مقالاتمقالات المنتدى

الغواية الإبليسية ومعارك الشيطان ضد بني آدم (2)

الغواية الإبليسية ومعارك الشيطان ضد بني آدم (2)

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

تكلمنا في المقال السابق عن وسائل الشيطان في إغواء بني آدم، وذكرت فيه بعض النماذج القرآنية من ذكر أقوام غوت بسبب الشيطان، كأقوام أنبياء الله هود وصالح وغيرهم، وكذلك ملكة سبأ وقومها، كما ذكرت بعض تفاصيل الإغواء والتزيين الإبليسي لبني آدم والخلاف في نوع الإغواء وكيفية تأثيره على الإنسان.

إن عدو الله الشيطان يسعى باستخدامه أسلوب التدرج في الإضلال أن ينقل الإنسان من معصية إلى ما هو أعظم منها، فهو بخبثه يتلطف الإنسان في قيادته من ذنب إلى آخر أكبر جُرماً حتى يصل به إلى هدفه الأكبر، والذي يسعى إليه بكل وسائله وأساليبه، وهو إخراج الإنسان من دائرة الإيمان بالله تعالى إلى الكفر والشرك بالله تعالى. (عداوة الشيطان للإنسان، الحواس، ص 319)

ومن الوسائل الشيطانية في تزيين الباطل: تسمية الأمور المحرمة بأسماء محببة إلى النفوس، فأضل وأغوى بهذه الوسيلة الخبيثة كثيراً من الناس الذين كانوا يبتعدون عن المعاصي والمنكرات ويشمئزون منها حين كانت الموبقات تسمى بأسمائها الشرعية والعرفية، بيد أن إبليس استطاع بمكره وخبثه أن يحول تلك النفوس النقية إلى نفوس سيئة عفنة همها إشباع شهواتها بأي طريق كان بعد أن وسوس لها الشيطان بأسماء لتلك المنكرات تميل إليها وتهواها، وأوحى إليها بأن هذه المحرمات إنما هي في حقيقتها لمصلحتهم ومنفعتهم وهذا أمر ملاحظ في كثير من الناس الذين يقترفون المعاصي ويغشون المنكرات فتجدهم يخرجون لأنفسهم بمخارج إبليسية، من أهمها إخفاء الاسم الحقيقي لتلك الأمور المحرمة وتقنيعها بأسماء أخرى مغرية، فسموا الزنا حرية شخصية، وسمُّوا الخمر- وهي من أهم الخبائث – بمشروبات روحية وسمُّوا سفور المرأة وتبرجها خارج بيت الزوجية واختلاطها بالرجال الأجانب حضارة وتقدماً ومدنية، والربا فوائد، والغش والخيانة ذكاء وفطنة و”دبلوماسية” …إلخ من المعاصي والمنكرات التي قنَّعها دعاتها بأسماء لامعة، فراجت عند كثير من العوام والجهال، ولاريب أن هذا من وسوسة الشيطان وإيحائه إلى أولوياته من الإنس لإظهار الباطل في صورة الحق. (عداوة الشيطان للإنسان، الحواس، ص321).

– وإن انتشار الخمر وتنوع أشكاله واختلاف كيفياته هو بتزيين من الشيطان لصانعيه ومروّجيه ومتعاطيه، كي يقودهم بعد أن تخلط عقولهم إلى كل بلاء ومعصية. فالخمر هي حبل الشيطان الذي يقود به الإنسان إلى ما فيه عطبه وفساده، وهي أم الخبائث ودليلها، ولذا حذرنا الله من عاقبتها بعد أن نهانا عن شربها، وبيّن لنا تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۝ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة:90-91].

– بالنسبة للفساد الجنسي الذي بث سمومه في العالم أجمع لم يكن لناره أن توقد ولا للهيبه أن يستعر في النفوس المريضة إلا بتزيين قائد الفساد في الأرض الشيطان اللعين، الذي أعلن الحرب على الأخلاق الحميدة والعفة والستر والحياء، وحث على استخدام نوادي العراة والمجلات والروايات والتقنية الحديثة للإفساد وجعلها حرباً على الأخلاق والمثل العليا باسم الحرية، وهي في الحقيقة دعوة إلى حياة الغاب والنزوات الشهوانية والدمار في الدنيا، وسخط الله في الأخرة. (عداوة الشيطان للإنسان، الحواس، مرجع سابق، ص 325)

ولقد بلغ تزيين الشيطان الباطل للناس، أن زين لهم عبادته من دون الله تعالى، فقد وُجد قديماً وحديثاً من يعبد الشيطان. ولقد وجدت معابد للشيطان عبر التاريخ، وفي وقتنا الحاضر في أمريكا وأوروبا، واشتهرت في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وغيرها من هذا العالم العجيب، ولها طقوسها الخاصة ويتعاطون العلوم السّرية للشيطان.

  • إن الطقوس الشيطانية تعتبر الجنس هو الأساس الذي تقوم عليه، وهو أمر ملاحظ في المحافل التي تقام فيها تلك العبادات، فالرقص والعري والتفسخ والمجون هو شعار عبدة الشيطان، ولذا فهم أسوأ الناس خُلقاً وسُلوكاً، تقول مجلة “تايم”: إن متعبدي الشيطان هم أكثر الناس انغماساً في الشر والفسق والفجور السري والعلني. (عداوة الشيطان للإنسان، الحواس، مرجع سابق، ص 338)

إن هذه الفئات من البشر استطاع الشيطان أن يحقق فيهم وعده ويبرّ قسمه، حيث زين لهم عدو الله تلك العبادة وحسّنها في أعينهم وأوحى إليهم بأنه الملك المطاع، فعليهم أن ينفذوا أوامره بلا قيد أو شرط، وهو في تزيينه لهم تلك العبادة الإبليسية يُقبّح لهم عبادة الله تعالى، ويوحي لهم الشعور بالألم وعدم الراحة في امتثالها أو الفائدة في فعلها، وهو أسلوب الشيطان وخطّته التي ينفذها في خضم حملته الشرسة على بني أدم، إذ حين يزين الكفر والشرك للإنسان، ويحسّن له المنكر والفساد، فإنه بالمقابل يجتهد بكل حيله الإبليسية كي يصرفه عن منهج الله الذي ارتضاه لعباده، وذلك بكراهية طاعة الله وعبادته وحده وتقبيح من يفعل ذلك، والميل الشديد إلى إشباع الشهوات وإطلاق الغرائز والملذات دون ضابط من دين أو خُلق حتى يبلغ به من عدو الله مقصده وينتهي إلى حيث أراد من الوقوع في شراك مصيدته والسقوط في فخ طاعته.

وما ذلك التشويه لدين الله تعالى الذي يدعو إليه الشيطان بأساليبه الماكرة وأوليائه وجنده، إلا لأن عدو الله يعلم تمام العلم أن من توجّه إلى الله تعالى بالطاعة والعبادة وتعلق بحبله المتين واستمسك بالعروة الوثقى بدوام ذكره تعالى وفعل ما يقرب إليه جل وعلا فإن كيد الشيطان يبطل، ووساوسه تذهب أدراج الرياح، وتزيينه يبوء بالفشل لذا فإن عدو الله يجتهد كل الاجتهاد كي يصرف قلب الإنسان أولاً عن التعلق بربه، وجوارحه في التذلل والخضوع له تعالى، ومن ثم ينفث سمومه لتجد لها قلباً خاوياً فتتمكن منه وتؤثر فيه، فكل عبادة لغير الله تعالى، فهي بتزيين الشيطان وهي في حقيقتها عبادة للشيطان، ولقد قرر الله تعالى هذا الأمر في قوله جل وعلا: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [يس:60-61] . (عداوة الشيطان للإنسان، الحواس، مرجع سابق، ص. ص 338 – 339)

وإن حكم الله تعالى على أولئك الذين صرفوا العبادة لغيره، بأنهم صرفوها لعدوهم الشيطان، يقول ابن القيم: فما عبد أحد من بني أدم غير الله كائناً من كان إلا وقعت عبادته للشيطان، فيستمتع بالمعبود في حصوله غرضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله الذي هو غاية رضى الشيطان. (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، ص213)

– وفي الجملة، فإن مجالات الباطل التي زينها الشيطان لبني آدم كثيرة جداً، فعداوة الشيطان لإنسان عدوة شاملة وشرسة، وقدر تزيين الشيطان الباطل للإنسان بقدر اتساع  هذه العداوة وشمولها، فعدو الله يزين الباطل للإنسان ويوسوس له بأنه من أنفع الأشياء، وينفره من الأفعال الحسنة، حتى يظن أنها من أضر الأشياء إليه، فيتمكن  منه الباطل ويعمل به دون غيره، فكم سحر الشيطان بهذا التزيين من البشر فألقاهم في الأهواء المختلفة والمهالك المتنوعة، وصدق الله تعالى حيث يقول: ﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴾ [فصلت:25] . (الجواب الكافي، ابن القيم، ص342)

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” قصة بدء الخلق وخلق آدم عليه السلام”، للدكتور علي محمد الصلابي، واعتمد في كثير من مادته على كتاب: ” عداوة الشيطان للإنسان وعلاجها، د. عبد المنعم حواس.

المراجع:

  • عداوة الشيطان للإنسان وعلاجها، د. عبد المنعم حواس.
  • دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أبو بكر البيهقي.
  • روح المعاني، شهاب الدين الألوسي.
  • تفسير القرآن العظيم، شمس الدين ابن كثير الدمشقي.
  • قصة بدء الخلق وخلق آدم عليه السلام، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.
  • الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى