اعتبار مآلات الأفعال في الفتوى (منهجيات فقهية)
بقلم د. رانيا محمد نصر “عضو هيئة علماء فلسطين” (خاص بالمنتدى)
لم يتعلّم الصحابةُ -رضوان الله عليهم جميعاً- مِن مُعلمهم الأول محمد صلى الله عليه وسلم الدّينَ وأحكام الشريعة والعبادات والمعاملات والأخلاق فقط؛ بل تعلّموا منه فنَ المنهجيات الفكريّة والموازنات العقليّة والمحاكمات المنطقيّة التي تُوضع فيها كل هذه الأحكام كقاعدة بناء منهجي يضبط ويهذب المعلومة في قالب ناظم، وذلك لتحقيق نتائج تكون أقرب لمراد الشارع الحكيم، مُعتبراً مآلات الأفعال كأحد مكونات هذه المنظومة المُتكاملة.
فالفقيه والعالم الشرعي الذي يشتغل في الفتوى يجب ألّا يغفلَ عن هذه المنهجيات في ابتناء الأحكام الشرعيّة والتأصيل لها؛ مراعياً بذلك أحوال المُستفتي متحرياً دوافعه، موازناً بين المصالح والمفاسد الخّاصة والعامّة الناتجة عن تلكم الفتوى.
خير الخَيرَين وشرَّ الشّرَين في الفتوى
إنّ الفقه الإسلامي والاشتغال فيه من أشرف العلوم على الإطلاق، لكنه في نفس الوقت من أخطر التّخصّصات التي قد يشتغل فيها العالم الشرعي، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: “ليس مِن العقل أن يعلم الخير من الشّر فقط، بل يجب أن يعلم خير الخيرَين، وشرّ الشّرين، ويعلم أنّ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والتّرك مِن المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقط يدع واجبات ويفعل محرمات”.
فليست مشكلتنا الحقيقية في الواقع المعاصر معرفة الحرام من الحلال، فهذا كُلنا يعرفه أو بالأحرى يَسهُل علينا معرفته، إنما المشكلة الجوهريّة في معرفتنا الحكم الدّقيق عند تزاحم المصالح أو المفاسد مما يوقع الناس في حرج شديد وتخبّطٌ كبير سواء على المستوى السياسي والعسكري أو الاجتماعي أو الديني ..الخ
وهنا تظهر أهمية وخطورة وظيفة المفتي، وتُسبَر قدرتُه الحقيقية في الخروج بأحكام فقهية منضبطة توافق مُراد الشارع وحكمته مراعياً فيها مصالح الناس، وناظراً بعين فقهيّة فاحصة إلى جملةٍ من الاعتبارات التي لا يستغني عنها المشتغل في الفقه.
ومن أهم تلك الاعتبارات هو النظر في مآل الأفعال والنتائج المُترتبة على تلك الفتوى، وموازنة المصالح والمفاسد وتقدير أحوال الناس مكاناً وزماناً، غيرَ متجاهل الأعراف والعوائد، مُحَكّماً ميزاناً فقهياً شديد الحساسية فيما لم يرِد فيه نص أو حكم.
فقه ابن عباس في النظر في المآل قبل الفتوى
يُنقل عن سيدنا ابن عبارس رضي الله عنه، الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه قائلاً: “اللهم فقهه في الدّين وعلمّه التأويل”، أن رجلاً سأله: “ألِمَن قَتلَ مؤمناً توبةٌ؟ قال: “لا، إلى النار”، فلما ذهب قال له جُلساؤه: ما هكذا كُنت تُفتينا، فما بال هذا اليوم؟ قال: “إني أحسبه مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً، فبحثوا في أثره، فوجدوه كذلك.
في مثل هذه المواقف؛ تتجلّى براعة الفقيه الألمعي سيدنا ابن عباس في قدرته على استشعار مُراد السّائل ناظراً في حاله، معتبراً فقه المآل، فعندما أبصر في عين ذلك السائل شرارة الحقد والتّشوف للقتل، وغلب على ظنّه أنه يبحث عن فتوى تفتح له باب التوبة بعد ارتكاب جريمة القتل؛ قمَعَه وأغلق عليه الطريق رادعاً له عن فعل هذه الكبيرة، وربما لو جاء هذا السؤال بعد ارتكابه الجريمته؛ لفتح له باب الأمل في التوبة والإنابة. وهنا لنا أن نتساءل كم من أسئلة تمر على العلماء المشايخ اليوم شبيهة بهذه الأسئلة؟؟
لا شكّ أنها كثيرة، لكن هل يُفتى للناس بالمنهجيات التي فهمها الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أنها تقدم لهم مجردة عن سياقات السؤال؟؟
دراسة حال المُستفتي بالنظر في المآل
في حقيقة إن الفتوى يجب ألا تصدر إلا بعد دراسة عميقة لحال المُستفتي وبَعد النّظر ملياً في اعتبار المآل وما ستصير إليه الأمور، فقد يختلف أصل الحكم الفقهي في الشريعة عن الفتوى التي قد تصلح للمستفتي نظراً في اعتبار مآله؛ فقد يكون الأمر مباحاً ويتحوّل سداً للذريعة إلى حرام في المسائل التي يغلب على الظن وقوع الفساد فيها، مثل بيع السّلاح لمن يغلب على الظّن أنه سيقاتل به المسلمين فيتحوّل المباح هنا إلى حرام، وقد يكون الحكم سُنة أو مستحباً فيتحول إلى فرض أو واجب كالذي لا يصبر على النساء مثلاً ويغلب على الظّن أنه بعدم زواجه سيقع في الحرام؛ فهنا يتحوّل حكم استحباب الزواج في حقّه إلى واجب تجنباً للوقوع في الحرام، وهكذا.. فالفتوى ترتكز في جوهرها على ما هو أصلح لشأن هذا المُستفتي في دينه ودنياه وآخرته؛ وذلك حال إعمال المنهجية التي اتّبعها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تعلموها وفهموها عنه.
الدعوة تكون بالترغيب أم الترهيب؟
هناك من يدّعي ضرورة إفتاء الناس بالأحكام الشرعية المجرّدة حتى وإن آل الأمر لمفاسد معتبرة من باب الأمانة الشرعية في نقل الأحكام -على حد تعبيرهم-، لكن هذا الفهم يخالف منهجية الإفتاء كما فهمها الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هذا الفهم مجانباً للصواب وللفهم الدقيق لحقيقة وروح الأحكام الشرعية، وكما قال العلماء إن الأحكام دائرة مع دوران مصالح العباد، ولم تُشرّع إلا لمصالح العباد، فأي مصلحة بإفتاء الناس بالأحكام الشرعية المجردة عن سياقها مع غلبة الظن أنها قد تدفعهم للوقوع في المحظورات؟!
إن الدّين الإسلامي دين الرّحمة والتّسامح والمغفرة والعفو والتّجاوز والإنسانية بكل ما يحمل من أحكام ومبائ أخلاقية وأسس ومنهجيّات، وهذا لا يختلف عليه إثنان، لكنه في نفس الوقت دين لا يُقبل أن يُتلاعب فيه والذين يعتقدون أنّ الدّعوة للدين الإسلامي وتحبيب الناس فيه لا يكون إلا بالتبشير والترغيب فقط، فقد أبعد أيّما بعد، وأعظم دليل على ذلك هو نصوص القرآن الكريم التي جاءت بآيات التّخويف والتّهديد والعذاب والتّحذير من غضب الله وذكر العاقبة ومصائر المخالفين.
شريعة إسلامية متوازننة وشمولية
الدّين الإسلامي دين شمولي متكامل صالح للبشريّة جمعاء فيه الترغيب والترهيب، والرّحمة والعذاب، والطمأنة والتّخويف، هو دين طُبع بميزان إلهي دقيق لا تَرجَح فيه كفّة على أخرى، هو دين التّوازن، قال تعالى: ” لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ”[الحديد:25]، حكى ابن كثير في تفسير “وأنزلنا معهم الكتاب” أنّ المقصود بالكتاب هنا كل الكتب السماوية التي أنزلها الله عز وجل على عباده، والميزان: هو العدل والحق وهو اتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به، أما في تفسيره “وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد” أي: وجعلنا الحديد رادعاً لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحُجّة عليه، ويلوح للمتأمل في الآية اقتران إنزال الأحكام الشرعية المنضبطة والموزونة بميزان العدل الإلهى بقوة السلاح الرادعة أو العقوبات المُعبّر عنها ب “الحديد” للمخالف ولمن أبى الطاعة والامتثال، فهذا الدين محفوظ لا يقبل أن يستهان بأحكامه قال تعالى: “يا يَحْيى خُذِ الكتاب بقوة” مريم 12 أي: افعل ما أمرتك وتجنب ما نهيتك عنه، والأمر كما هو معروف في علم الأصول يفيد الوجوب إذا خلا عن القرائن الصارفة.
ليس وظيفة المُفتى وعلماء الشريعة تخويف الناس وتيئيسهم من رحمة الله، بل العكس تماماً، لكن الفقيه الحقيقي هو الذي يقايس بين المصالح والمفاسد بميزان الحكمة واعتبار المآل، وذلك بإفتاء الناس بالنظر بما يُصلح أحوالهم ومعاشهم.
كيفية الفتوى قبل الفعل وبعده!
مسألة أخرى يجب الانتباه لها، أن الفتوى قبل الإقدام على الفعل لها ضوابط واعتبارات ومواززين تختلف عن الفتوى بعد فعل الفعل، فالفتوى قبل الفعل يجب أن يكسوها الترهيب من الإقدام على ما يخالف الشرع، والتحذير من الوقوع في المحظورات، والتذكير بالعواقب من غضب الله في الدنيا والآخرة، هذاإذا غلب على ظن المفتي رغبة السائل في فعل المحظور واعتقدَ عدم جدوى أسلوب الترغيب واللين معه، أما بعدها وغالباً هنا ما يكون المُستفتي نادماً على ما أقدم عليه، فيسأل ليطمئنّ قلبه أنّ هناك بصيص أمل في عفو الله وغفرانه، فمهمة المفتي هنا تنحصر في فتح أبواب الأمل وعدم تيئيس المخطئ من رحمة الغفور الودود.
فلسفة المؤيّدات الشرعيّة وعلاقتها باعتبار المآل
إن المؤيدات الشرعية سواء كانت المقدرة منها مثل الحدود والقصاص أو غير مقدرة مثل التعزيرات أو المالية مثل الكفارات والدّيات لم يضعها الشارع اعتباطاً؛ بل إنها وُضعت لحكمة جليلة وهي ردع الناس وزجرهم عن المحظورات وذلك لحماية المجتمع الإسلامي من الجرائم، وكذلك آيات الترهيب جاءت لمصالح العباد في نهيهم عن الإقدام على فعل المحظورات، ولتخويفهم من المآلات التي قد لا يحمد عقباها، وكل هذا يصب في مصالح العباد الدنيوية والأخروية.
إن نظرية اعتبار المآل في الشريعة من أعظم النظريات التي قعّد لها علماء الشريعة والتي يجب الأخذ بها كمنهج قويم في إفتاء الناس، مراعين أساليب الترغيب وغير غافلين عن أساليب الترهيب؛ فمن أمن العقوبة أساء الأدب ووقع في المحظور.