومجتمع، هذا دوره وتلك غاياته وهدفه، يتحمل أفراده مسؤوليات، تتجاوز حياتهم الخاصة وكيانهم الخاص، لابد له من مؤسسات تقوم به، ينتجها أفراده خرج المسلمون بالدين يحملون ميزان العدل ينيره مفهوم الشهود الحضاري كما قال عمر وربعي وفي الحديث الشّريف ترغيبٌ للمسلم في ذلك حينما قال: “لأن يهدي به الله رجلاً واحداً خير لك من حمر النّعم”[42].
11-من السلم العربي إلى السلم العالمي
أخرج الإسلام، هؤلاء الصحب الكرام بعد أن هيأهم لوظيفتهم ودورهم إلى العالم، ليحققوا السلم الإسلامي في زمانهم فبعد أن نجحت مؤسسات الجماعة المسلمة في تحقيق السلم في مدينة رسول وما حولها من القرى، بشكل فريد قياساً على ما كان عليه حال العرب قبل الإسلام، وأحوال الأمم من حولهم في زمانهم. وصار السلام، شعار هذه الأمة، فهو تحية البشرية التي علمها الله لآدم، تحية له ولذريته، وكان الإيمان بالقرآن وإيمان القرآن: إيمان يستل الضغينة، إيمان يفيض بالعطاء، إيمان يفيض بالسكينة، إيمان يفيض بالسلام.
12-الإسلام كان بداية لعصر جديد بالمطلق. المفهوم كما تركه رسول ورجال الإسلام
في هدوء ومثابرة، ناضلت جماعة صغيرة من المؤمنين في بطن مكة ثم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل تطوير وعي واهتمام بالعالم من حولهم وتغييره. فلأكثر من 23 عاماً جاهد أعضاء هذه العصبة الؤمنة للبناء الكبير. “والحق إن سنوات حكم النبي العشر في المدينة مضافا إليها في الراجح الثلاثون سنة التي أعقبت وفاته كانت قوام العصر الذي صارت فيه الجماعة الإنسانية أقرب ما يرجى من الكمال”[43].
وهناك عشرات الأدلة، على وضوح هذه المنظومة، في أذهان الجيل الأول من المسلمين. فقد كانت ثقافة وأخلاق المرحلة النبوية، تدعو لكل جديد نافع من الأفكار والمؤسسات، وتحث مجتمع المسلمين؛ أفراداً وجماعات، لابتكار المؤسسات القادرة على الحفاظ على حيوية المجتمع، وضمان تطبيقه للنص القرآني، الهادف لإخراج أمة الشهود على العالمين، الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر.
وكانت مهمتهم المستمرة إلى يوم الدين هي: نشر هذا المنهج في أرجاء المعمورة من خلال الأمة المؤمنة الشاهدة على العالمين في كل بقاع الأرض، مبشرة ومعلمة لهذا المنهج. فالإسلام، لم يوجد ليطبق في جزيرة العرب وحسب، بل ليظهره الله على الدين كله، فتنتكس راية الفساد التي ظهرت واستعلنت في البر والبحر، وتبور تجارته، وتكسد صناعته، وينفض جمع مترفيه في كل مكان على وجه الأرض.
فقد آمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن علة وجودهم كخير أمة أنها أخرجت للناس أن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور. لكن هذا المفهوم تعرض لضربات قاسية جعلته يتراجع، ونحاول تتبع أسباب ذلك في الجزء الثاني من هذه الدراسة.
[1] رواه أبوداود والبيهقي والحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة
[2] بن نبي، مالك. ميلاد مجتمع. دار الفكر، بيروت، 1989م، ص48
[3] الشورى: 49
[4] آل عمران: 110
[5] الحج : 77-78
[6] الحجرات 13
[7] التوبة 33
[8] البقرة : 143
[9] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع
[10] عشماوي، عمادالدين.مكافحة الفساد في السنة النبوية، بحث غير منشور، ص81-134، ص180-190
والباحث يعد، دراسة موسعة للفترة النبوية وحتى خلافة عمر تثبت أولوية المجتمع على السياسة بعنوان:من الإنسان انطلق الإسلام
وراجع أيضا:بشور، معن.التجربة الحزبية العربية في نصف قرن، في:الوطن العربي وخيارات المستقبل، مجموعة مؤلفين، عمان:المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2000، ص128
[11] سبأ: 28
[12] الحجر: 94
[13] التكوير: 27
[14] الأنبياء: 107
[15] الشورى:7
[16] الأعراف: 158
[17] الأنعام: 19
[18] المائدة: 67
[19] http://arabicmegalibrary.com/pages-5701-10-1523.html
[20] الروم 30
[21] رضا، محمد جواد.العرب والتربية والحضارة ، بيروت،مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1987.ص 84
[22] صحيح مسلم،كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة.، الحديث رقم 3555
[23] آل عمران :104
[24] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، حديث رقم 3555
[25] شمس الدين، محمد مهدي. نظام الحكم والإدارة في الإسلام، بيروت:المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط2، 1991.، ص 564 .
[26] http://www.alukah.net/spotlight/0/109971/
[27] شمس الدين، محمد مهدي.نظام الحكم والإدارة في الإسلام، مرجع سابق، ص 565 .
[28] عن مؤسسة المسجد راجع:
ابن كثير، عماد الدين، صفوة السيرة النبوية، الجزء الثاني، ص150-152
[29] الشعيني، أحمد. وثيقة المدينة:المضمون والدلالة، الدوحة:وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، كتاب الأمة(110)، 2006،، ص 72، نقلا عن السيرة النبوية لابن هشام الجزء الثاني ص 38.
[30] المرجع السابق،ص 142
[31] المرجع السابق، ص 186
[32] المرجع السابق،ص 156
[33] http://shamela.ws/browse.php/book-930
[34] آل عمران: 104.
[35] آل عمران:110.
[36] آل عمران:114.
[37] الأنبياء:92
[38] المائدة:2.
[39] التوبة: 71.
[40] الأعراف: 172
[41] (يوسف: 108)
[42] رواه البخاري ومسلم
[43] جرونيباوم، جوستاف. حضارة الإسلام، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويش، القاهرة:الهيئة المصرية العامة لكتاب، ط1، 2014، ص184