مقالاتمقالات المنتدى

سلسلة انتصارات رمضانية: معركة حطين (4)

من أسباب الانتصار في المعركة

سلسلة انتصارات رمضانية: معركة حطين (4)

من أسباب الانتصار في المعركة

 

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

1ـ الإعداد وسنة الأخذ بالأسباب: لقد استطاع صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه الله ـ أن يوحِّد الأمَّة، ويجمعها على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيل الله، وتحرير البلاد الإسلامية، فأصبحت الشام، ومصر، والحجاز، واليمن، والعراق تحت إمرته، وقيادته، وحشد لهـذه المهمة العلماء، والفقهاء، والجيوش، والألوف من المجاهدين، وفي مقدِّمتهم العلماء، والفقهاء يحرِّضون المقاتلين على القتال، وكوَّن جيشاً برياً قوياً، وأنشأ أسطولاً بحرياً مصرياً، وأنفق عليه أموالاً طائلةً.

قال ابن شدَّاد: إن السلطان رأى: أنَّ نعمة الله عليه باستقرار قدمه في الملك، وتمكين الله إيَّاه في البلاد، وانقياد الناس لطاعته، ولزومهم قانون خدمته ليس لها شكر سوى الاشتغال ببذل الجهاد، والاجتهاد في إقامة قانون الجهاد، فسيَّر إلى سائر العساكر، واستحضرها، واجتمعوا إليه بعشترا في التاريخ المذكور 24 ربيع الثاني 583 هـ ورتَّبهم، واندفع بهم قاصداً نحو بلاد العدو المخذول في وسط نهار الجمعة… وكان أبداً يقصد بوقعاته الجمع لا سيما أوقات صلاة الجمعة تبرُّكاً بدعاء الخطباء على المنابر، فربَّما كانت أقرب إلى الإجابة.( بن شداد، 2003، ص75)

لقد كان الإعداد والاستعداد، فقد اختار الرُّماة، وزوَّدهم بالنبال الكافية الكثيرة، فملأ كنائنهم بها، وقد بلغ ما فرَّقه على الرُّماة من نبال أربعمئة جمل، ورصد حمولة سبعين ناقة في ساحة القتال، وميدان المعركة، وجعل هـذه النوق المحمَّلة بالسهام لمن تنفذ سهامه أن يأخذ منها ما يحتاج ضماناً لاستمرار القتال، والرَّمي وعدم التوقف فيه حتى يتنزل النصر بإذن الله، سبحانه وتعالى. (المقدسي، 1997،3/280) وقد خاض صلاح الدين المعركة بجيشٍ قويٍّ، ومهارة حربية منقطعة النَّظير؛ فضلاً عن اختياره لمكان المعركة، وزمن وقوعها؛ حيث عسكر بجيشه على طبرية حائلاً بين العدو وبين الماء، كما أعلن جهاده في شهر يوليه الذي يعدُّ أشد شهور السنة حرارةً، وأقلَّها ماءً في الصهاريج، والغدران، حتى أصبح العطش من أقوى الأسلحة بين يديه.(الشامي، 1991، ص191) لقد مارس صلاح الدين قول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ﴾ (الأنفال:60) فقد جمع الجيوش الإسلامية، واستدرج الجيوش الصَّليبية، واختار المكان المناسب للمعركة.

2ـ سنَّة التدرُّج ووحدة الأمَّة: فقد قدَّم أمراء السَّلاجقة الكثير من أجل دحر الصَّليبيين، وقد حقَّق عماد الدين زنكي إنجازاً عظيماً بوضعه لمشروع رائدٍ، ربما رأى الكثيرون ـ في ذلك الوقت ـ استحالة تحقيقه على بساطته، وهو مشروعه الوحدوي التحرُّري، والذي حقَّق ابنه نور الدين جُزْأَهُ الأوَّل، وحقَّق صلاح الدين قسماً مُهمَّاً من جُزئه الثاني، ولذلك نرى انتصار صلاح الدين في حطِّين تتويجاً لمشروع عماد الدين الوحدوي التحرُّري، فلولا متابعة نور الدين لِخُطى والده في توحيد الشَّام، ثم توحيد مصر مع الشَّام؛ لما تحقَّق هـذا النَّصر؛ الذي تمَّ بفضل الله، وجهود التوحيد؛ التي قامت على عقيدة الإسلام الصَّحيحة؛ التي تدعو للوحدة الإسلاميَّة؛ التي لا تفرِّق بين جنس، أو لونٍ، أو طائفةٍ، وإنما جمعتهم الأخوَّة في الله؛ التي لم تفرِّق بين الأتراك، والأكراد، والعرب، والفرس، ولا غيرها من الأمم التي انضوت تحت راية الإسلام. قال الشاعر:

ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً

وأينما ذكر اسمُ الله في بلدٍ

الشَّام فيه ووادي النِّيل سيَّان

عددتُ أرجاءه مِنْ لُبِّ أوطاني

ولقد تفاعلت العوامل التي ساعدت على الوحدة في عهد صلاح الدين مع الزَّمن، والوقت، وخضعت لسنَّة التدرُّج، وأعطت ثمارها في معركة حطِّين، وتُوِّجت بفتح بيت المقدس، وأصبح المؤمنون في توادِّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ؛ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر، والحمَّى.

وعلى الرَّغم من الجهود الكبيرة التي بذلها المستعمرون من أجل تمزيق أرجاء العالم الإسلامي؛ فقد نجحوا في تقطيع أراضي المسلمين؛ لكنَّهم لم ينجحوا في تمزيق قلوبهم، وظلَّ المسلم محباً لأخيه المسلم، ولسان حال كلٍّ منهم يقول: (النعمة، 2004، ص23)

لو اشتكى مسلمٌ في الصِّين أرَّقني

فمصرُ ريحانتي والشَّام نرجستي

وفي العراق أكفُّ المجد ترفعني

ويسكن المسجدُ الأقصى وقبَّتُه

أرى بخارى بلادي وهي نائيةٌ

شريعةُ الله لَمَّتْ شملَنا وبَنَتْ

أو اشتكى مسلمٌ في الهند أبكاني

وفي الجزيرة تاريخي وعنواني

عن كلِّ باغٍ ومأفونٍ وخَوَّان

في القلب لا شكَّ أرعاه ويرعاني

وأستريح إلى ذكرى خُراسان

لنا مقاماً بإحسانٍ وإيمان

فلم تأت انتصارات صلاح الدِّين من فراغ، ولم تكن النتائج إلا ولها مقدِّمات.

3 ـ بعد نظر صلاح الدين وحنكته السياسة: من الملاحظ: أنَّ صلاح الدين الأيوبي كان يدرك أهمية العمل المزدوج: توحيدا الجبهة الإسلامية، وجهاد الصليبيين؛ نظراً لما بينهما من اتصالٍ وثيق، وممَّا يذكر هنا: أنَّ عام 1186 م/582 هـ شهد الاتفاق مع عز الدين مسعود صاحب الموصل على أن يكون تابعاً له، ولذلك استطاع أن يُخضع الأربع مدن الإسلامية الرئيسية الَّتي تحكَّمت في الظهير البري، وهي: القاهرة، ودمشق، وحلب، والموصل، وجميعها سيكون لها شأنها البارز في مشروع الجهاد، ومن زاويةٍ أخرى لا تُغفل: أنَّ الصليبيين وعلى رأسهم ريموند الثالث كونت طرابلس اتجهوا إلى عقد هدنة مع صلاح الدين، وذلك عام 1185 م/581 هـ مدتها أربع سنوات، ومن الملاحظ: أنَّ كلاًّ من الجانبين احتاج إليها من أجل تنظيم قوَّاته، والتقاط الأنفاس.

ومما يدلُّ على بعد نظر صلاح الدين، وحنكته السياسية مهادنته لبعض القوى الصليبية من أجل المحافظة على قوَّاته، وعدم تبديد فعالياتها في عمليات حربية كبيرة مستمرة؛ لا سيما مع الصَّليبيين، ولذا نجده يتجنَّب طوال تلك الأعوام الدخول في معركةٍ حاسمة معهم، ولا يتعجَّل الأمر، بل يترك عوامل الانقسام، والفرقة تلعب دورها في صفوفهم. وكان من أخطر قراراته السياسية قرار «السَّلام» المؤقَّت مع الصَّليبيين. ومن المهمِّ إدراك: أنَّ تلك المعاهدات عندما سيتمُّ خرقها ستعطيه المبرر لشنِّ حرب التحرير الشاملة؛ التي من ثمارها معركة حطِّين، وكانت شرارة الصِّدام بين صلاح الدين الأيوبي، والصليبيين أتت من الفارس الصَّليبي رينو دي شاتيون، أو أرناط، وهو الفارس الذي أدخلته رعونته التاريخ من أوسع أبوابه، فقد خرق أرناط الهدنة، واعتبرها صلاح الدين إعلان حربٍ صليبي، وكان الردُّ الأيوبي سريعاً، أو حاسماً، كما حدث في معركة حطِّين 583 هـ/1187 م. ( مؤنس، 2000، ص217)

 

مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، دار المعرفة، بيروت، 1429ه-2008صص 413-411.

بهاء الدين بن شدَّاد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية تحقيق أحمد إيبيش، دار الأوائل، سوريا، 1424ه 2003م.

شهاب الدين المقدسي، عيون الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق: ابراهيم الزيبق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق ،1418-1997.

محمد مؤنس، الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب،عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية ،مصر1421ه 2000م

إبراهيم النعمة، الوحدة الإسلامية بين الأمس واليوم، مطبعة الزهراء الحديثة.1425هـ 2004م .

أحمد الشامي، صلاح الدين والصليبيون تاريخ الدولة الأيوبية، مكتبة النهضة العربية، القاهرة، 1411ه1991م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى