مقالاتمقالات المنتدى

الإمام الموسوعي يوسف القرضاوي في ركب الخالدين

الإمام الموسوعي يوسف القرضاوي في ركب الخالدين

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

 

اتسم بالعلم الموسوعي كثيرون من علمائنا القدامى، لكنهم نادرون جدا في عصرنا، ولا شك بأن الإمام القرضاوي رحمه الله في طليعتهم من دون منافس!
فقد يتفوق عليه قليلون في الفقه التقليدي (الفردي) أو في الفكر السياسي، وقد يفوقه بعضهم في علوم التربية وتزكية الأنفس ومعرفة بواطن النفوس وآفاتها، وربما سبقه غيرهم في استنباط السنن الاجتماعية وارتياد فقه الآفاق من أوسع الأبواب، وهناك من برع أكثر منه في دراسة الاقتصاد وتثمير الأموال، ويوجد من تألق في تنزيل فقه الأولويات والموازنات وتفعيل فقه المقاصد في الواقع السريع التغير، وهناك من أجاد في التخطيط للآتي واستشراف المآلات وتوقع العواقب، وهناك من برز في ساحة الدعوة أشد منه وربما ضحى بنفسه وماله من دون أدنى تردد، لكن لا يوجد أحد فعل كل هذه الأمور مجتمعة ثم ضاهاه في فكره وفعله فضلا عن أن يتفوق عليه أبدا!
إنه فقيه العصر وعلّامة المقاصد، فقد تبحر في علوم النقل والعقل وتعمق في معرفة دقائق الزمان والمكان، وأجاد في غربلة الماضي وبناء الحاضر والإعداد للمستقبل، وأحسن في تأصيل المنهج الذي يجعل التراث أداة بناء لا هدم، بمعنى أنه جمع بصورة متفردة بين فقه الواجب وفقه الواقع، ونقل أفكاره من التجريد إلى التجسيد عبر مشاريع ومؤسسات عديدة!
إنه عملاق المفكرين وإمام الدعاة، ولا شك بأنه مجدد عصره وكبير مصلحي أمته؛ إذ مزج بين النظر والعمل، وجسّر بين الأقوال والأفعال، ووازن في أفكاره وأفعاله بين الثبات والتغير وكذا بين المثالية والواقعية، ووائم بين الأصالة والمعاصرة، وفرق بجلاء بين الغزو الثقافي المرفوض والتفاعل الحضاري المفروض وكذا بين الاختلاف المباح والتفرق المحرم، وفضّ الاشتباك بين النقل والعقل، بين العلم والإيمان، بين الأصالة والمعاصرة، وحاول فض الاشتباك بين الحكام ورعيتهم لكن مجاميع من هؤلاء وأولئك أبت الاستجابة لجهوده واتفقت في محاربته رغم العداوة بينهما!
ولقد أسهم بفاعلية في تأصيل مناهج الوسطية وإطلاق أفكار الاعتدال، واجتهد بقوة في ترشيد تيارات التدين والدعوة، ومساعدتها في الخلاص من الآفات الداخلية والمؤامرات الخارجية، وما فتئ يحارب التطرف التقليدي كمحاربته للتطرف التغريبي، وما برح يعمل من أجل تجفيف منابع العنف والإرهاب بكل صوره وأشكاله!
وتحكي سيرته الثرية ومسيرته الطويلة بأنه قد تقلب في ابتلاءات الشدة والرخاء، فما حزن على ما فاته ولا فرح بما أتى إليه، دخل السجون فلم يضعف عن القيام بواجبه أو يتنازل عن المبدأ الذي يؤمن به أو يتوقف عن الدعوة إليه، ودخل القصور فلم يهادن الظلم أو يتعايش مع الاستبداد!

وفي يومنا هذا مات جسد القرضاوي بعد عمر مديد لكن تجسيده الوسطي لقيم الإسلام في عصرنا لم يمت أبدا، وتوقف نفسُه لكن أنفاس الحياة التي بثها في تلاميذه وكتبه وأبحاثه وفتاواه ومحاضراته لم تتوقف، وسيهال التراب على جثمانه لكن فكره سيظل يحرر الإنسان من آفات التراب وأغلال الظلم والجهل؛ ذلك أن الأصل الذي نهل منه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فصار فكره بجملته ثابتا وفرعه في السماء يؤتي أُكله كل حين بإذن ربه، وهذا لا يعني أنه معصوم من الخطأ أو الزلل فقد كان يراجع نفسه بنفسه وإن نصحه أحد فإنه رجاع للحق، وظل يشجع على تفعيل ثقافة النقد والنصيحة للجميع، ولا يعني أيضا أن أفكاره ستظل صالحة لكل زمان ومكان، ولكنها ستظل مفيدة نسبيا إذا قرئت في ضوء معرفة منهجيته التي انطلق منها في تنزيل النصوص والمقاصد على الحوادث والمتغيرات، وفهم خصائص عصره وظروف زمنه وملابسات ما توصل إليه، كما يستفيد العقلاء من أفكار ابن تيمية وابن القيم والغزالي وابن رشد والشاطبي وابن حزم وابن الجوزي وابن خلدون وغيرهم.

نسأل الله عز وجل أن يجزيه خير الجزاء على ما قدم لأمته، وأن يتقبله في الصالحين ويرفع درجته في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يعوض الأمة عن فقدانه خيرا ويمنحها من يقومون بدوره ويواصلون السير في دربه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى