مقالاتمقالات المنتدى

تطبيقات الشورى (1) الشورى في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه

تطبيقات الشورى (1)

الشورى في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

كانت الشورى مكثّفة في هذه المرحلة، وكانت تشملُ عظائم الأمور وصغارها، من قضايا الأمة في السلم والحرب، والخلافة والتشريعات العامة، إلى نوازل الأفراد في زواجهم وطلاقهم وميراثهم، ومنازعتهم حول البئر والنخلة والناقة، وأهم شيء في هذه المشاورات المكثَّفة هو أنَّها كانت تحقِّقُ جوهرَها ومقصودَها على أكمل الوجوه، ثم لا يُلتفتُ كثيراً لما سوى ذلك.

ويمكن أن نلخص طبيعة مشاوراتهم بعبارة: الشورى بمقاصدها لا بشكلياتها، فلم يكن عندَهم كبيرُ التفاتٍ إلى مَنْ استُشِيْر، ومن لم يُستشر، وإلى من حضر ومن غاب، إذا كان الذين استشيروا أهلاً لتلك المشورة، وكان من غاب عنها لا يضرُّ غيابه، ولم يُقصَدْ تغييبه، ولم يكن عندهم كبير التفات إلى عدد المستشارين في القضية، وهل هم احاد، أو عشرات أو مئات، إذا كان من استُشيروا يقومون مقام غيرهم، ويعبّرون بصدقٍ عن ارائهم ومصالحهم.

ولم يكن عندهم كبيرُ التفاتٍ وتدقيق في عدد الذين أيدوا والذين عارضوا، إذا ظهر بوضوح التوجّهُ العام الغالب في المسألة، أو حصل فيها نوعٌ من التراضي والتوافق والتسامح، وإذا خالف أحدٌ منهم ثم رأوا في لهجته صدقاً، وفي حجته قوة ووثوقاً، لم يلبثوا أن يضعوا ثقتهم في صدقه وعلمه وما يعرفونه من خبرته وحسن تقديره، فينقلبُ رأيُ الواحدِ المنفردِ إلى إجماع أو شبه إجماع.

وكانت المشاوراتُ تتمّ في جو من الحرية والأمن والجرأة؛ فلا أحدٌ يحابي أحداً، ولا أحدٌ يخادِعُ أحداً، ولا أحدٌ يخافُ من أحدٍ، ولا أحدٌ يطمعُ في أحد.

في هذه الأجواء، وبهذه السمات لم تكن شوراهم بحاجة إلى قوانين معضلة، ولا إلى ضوابط مدققة، ولا إلى ضمانات واحتياطات، فالتعقيدُ التنظيمي حين لا يكون ضرورياً يصبحُ عبئاً وعائقاً، أو على الأقل قد تكون كلفتُه أكثرَ من فائدته، لقد كانت الشورى في التجربة الإسلامية الأولى خفيفةً في تنظيمها وطرق إجرائها، ولكنَّها كانت عظيمة بجديتها وأخلاقيتها. [الشورى في معركة البناء ص 107].

وإليك بعضُ ملامح وسمات التجربة الشورية في عهد الصديق رضي الله عنه:

1 ـ بيعة الصديق رضي الله عنه:

لمّا علم الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع الأنصارُ في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه، وهو يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، وتداولوا الأمر بينهم في اختيار مَنْ يلي الخلافةَ من بعده، ولقد اجتمع المهاجرين والأنصار في السقيفة وصار بينهم حوار حول الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدّمت الأنصار منهم واحداً، ولكن ذكرهم أبو بكر رضي الله عنهم أن هذا الأمر لا يصلح إلا لرجل قرشي فاتفقوا بعد حوار طويل على تنصيب أبي بكر رضي الله عنه.

ومن الأمثلة التي صدرت بالشورى الجماعية من حادثة السقيفة:

* أوّل ما قرره اجتماع يوم السقيفة هو أن نظام الحكم ودستور الدولة يقرَّرُ بالشورى الحرة، تطبيقاً لمبدأ الشورى الذي نص عليه القرآن، ولذلك كان هذا المبدأ محلَّ إجماع، وسندُ هذا الإجماع النصوص القرآنية التي فرضت الشورى، أي إنَّ هذا الإجماعَ كشفَ وأكّد أوّل أصل شرعي لنظام الحكم في الإسلام، وهو الشورى الملزمة، وهذا أوّلُ مبدأ دستوريٍّ تقرَّر بالإجماع بعد وفاة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ثمَّ إنّ هذا الإجماع لم يكن إلا تأييداً وتطبيقاً لنصوص الكتاب والسُّنَّة التي أوجبت الشورى.

* تقرر يوم السقيفة أيضاً أنَّ اختيارَ رئيس الدولة أو الحكومة الإسلامية، وتحديدَ سلطاته يجب أن يتمَّ بالشورى، أي البيعة الحرّة التي تمنحه تفويضاً ليتولى الولاية بالشروط والقيود التي يتضمَّنها عقد البيعة الاختيارية الحرّة ـ الدستور في النظم المعاصرة ـ وكان هذا ثاني المبادئ الدستورية التي أقرت بالإجماع، وكان قراراً إجماعياً كالقرار السابق.

* تطبيقاً للمبدأين السابقين، قرّر اجتماعُ السقيفةِ اختيارَ أبي بكر، ليكونَ الخليفةَ الأوَّلَ للدولة الإسلامية، ثم إنَّ هذا الترشيح لم يصبحْ نهائياً إلا بعد أن تمّت له البيعة العامة، أي: موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قبوله لها بالشروط التي ذكرها في خطابه الذي ألقاه. [علي بن أبي طالب للمؤلف ص 142].

2 ـ الشورى في جمع القرآن:

كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثيرٌ من حفظة القرآن، وقد نتج عن ذلك أنْ قام أبو بكر رضي الله عنه ـ بمشورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ بجمع القرآن، حيث جُمِعَ من الرّقاع، والعظام، والسَّعف، ومن صدور الرّجال، وأسند الصدّيقُ هذا العمل العظيم إلى الصَّحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه. [حروب الردة وبناء الدولة الإسلامية، أحمد سعيد ص 145].

وفَجَمْعُ القرآن الكريم فيه دليلٌ عملي على ممارسة الشورى الجماعية، فقد اتّسع نطاق الشورى، وتبادل الرأي، والمراجعة العلمية مما كان سبباً في الإقناع واجتماع الرأي على إنجاز هذا المشروع الحضاري العظيم. [الشورى د. أحمد الإمام ص 40].

3 ـ الشورى في القضاء:

كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه حكم، نظر في كتاب الله تعالى، فإنْ وجد فيه ما يقضي به قضى، فإن لم يجد في كتاب الله، نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنْ وجدَ فيها ما يقضي به، قضى به، فإن أعياه ذلك، سأل الناس: هل علمتم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء.

فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا أو بكذا، فيأخذُ بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول عندئذٍ: الحمدُ لله الذي جعلَ فينا مَنْ يحفظُ عن نبيّنا.

وإنْ أعياه ذلك، دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم، فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيُهم على الأمر قضى به. [موسوعة فقه أبي بكر الصديق قلعجي ص 155].

ويظهر أنَّ الصديق يرى الشورى ملزمةً إذا اجتمعَ رأيُ أهل الشورى على أمرٍ، إذ لا يجوزُ للإمام مخالفتهم. [أبو بكر الصديق للمؤلف ص 173].

5 ـ الشورى في الجهاد:

دعا عمر، وعثمان، وعلياً، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبا عبيدة بن الجرّاح ووجوهَ المهاجرين والأنصار من أهل بدر، وغيرهم، فدخلوا عليه فقال: إنَّ الله تبارك وتعالى لا تُحْصَى نعمه، ولا تبلغُ الأعمالُ جزاءها، فله الحمدُ كثيراً على ما اصطنعَ عندكم مِنْ جمعِ كلمتكم، وأصلح ذات بينكم، وهداكم إلى الإسلام، ونفى عنكم الشيطان، فليس يطمعُ أن تشركوا بالله، ولا أن تتخذوا إلهاً غيره، فالعربُ أمة واحدة، بنو أب وأمّ، وقد أردتُ أن أستفزكم إلى الرّوم بالشَّام، فمن هلك؛ هلك شهيداً، وما عندَ اللهِ خيرٌ للأبرار، ومَنْ عاش، عاش مدافعاً عن الدين، مستوجِباً على الله عزّ وجلّ ثوابَ المجاهدين، هذا رأيي الذي رأيتُ، فليشرْ عليَّ كلُّ امرىءٍ بمبلغ رأيه.

وقد أجمع الصحابةُ على موافقة الصدّيق في غزو الروم، وإنما تنوّعت وجهاتُ نظر بعضهم في كيفية هذا الغزو.

فكان رأيُ عمرَ إرسال الجيوش تلو الجيوش، حتى تتجمّعَ في الشَّام، فتكونَ قوةً كبيرةً تستطيعُ أن تعمدَ للأعداء.

وكان رأي عبد الرحمن بن عوف أن يبدأ الغزو بقواتٍ صغيرة، تغيرُ على أطراف الشام، ثم تعودُ إلى المدينة، حتى إذا تم إرهاب العدوّ وإضعافه؛ تبعث الجيوشُ الكبيرةُ، وقد أخذ أبو بكر برأي عمر في هذا الأمر، واستفادَ مِنْ رأي عبد الرحمن بن عوف فيما يتعلقُ بطلب المدد بالجيوش من قبائل العرب وخاصَّةً أهلَ اليمن. [التاريخ الإسلامي للحميدي، 9/188].

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” الشورى فريضة إسلامية”، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • الشورى في معركة البناء، أحمد الريسوني.
  • فقه المشورة والاستشارة د. توفيق الشاوي.
  • حروب الردة وبناء الدولة الإسلامية، أحمد سعيد.
  • موسوعة فقه أبي بكر الصديق، محمد رواس قلعجي.
  • الشورى فريضة إسلامية، علي محمد الصلابي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى