مقالاتمقالات المنتدى

مستقبل الديمقراطية في العالم العربي

مستقبل الديمقراطية في العالم العربي

 

بقلم سراج دغمان “باحث ليبي” (خاص بالمنتدى)

 

لا شكَّ أنَّ مفهوم الديمقراطية والحريات بشكل عام بدأ يتعثر ويتأخر لصالح الأفكار السياسية الأكثر شمولية وعنف وتعقيد في العالم بصفة عامة للعديد من الأسباب , لعلَّ أبرزها تَعَقُّد الصراع العالمي بين قُطبي العالم الشرقي والغربي وما يحملهُ هذا الصراع من تعقيدات ثقافية وفكرية وفلسفية وعقائدية عِوضًا عن طموح كل قطب من هذهِ الأقطاب الكبيرة في زيادة التوغل في الجغرافية السياسية وخلق مناطق نفوذ جديدة أمنية واقتصادية موالية لهُ مع الحفاظ على مناطق نفوذهِ القديمة , ولا شكَّ أنَّ أذرع هذا الصراع تنقسم إلى أذرع عسكرية واقتصادية وأخرى ثقافية فكرية , ويبدو أنَّ المحرك الأساسي للنزاعات القومية الكُبرى بين الأمم هي مضامين الهوية الثقافية للمجتمعات , من التراكم الفكري والعقائد الدينية التي تنتج عنها في الغالب مصالح اقتصادية تدعم التوسعة في مجال نفوذ هذهِ الدول , للحفاظ على كيانها قويًّا ومتماسكًا ودائمًا ما تكون هي المحرك خلف رسم هذهِ المشاريع الاستراتيجية التوسعية الكبرى .
لقد تأثر العالم العربي والإسلامي في تكوين بُنيتهِ السياسية الحديثة ومجالِ نفوذهِ بناتج حربي العالم الأولى والثانية , كما تأثرت معظم مناطق العالم بما فيها القارة الأوروبية التي تم إعادة رسمها سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وأمنيًا بين المعسكر الغربي والشرقي في ذلك الوقت , قبل انهيار حلف وارسو سنة 1991 م وما ترتب عن ذلك من نتائج جديدة أعادة صياغة العالم في تلك المرحلة لصالح القوى الأطلسية بشكل يكاد يكون مُطلق , ولكن ما نتج عن خسارة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى والفراغ الخطير الذي تركتهُ في العالم الإسلامي , والذي يبدو أنَّهُ لم يكن فراغًا أمنيًّا وعسكريًّا فقط , بل أيضًا كانَ فراغًا روحيًا وفكريًا أثَّرَ في عمق الهوية العامة لشعوب المنطقة , مما تسبب في تقسيم العالم العربي لصالح القوى الاستعمارية الغربية الجديدة , عبر العديد من الاتفاقيات والمعاهدات التي ورثت مناطق حلف نفوذ دول المركز , المُشكلة من دولة الخلافة العثمانية والإمبراطورية الألمانية والنمساوية المجرية والمملكة البلغارية , لصالح منظومة دول الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى (1914م-1918م) , و كان أخطر ناتج عن هذهِ المعاهدات والاتفاقيات ما يعرف بوعد بلفور سنة 1917م والذي أفضى في نهايتهِ لتنفيذ مخطط تكوين دولة الكيان الصهيوني في العمق العربي والإسلامي بعد احتلال فلسطين سنة 1948م .
فكانت المنطقة العربية تعج بالعديد من المدارس الفكرية المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في مرحلة ما بعد الاستقلال وانتهاء مرحلة الاستعمار والانتداب , الذي لم يكتفي بإنهاء الخلافة العثمانية فقط كعامل موحد للعالم الإسلامي , بل امتد لإنهاء المدارس السياسية الوطنية التي ساهمت في استقلال أوطانها , عند دخول طور الدول الوطنية كناتج ثقافي عام لمعاهدة سايكس بيكو سنة 1916م , التي صاغها المنتصرين في الحرب العالمية الأولى , والتي أعادة ترسيم جغرافية المنطقة سياسيًا ورسم ديمغرافيتها السكانية , لأنَّ تلك المدارس كانت تكفل نوع من الوحدة السياسية والاجتماعية للأمة , وكانت إلى حدٍ ما مُعبَّأةً بأمجاد الماضي وبثوابت الهوية الثقافية للأمة .
فشهدت المنطقة العربية منذُ الخمسينيات من القرن المنصرم صعود واشتباك العديد من المدارس الفكرية والسياسية , حينما كانت القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة , ولا شكَّ أن التعقيدات الأمنية لتلك المرحلة الطويلة أثَّرت في بُنية وهيكلية عقل الحكم والمجتمع والمعارضة , وكذلك في تكوين قدرات الدولة في امتدادها وتطورها ونموها , مما جعل المجتمع السياسي عاجز عن تبني أطروحات سياسية ديمقراطية جديدة لأنَّ ذلك يتصادم مع إرادة النفوذ الدولي ؛
وكذلك انحسار العقل الثقافي والسياسي في نخبة العالم العربي في دائرة المواجهة الضيقة التي يبدو أنَّهُ لم يكن يحمل أسباب الغلبة فيها للعديد من الأسباب والعوامل , وكانت فلسفة المواجهة شعارًا عامًا في تلك المرحلة يرفعهُ الحكام والمعارضون ومختلف القوى السياسية من التيارات القومية واليسارية والإسلامية , وللأسف انعكس هذا الأمر على الداخل العربي بعد هزيمة 1967 م , بحيث شكَّل سلوك حكم غير رشيد وعنيف في معظمهِ يعاني من الهزيمة والضعف والعُزلة , وكذلك سلوك معارضة تفتقد للرؤية الاستراتيجية السياسية والفكرية وفهم أولويات المرحلة التاريخية في ذلك الوقت ؛
وإدراك مدى عمق النفوذ الدولي في الشأن السياسي العام للمنطقة ومدى تعقيدات ملفات الشرق الأوسط , فكانت النتيجة دخول العالم العربي لمرحلة استنزاف طويلة كانت فيها الخسارة عنوان الجميع , أنظمة وتكتلات سياسية معارضة وحركات ثقافية اجتماعية , حيثُ الجميع ابتعد عن عقل الإصلاح والحوار والبناء , فترسخت ثقافة الفردية في الحكم والمعارضة وغابت الثقافة المُستمدة عن حركة العقل الجمعي للشعوب التي غابت وغُيّبت عن الحياة السياسية , فكانت النتيجة انحسار مؤسسات الدولة في التبعية للفرد أو للفئة أو للحزب الحاكم , وانحسار تيارات المعارضة في مجتمع نخبوي بعيد كل البعد عن الشارع , وهذا سبب ضعف الطرح الذي لا يلامس الجموع , وضعف تأثير الأفكار في عدم دخولها في العقل الجمعي للمجتمع بحيث تُشكل حالة جديدة من الوعي.

غزو العراق 2003 والربيع العربي 2011
إنَّ سقوط الدولة العراقية بعد الاحتلال الأمريكي كانَ نُقطة تحول مُربكة في التاريخ السياسي للمنطقة , حيثُ شَكَّل واقع أمني وسياسي جديد يصعب على دول المنطقة المُعبأة بالأزمات والفشل في إداراتها أن تحتمل هذا الحجم الهائل من الضغط ؛
فسقوط العراق تركَ فراغًا أمنيًّا مُفزعًا في منطقة تعج بصراعات العرقية والقومية والطائفية والمذهبية والدينية, ومنطقة حساسة وفاصلة بين مناطق نفوذ ثقافية مختلفة بين الشعوب الناطقة بالفارسية والشعوب الناطقة بالعربية , فدخل العراق الشقيق في حالة من الفوضى الدامية وعدم السيطرة وانهيار عام سبَّبَ موجات عُنف مستمرة تتغذى من المخزون الطائفي المتطرف , الذي يأتي في غالبهِ من مراكز فكرية من خارج العراق لا يمثل اعتدال ووسطية الإسلام التي فرضت التعايش بين المختلفات عبر مراحل مختلفة من التاريخ , ولا يمثل تاريخ العراق الحضاري والإنساني والثقافي والتجربة الاجتماعية الحديثة فيه ؛
وهذا الأمر زادَ في محنة العالم العربي سوءً من ناحية إشكالات الهوية , ومخاطر التغيير الديمغرافي السكاني وعودة الصراع القومي بأشكال مختلفة وزيادة في موجات العنف واضطرابات مختلفة في واقع سياسي وأمني واجتماعي واقتصادي مهزوز , حيثُ تحاصر المنطقة العديد من البراكين الملتهبة ابتداءً من القضية الفلسطينية ومخاطر تمدد ووجود الكيان الصهيوني في قلب الأمة , وكذلك منتوج الحرب الأهلية اللبنانية وتداعياتهِ الخطيرة في المنطقة , حيثُ هُناك ولد التقسيم السياسي للمجتمعات العربية على حسب الطائفة والدين بعد ما كانت لبنان في حالة ديمقراطية وثقافية متطورة بمراحل عن المنطقة في ذلك الوقت , قبل دخولها في الحرب الأهلية سنة 1975 م , والتي كان منتوجها النهائي انتهاء حالة الشراكة الوطنية العامة بين المكونات المختلفة للمجتمع وبدء مرحلة التجزئة الطائفية والتي أفشلت لبنان دولةً وشعبًا ووصلت بهِ لحالة الانهيار التي نراها اليوم للأسف.
وكانت كل التراكمات السلبية معوق حقيقي للقوى التي حملت لواء التغيير السياسي في الدول التي مرت بتجربة الربيع العربي , والتي ربما هي توصف في علم السياسة أنَّها سقوط شرعية الحاكم بشكل مُطلق عبر حالة من التمرد الاجتماعي الواسع على سلطة فردية مستبدة , وحالة من فشل الدولة في تطوير آليتها ومشاريعها وأدواتها , ولكنها لاتصل لمرحلة الثورة التي تحمل مشروع سياسي متكامل وقادة ورموز لقيادة هذا الحراك , ومع هذا فقد تصادم التغيير بحقول قاسية من الألغام والمعوقات التي تركتها الأنظمة النائمة التي حافظت على تجميد الأوطان في حالة الركود وخلق الأزمات لمنع التغيير , وبتالي التقت طبيعة المجتمع الثائر والتي تنفست من رئة ثقافة الحاكم المستبد , الذي ثارت عليه وتأثرت بسلوكهِ مع الأزمات والتحديات الخطيرة على أصعدة مختلفة في المنطقة , مما أضعف مجتمع الثورة عن خلق واقع جديد حقيقي يُثري مناخ الحريات والديمقراطية بشكل أكثر رصانة واستمرارية , وأثبتت تجربة الربيع العربي أن عقل المعارضة السياسية لم يستوعب في فترة ما عقل الدولة وصناعة الحكم .

وتطور هذا الصراع الخارجي بين مناطق النفوذ الدولية والصراع المحلي الداخلي في العالم العربي , وهو صراع إثبات وجود على جميع الأصعدة , حتى وصل الأمر لما عليه اليوم من صراع دولي شامل بين أقطاب العالم في الشرق الأوسط على الممرات المائية المهمة وعلى مخزون الثروات النفطية والغازية , والأخطر هو حالة صراع الهوية الطائفية التي فرضت واقع من التشاحن الاجتماعي في بعض المناطق وذهبت بعيدًا في بعض المناطق الأخرى من الدخول في مرحلة تغيرات ديمغرافية خطيرة على تركيبة الكيان الاجتماعي لهذهِ الدول , من توغل المجتمع الإمامي الدخيل التابع لإيران على حساب المجتمع السُني في العراق وسوريا وهو المكون التاريخي الأصيل في المنطقة , وعلى حساب أيضًا المدارس الشيعية القديمة الكلاسيكية في العالم العربي مثل المذهب الزيدي والتي كانت قريبة من أهل السنة والجماعة ولم تكن سبَبًا في نشوء حالة الانقسام والتحارب الأهلي داخل نسيج المجتمع .

ويبدو أن تمكين الحالة الديمقراطية في العالم العربي اليوم , هو أمر مهمٌ بضرورة وليس حالة من الترف السياسي , فهو أمر أساسي وفعَّال لفرض الاستقرار الأمني والسلم الاجتماعي العام في المنطقة التي أصبحت تتغذى من مصادر ثقافية تخدم حالة النزاع وتُقوض السلم الأهلي والاجتماعي لصالح صراع قوى نفوذ دولية مختلفة تستخدم تركات الفشل الداخلي لإذكاء الصراع المحلي خدمةً لمصالحها الجيوسياسية ؛
كذلك الاستقرار السياسي والأمني والنمو الحضاري والثقافي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو مفتاح وبوابة لخلق الاستقرار الدولي , وصناعة التفاهمات الدولية الكبرى بين أقطاب العالم , وهذا يحتاج مِنَّا كعرب ومسلمين أن نشارك بفاعلية في هذهِ المرحلة , عبر فرز قيادات سياسية تُجيد لغة التفاوض الدولية , بحيث تساهم في مرحلة صناعة العالم الجديد وتحفظ مصالح الأمة من منطلق أنَّنَا الأمة الوسط بين الأمم المختلفة ؛
فالحالة الشرق أوسطية يبدو أنَّها صُدِّرت وانتقلت إلى حواضر العالم الأول في حرب أوكرانيا والتي هي جزء لا يتجزأ من صراع عواصم النفوذ الدولية , بحيث أصبحت حالة المواجهة العسكرية هي من تصنع الإرادة والتفاهمات السياسية , وتحفظ النفوذ في صراع خشن بين المكونات الثقافية والاجتماعية والمشاريع السياسية وليس عبر طاولة التفاهمات المرنة كما في السابق ؛
لذلك ما نشاهدهُ اليوم ربما هو بداية لحالة نزاع أكبر على الأرض في أوروبا بعد ما بدأت حرب أوكرانيا وهذا أمر مُستجد ولم يحدث بعد الحرب العالمية الثانية , وتداعياتهِ الخطيرة على بقاء الدور الفعَّال للقارة الأوروبية في حالة استمرار ثقافة المواجهة العنيفة على حساب التناغم الناعم بين المختلفات وخلق تكتلات الشراكة والمنفعة المتبادلة.
ومن المفترض علينا كعرب ومسلمين المشاركة في صياغة العالم الجديد , الذي يتم تأسيسه الآن وهو عالم ما بعد الحرب الثانية العالمية , باستحداث مناخ ثقافي جديد لا يُضيع الجذور ولكن يرى بعين واقع هذا الزمن , وما وصلت إليه التجربة المتراكمة للإنسان اليوم , ويرى بوضوح موقعنا من الحضارة الإنسانية في هذا التوقيت الحساس والخطير .
كما يجب أن نفكر في صياغة تحالفات كبيرة على مستوى العالم العربي والإسلامي تجعل لوجودنا قيمة ولدورنا فاعلية أوسع وتحفظ أمن منطقتنا التي هي جزء أساسي من أمن العالم , فالصراعات الكبرى التي تحدث الآن هي ليست بين كيانات فردية معزولة , بل بين تكتلات بشرية مُتعددة , تجمعها إمَّا مفاهيم ثقافية مشتركة , أو مصالح اقتصادية وأمنية وعسكرية , أو مخاطر وجودية تدفع بها نحو تكوين تكتلات دفاعية مشتركة للبقاء في الحياة الفاعلة في هذا العالم المادي , الذي يؤمن بأسباب البقاء وليس أمنياتهِ .
ويبدو أنَّ حالة الفردية في عالمنا العربي حيثُ الفرد هو محور كل شيء سواءً في عقل الحكم أو عقل المعارضة , بدأت تُشكل خطرًا على وجودنا بين الأمم في العالم الحديث والمستقبلي , الذي أساس بُنيانهِ المجموعات المتحدة والتكتلات البشرية الكبيرة والجمهوريات الواسعة , التي تُساهم في المنتوج العالمي للزراعة والصناعة والابتكار العلمي والتقدم المعرفي والتقني , فهي سلسلة يُغذي بعضها الأخر , فلن يستتب الأمن بشكلهِ النهائي والحقيقي في عالمنا العربي سوى بترسيخ ثقافة الديمقراطية وما تحملهُ من مفاهيم وكذلك انتهاء حالة الفرد لصالح حالة المجاميع الفاعلة , وهذا لا يتأتى سوى من خلال نمو ونشوء حالة فكرية اجتماعية جديدة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى