مقالاتمقالات المنتدى

أكذوبة الإلحاد (19) | سحرة فرعون.. من مجرمين كفرة إلى كرام بررة

أكذوبة الإلحاد (19) | سحرة فرعون.. من مجرمين كفرة إلى كرام بررة

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

بعد أن عرضنا في المقالات السابقة من هذه السلسلة اللقاء المطوّل الذي جرى بين موسى عليه السلام وفرعون والملأ، والذي كان موسى مع أخيه هارون يدعوان المملكة الفرعونية – وعلى رأسها فرعون – إلى الله تعالى، والتعريف به من خلال الآيات الكونية المشاهدة، ولكنه استكبر وطغى واتهمه بالسحر والكذب، فأقيم لقاء يجمع موسى مع كبار السحرة كبرهان منه على قوة حجته وصدق آياته، فانتصر على إثر هذا اللقاء الحق وزهق الباطل، وآمن السحرة ورجعوا إلى الفطرة التي كان يدعو إليها موسى عليه السلام.

قال تعالى: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (٤٦) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (٤٨)﴾ ]الشعراء:٤٦-٤٨[.

وهم قد كانوا منذ لحظة مأجورين ينتظرون الجزاء من فرعون على مهارتهم ولم يكونوا أصحاب عقيدة ولا قضية ولكن الحق الذي مسّ قلوبهم حولهم تحويلاً لقد كانت هزة رجتهم رجاً، وخضتهم خضاً، ووصلت إلى أعماق نفوسهم وقرارة قلوبهم، فأزالت عنها ركام الضلال، وجعلتها صافية حية خاشعة للحق، عامرة بالإيمان في لحظات قصار، فإذا هم ملقين ساجدين تغير إرادة منهم، تتحرك ألسنتهم فتنطلق بكلمة الإيمان في نصاعة وبيان ﴿آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (٤٨)﴾، وإن القلب البشري لعجيب غاية العجب، فإن لمسة واحدة تصادف مكانها لتبدله تبديلاً، وصدق رسول الله ﷺ: ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمان إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه. (في ظلال القرآن، المرجع السابق، ٥/٢٥٩٦)

وهكذا انقلب السحرة المأجورون، مؤمنين من خيار المؤمنين على مرأى ومسمع من الجماهير الحاشدة ومن فرعون وملئه لا يفكرون فيما يعقب جهرهم بالإيمان في وجه الطاغية من عواقب ونتائج، ولا يغنيهم ماذا نفعل أو ماذا يقول. (في ظلال القرآن، المرجع نفسه، ٥/٢٥٩٦)

  • وفي قوله تعالى: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ ]الشعراء:٤٦[

يدل على سرعة الاستجابة فكلمة ﴿فَأُلْقِيَ﴾ تدل على ذلك، وأن السجود تمّ منهم دون تفكير، لأنه أمر فوق إرادتهم وكأن جلال الموقف وهيبته وروعة ما رأوا ألقاهم على الأرض ساجدين لله صاحب هذه الآية الباهرة، ولذلك قالوا:

  • ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (٤٨)﴾ ]الشعراء:٤٧-٤٨[.

نلاحظ أنهم خرّوا لله ساجدين أولاً، ثم أعلنوا إيمانهم ثانياً، ومعلوم أن الإيمان يسبق العمل، وأن السجود لا يتأتى إلا بعد إيمان، فكيف ذلك؟ قالوا: هناك فرق بين وقوع الإيمان وبين أن تخبر أنت عن الإيمان، فالمتأخر منهم ليس الإيمان بل الإخبار به، لأنهم ما سجدوا إلا عن إيمان واثق يتجلى معه كل شك، إيمان خطف ألبابهم وألقاهم على الأرض ساجدين لله، حتى لم يمهلهم إلى أن يعلنوا عنه، لقد أعادهم إلى الفطرية الإيمانية في النفس البشرية والمسائل الفطرية لا علاج للفكر فيها.

وكأن سائلاً سألهم: لم تسجدون؟ قالوا: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (٤٨)﴾، وقالوا: رب موسى وهارون بعد رب العالمين، ليقطعوا الطريق على فرعون وأتباعه أن يقولوا مثلاً أنا رب العالمين، فأزالوا هذا اللبس بقولهم: ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ ]الشعراء:٤٨[.

ومثال ذلك قول بلقيس عندما رأت عرشها عند سليمان -عليه السلام- لم تقل: أسلمت لسليمان، إنما قالت: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ]النمل:٤٤[، فأنا وأنت مسلمان لإله واحد هو رب العالمين، وهكذا يكون إسلام الملوك، وحتى لا يظن أحد أنها خضعت لسليمان؛ لذلك احتاطت في لفظها لتزيل هذا الشك. (تفسير الشعراوي، ١٧/١٠٥٧١)

وهكذا الإيمان يحدث في أعماق النفس البشرية انقلاباً، وفي القلب حياة وفي العقل نوراً وكان لموقف السحرة الجديد الذي أفصحوا عنه بشجاعة فائقة وعزيمة نادرة وقع الصاعقة على فرعون وملئه فالجماهير حاشدة، وقد عبأهم عملاء فرعون وهم يحشدونهم لشهود المباراة، عبأوهم بأكذوبة أن موسى الإسرائيلي ساحر يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره ويريد أن يجعل الحكم لقومه، وأن السحرة سيغلبونه ويفحمونه، ثم ها هم أولاء السحرة يعترفون بصدق موسى في رسالته من عند الله ويؤمنون برب العالمين الذي أرسله ويخلعون عنهم عبادة فرعون وهم كانوا قبل لحظة جنوده الذين جاءوا لخدمته وانتظروا أجره واستفتحوا بعزته.

وإنه لانقلاب يتهدد عرش فرعون، إذ يتهدد الأسطورة الدينية التي يقوم عليها هذا العرش، أسطورة الألوهية -وأكذوبة الربوبية- وهؤلاء هم السحرة، والسحر كان حرفة مقدسية لا يزاولها إلا كهنة المعابد في طول البلاد وعرضها، ها هم أولاء يؤمنون برب العالمين، رب موسى وهارون والجماهير تسير وراء الكهنة في معتقداتهم التي يلهونهم بها فماذا يبقى لعرش فرعون من سند إلا لقوة؟ والقوة وحدها بدون عقيدة لا تقيم عرشاً ولا تحمي حكماً.

إن لنا أن نقدر ذعر فرعون لهذه المفاجأة، وذعر الملأ من حوله، إذ نحن تصورنا هذه الحقيقة وهي إيمان السحرة الكهنة هذا الإيمان الصريح القاهر الذي لا يملكون معه إلا أن يلقوا سجداً معترفين منيبين، عندئذ جن جنون فرعون، فلجأ إلى التهديد البغيض بالعذاب والنكال بعد أن حاول أن يتهم السحرة بالتآمر عليه وعلى الشعب مع موسى. (في ظلال القرآن، ٥/٢٥٩٦)

 

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” موسى عليه السلام كليم الله “، للدكتور علي محمد الصلابي.

 

المراجع:

  • القصص القرآني؛ عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دمشق، دار القلم، ط4، 2016م.
  • موسى عليه السلام كليم الله، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.
  • في ظلال القرآن، سيد قطب.
  • تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى