مقالاتمقالات المنتدى

الجغبوب منارة العلم ومركز قيادة السنوسيين

الجغبوب منارة العلم ومركز قيادة السنوسيين

 

 

بقلم سراج دغمان “باحث ليبي” (خاص بالمنتدى)

 

 

إنَّ قلمي المتواضع ليتشرف بكتابة هذا المقال عن الحركة السنوسية المباركة التي كان لها دورٌ مهمٌ وريادي في بناء وتأسيس كيان المجتمع الليبي الحديث بحيث جمعت أصالة القبيلة وحضارة المدينة في كيان الحركة الروحي والسياسي فقد استطاعت أن تُذيب العصبيات المناطقية  والجهوية والقبلية لصالح مشروع المعرفة والعلم والانتاج والتأخي على المفاهيم الإسلامية النبيلة  ومقاومة المستعمر ونشر الفضيلة والخير والعلم على منهج الاعتدال والوسطية وتأسيس دور العلم فيما يُعرف بالزوايا السنوسية الممتدة على معظم الخارطة الجغرافية للوطن الليبي لتشكل حلقة تعليم وتربية روحية , وكذلك أسست لثقافة الإنتاج الزراعي عبر مُريدين الزوايا وقيادة وتهيئة مكونات المجتمع وتجهيزه لتصدي للمستعمرين والغزاة , كما كان للحركة السنوسية الفضل في مواجهة حمالات الاستعمار في أفريقيا والتصدي لموجات التنصير وعلى إثر هذا دخل الملايين من سكان أفريقيا الدين الإسلامي الحنيف , وللأمانة العلمية فإن المرجع للأحداث التاريخية لمادة المقال هو كتاب تاريخ الحركة السنوسية في أفريقيا لفضيلة الشيخ الدكتور علي الصلابي وهو كتاب موسوعي جُمعت فيه أهم المراجع التاريخية المُحققة .

 

ولعلي أطرح سؤالاً في هذا المقال لماذا كانت ليبيا تحديدًا موطنًا حَراكيًا للإمام محمد بن علي السنوسي وكيف كان المشهد السياسي والاجتماعي العام في ليبيا في ذلك الوقت ..

 

 

العقل الفكري والسياسي لدى الإمام الجليل محمد بن علي السنوسي

 

 

جمع الإمام محمد بن علي السنوسي ذو الأصول الشريفة التي تربط نسبهُ ببيت النبوة الشريف بين مدارس علمية مختلفة في رحلتهِ الطويلة لطلب العلم والمعرفة والتي بدأت منذُ مرحلة التنشئة حيثُ ولد عام 1202 هـ الموافق 1787 م في مستغانم بالجزائر, فكان من أسرة علمية صالحة ساهمت في تكوينهِ الأول , وثم رحلته إلى المغرب حيثُ طلب العلم في فاس وقد تحصَّل من جامع القرويين على درجة علمية رفيعة في ذلك الوقت بما يُعرف بدرجة المشيخة الكبرى , وأثناء رحلة ذهابهِ إلى أداء فريضة الحج قد جال بلدان وأمصار مختلفة من قابس مرورًا بطرابلس وبنغازي والقاهرة وصولاً إلى مكة المكرمة حيث التقى بالشيخ أحمد بن ادريس الفاسي ولازمهُ إلى حين وفاتهِ وأخذ الكثير من علومهِ وفي هذهِ الرحلة الطويلة التي استمرت منذُ عام 1221 هـ إلى حوالي 1255 هـ حيث خرج من مكة  , قد جالَ في بحور مدارس علمية مختلفة من المغرب وحتى المشرق جمع بين علوم النقل والعقل فكوَّنت لديه فكرًا جمع بين المدرستين , ومعاينتهِ لشواهدٍ سياسية مختلفة كانت قد مرَّت بمعظم هذه الجغرافية أثناء رحلتهِ المباركة مَكَّنتهُ من قراءة الموقف السياسي والاجتماعي في البلدان العربية المسلمة في ذلك الوقت ومعاينة أحوال الأمة عن قُرب .

وقد كانَ العقل الحركي السياسي حاضرًا لدى الإمام محمد بن علي السنوسي في معظم تنقلاتهِ وجولاتهِ حيثُ منَّ عليه الله عز وجل بقبول دعوتهِ عند الناس فكوَّن مزيجًا من الأنصار والأتباع على مستوى النخبة العلمية وعلى مستوى عوام الناس حيثُ تركَ أثرًا علميًا وروحيًا في مختلف البقاع التي زارها ومكث بها , وكان قد أسس زاويتهُ الأولى في الحجاز التي تُسمى زاوية أبى قُبيس سنة 1242 هـ على أعين شيخهِ أحمد بن ادريس الفاسي الذي أثَّر في البُنية الفكرية لدى الإمام السنوسي الأكبر, قبل أن يخرج منها بتجاه المغرب العربي قاصدًا النضال ضد المستعمرين الفرنسيين في الجزائر والذين كانوا قد تتبعوا أخبار الإمام السنوسي وتحركاتهِ من خلال عيونهم التي يرسلونها في مواسم الحج أثناء مكوثهِ في مكة المكرمة , وعند قدومهِ لليبيا مرورًا بمصر التي مكث بها قرابة العام فقد تعرض خلال إقامتهِ هناك لمحاولة اغتيال بالسم كادت أن تودي بحياتهِ وكانَ لهُ كُرسي علم في الأزهر الشريف .

بينت هذهِ الرحة الطويلة أن المشرع الفكري لدى الإمام السنوسي قد رُفض من قِبل مراكز القوى السياسية المُتحكمة في البلدان العربية والمسلمة في الشرقِ والغرب في ذلك الوقت , وكذلك رفضت بعض المدارس الدينية بعض الأطروحات التجديدية التي جاءت في مؤلفات الإمام السنوسي الذي جمع بين غزارة التأليف والدعوة والعمل الحركي الإصلاحي , فكان الإمام السنوسي يؤلمهُ ما وصل إليه حال الأمة من تشتت وضعف في كيانها وكان يرى بوادر سقوط الدولة العثمانية لعدة عوامل وأسباب يطول شرحها , ويخشى من الفراغ الذي بدأ يدب في كيان العالم الإسلامي لصالح القوى الاستعمارية المختلفة .

دخول الإمام السنوسي إلى ليبيا ..

كانَ أهل برقة هم أول من استضاف الإمام محمد بن علي السنوسي عند قدومهِ من سيوه برفقة الشيخ عمر بحوا الفضيل والشيخ محمد الشفيع والشيخ المهدي الفيلالي حيثُ استضافت الإمام السنوسي قبيلة العواقير من قِبل بيت اللواطي وقد أكرموا الإمام ورفاقهِ واحتفوا بهِ ,وثم استضافهُ الشيخ علي لطويش شيخ قبيلة المغاربة وأكرمهُ  , وثم رحل الإمام بتجاه الغرب قاصدًا دخول تونس ومنها إلى الجزائر للمشاركة في الجهاد ضد المحتل ومقاومة الاحتلال الفرنسي الغاشم فوجد آل المنتصر من أعيان مدينة مصراتة ينتظرون الإمام في منطقة الهيشة ودخلوا بهِ مصراتة حيث أكرموه أهلها وأقام عندهم عدة أيام وثم اتجه إلى زليتن ومنها إلى طرابلس حيثُ نزل في منزل أحمد المنتصر , ليستعد لذهاب لزوارة ومنها دخل تونس ولكن رصد المخابرات الفرنسية للإمام حال عائقًا دون استكمال طريقيهِ فعاد إلى طرابلس سنة 1257 هـ , ولكنهُ استطاع أن يُشكل حلقة إمداد عسكري بسلاح والمال إلى الأمير عبد القادر الجزائري عن طريق طلبة الإمام المقربين أمثال الشيخ عمر الفضيل والشيخ أبو خريص الكزة .

حيثُ تشكلت قناعة لدى الفرنسيين أن الإمام السنوسي كان العقل المُحرك خلف الكثير من أعمال المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي البشع لجزائر

 فكما جاء في كتابات المؤرخ والمستكشف الفرنسي هنري دوفرييه

( إن السنوسية مسؤولة عن جميع أعمال المقاومة التي قامت ضد فرنسا في الجزائر وأنَّها السبب في الثورات المختلفة التي قامت ضد فرنسا كثورة محمد بن عبدالله في تلمسان وصحراء الجزائر سنة 1848م – 1861م وعصيان محمد بن تكوك في الظهرا عام 1881م )

العودة إلى برقة ..

هذهِ المرة عاد الإمام السنوسي بعد ما وجد من علي باشا عشقر الوالي العثماني بطرابلس شيء من الرفض لبقاء الإمام هناك ونيتهِ بناء صرح التجديد والإصلاح والدعوة والمقاومة في برقة متحالفًا مع قبائلها التي امتزجت وانصهرت مع دعوة الإمام السنوسي وتركت بعض التصرفات والمشاحنات والخصومات والنزاعات إلى نور المعرفة والعلم الربَّاني والتربية الروحية التي جاء بها الإمام السنوسي الأكبر, وكذلك مُريدي وأتباع الإمام السنوسي من الغرب والجنوب الليبي, كما كانَ لآل المنتصر من مدينة مصراتة دور مهم في تقديم واجب الحماية للإمام السنوسي في الغرب الليبي والذين قاموا بمرافقة الإمام مع أعيان ومشايخ مصراتة في رحلتهِ إلى برقة حيثُ كان مشايخ برقة وأعيانها ورجالها في انتظار الإمام السنوسي الكبير في مدينة سرت.

 وهنا تُظهر لنا حركة التاريخ الليبي العُمق السياسي والاجتماعي والاقتصادي الواحد الذي يجمع بين أهل برقة ومصراتة في الكيان الوطني الليبي , بحيث استطاع هذا الامتداد والتمازج من بناء لحمة صلبة بين أبناء الشعب الواحد يستحيل معها  دعوة التفرقة والعصبية والتقسيم .

  كما يبدو أن لكلمات شيخ الإمام السنوسي العلامة أحمد بن ادريس الفاسي الذي أقام في بنغازي وبرقة لبرهة من الزمن في طريق ذهابهِ إلى مكة , حيثُ أثنى على أهلها مِمَّا رأى فيهم من محبة للخير والصلاح , وكان الشيخ الفاسي قد دعا لهم دعوتهِ الشهيرة المباركة

(هذهِ بلادنا فيها تحيا أورادنا حيّها سعيد وميّتها شهيد طُوبى لمن أراد الخير لأهلها وويلٌ لمن أرادَ الشر بأهلها )

فكانت هذهِ الصورة لا شك حاضرة في مخيلة الإمام السنوسي بالإضافة إلى أنَّ الإمام قد رأى رؤية عظيمة بالجغبوب بأن يقيم بها زاوية العلم ومنارة المعرفة الكبرى في ذلك الوقت لتصبح مركز الدعوة والقيادة الذي بهِ وصل السنوسيين إلى العمق الإفريقي وصالوا وجالوا ضد الغزاة والمستعمرين .

كذلك ما وجدهُ من حفاوة الترحيب من أهلها الذين يمتازون بكيان اجتماعي متين ومتسع يبدأ من البحر والساحل والجبل وينتهي إلى أعماق الصحراء حيثُ موطن قبائل السعادي والمرابطين والحضر من سكان بنغازي .

وعند التحليل السياسي لسبب اختيار الإمام السنوسي لبرقة موطنًا لولادة هذهِ الحركة المباركة فهو عائدٌ لعدة أسباب وعوامل :

1- رفض مراكز القوى السياسية الحيوية في المنطقة في ذلك الوقت للفكر التجديدي الذي جاء بهِ الإمام السنوسي سواءً في المغرب أو المشرق.

2- أهمية الخارطة الجغرافية المُتسعة لبرقة وأبعادها الجيوسياسية فهي مُطلة على العمق الإفريقي عبر الصحراء وكذلك قريبة من مصر وامتدادها نحو الغرب الليبي  وتضاريسها ذات الحماية الطبيعية.

3- كون برقة وبنغازي هي جغرافية ومركز التغيير السياسي والحركي والسكاني الأول في الشمال الأفريقي حيثُ هي مُلتقى الشرق الأوسط بالمغرب الكبير.

4- التركيبة القبلية لسكان برقة ذات النسيج الاجتماعي الواحد والتي والت الإمام السنوسي وانصهرت في دعوتهِ وهي من القبائل ذات الطبيعة المحاربة من بني هلال وبني سليم والتي كانت متعطشة للإصلاح والدعوة والفكرة.

5- الفراغ السياسي داخل برقة في ذلك الوقت مما سمح بعدم إعاقة مشروع الإمام السنوسي وبعدها عن مناطق النفوذ المباشر لسلطات العثمانية وكذلك بُعدها عن أنظار الفرنسيين.

تكوِّين الزوايا والرؤية الفكرية للحركة

كانت روحانية  الإمام السنوسي وكرماتهِ العظيمة وصدق ونُبل وصفاء سريرته وبساطة طرحهِ لدعوتهِ مع عوام الناس مفتاحًا لكسب القلوب وأسر الأرواح فحدث معهُ حوادث استدعت ظهور الكرامة وبها جُلبت ولاية الأتباع واستقر بها ولاء الناس في برقة ,

ومن أشهرها شفاء الشيخ أبى شنيف الكزة شيخ وزعيم قبيلة العواقير الذي حاصرهُ المرض وشارف على الوفاة وكان في حالة من الغيبوبة فرقاهُ الإمام فشفي في الحال وكان لهذا الأمر وقعهُ وصداه في القلوب , فبدأ الناس يتبركون بالإمام أينما ذهب وتَكوَّن في أنفسهم الولاء والسمع والطاعة للإمام السنوسي .

كانت زاوية البيضاء أم الزوايا فهي أول زاوية يشيدها الإمام السنوسي في ليبيا مع أنصارهِ ومُرِيديه وأتباعهِ من أهل برقة وليبيا بعد زاوية أبى قُبيس بالحجاز

فكان شيخ قبيلة البراعصة الشيخ أبوبكر بوحدوث من أكبر داعمي الإمام السنوسي بالمال والجاه والنفس فقد ذكرت المصادر التاريخية أنَّهُ كان يشارك البنائيين أعمالهم في بناء المسجد والزاوية في البيضاء ويحث الناس من أجل إتباع تعاليم الإمام السنوسي ,

وهذا إن دل فهو يدل على صفاء ونقاء وروحانية صاحب الدعوة والأتباع أيضًا الذين أصلحوا أنفسهم بدعوة الإمام السنوسي وقدموا تاريخًا عظيمًا على مدار أجيال وأجيال بدأ منذُ إنشاء زاوية البيضاء إلى مقارعة الفرنسيين في أفريقيا والإيطاليين في ليبيا وثم مصارعة البريطانيين في العمق المصري وحتى نيل استقلال ليبيا .

فقد نجحت الحركة السنوسية المباركة في تكوين نموذج اجتماعي فريد في ليبيا ليصنع تشكيل الحركة الوطنية الكبرى في ليبيا وهذبتها بتعاليم الإسلام الحنيف كمرجعية وسطية علمية وروحية ساهمت في تعزيز روح المقاومة والكفاح من أجل تحرير الوطن وبناء دولة الاستقلال في عام 1951 م على أيدي الملك الصالح ادريس السنوسي حفيد الإمام السنوسي الأكبر .

 كان نظام الزوايا الذي امتد على كامل التراب الليبي والذي ارتكز عمق امتدادهِ الفعلي في شرق ليبيا وجنوبها بحيث كانت تؤسس بنظرة استراتيجية ثاقبة للإمام السنوسي , فكانت موزعة على طرق ممرات القوافل التجارية وكذلك لديها طبيعة عسكرية في اختيار تضاريس أماكنها وتحصيناتها بحيث تكون عصية على الغزاة

ووصل امتداد الزوايا إلى نواحي تونس ومصر واليمن وتشاد كما سبق تكوينها  في الحجاز بحيث وصل عددها لقرابة الخمسين زاوية كانت منارات لتحفيظ القرآن الكريم وتعليم العلوم الشرعية وتهذيب الأنفس والتزكية الروحية , كما رسَّخت ثقافة الانتاج في أنفس المريدين والكسب من خلال العمل بحيث كان لكل زاوية مساحات خاصة بها من الأراضي الصالحة لزراعة وأنشطة الاكتفاء الذاتي .

 وقد أسَّسَ الإمام السنوسي الزوايا على نظام هرمي دقيق وربط بينها ليشكل حلقة وصل عميقة تربط هذه الزوايا بالزاوية المركزية الكبرى بالجغبوب التي كانت تُدير وتتابع كل الزوايا  .

وكان لزوايا دورها في تقديم خدمات اجتماعية مهمة من إطعام المساكين وإيواء المشردين وكانت هي القضاء الفاصل بين المتخاصمين وفض النزاعات فكان لها دور مهم في الإصلاح ذات البين وكذلك في حماية القوافل التجارية .

يقول الإمام محمد بن علي السنوسي في إحدى رسائلهِ عن الزوايا

( إنها بيتٌ من بيوت الله ومسجدًا من مساجدهِ إذا حلت في مكان حلت فيه البركة والرحمة وعمرت بها البلاد وحصل النفع لأهلها لأنها ما أسست إلاَّ لقراءة القرآن ونشر شريعة ولد العدنان)

ومن أهم الزوايا هي زاوية الجغبوب التي أختارها الإمام السنوسي لتكون مركزًا للقيادة السنوسية واستقر بها عام 1268 هـ – 1852 م ,

 وهذا عائد لعدة أسباب وعوامل فالإمام صاحب كشوفات عظيمة وهو من أهل الرؤية وقد رأي منامًا يرشدهُ لهذا الموقع والمكان لإنشاء الزاوية الرئيسية فيه , كذلك كانَ يُنَبِّهُ مُريديهِ وأتباعه وأهل ليبيا بأن هناك غزوٌ قادم من البحر وأخبرهم أن الجغبوب ستكون مركز أمان لهم لأنه بعيد عن السواحل ومحصن بصحراء وعرة , كذلك لجغبوب أهمية استراتيجية  أخرى فهي بوابة مفتوحة على جغرافية الصحراء السياسية والاجتماعية بتجاه العُمق الإفريقي فاستطاع أن يصنع من الجغبوب حاضرة التنوير والدعوة والهداية والإصلاح , كذلك ابتعد الإمام عن مراكز الحكم في ذلك الوقت وكانت سياسته تميل للهدنة مع خصومهِ من المسلمين بحيث كان يرفض رفضًا باتًا أي مواجهة داخل كيان الأمة الإسلامية ويعتبر ذلك خدمة لأعدائها , كما تجنب الصدام مع الحركة المهدية التي كان مركزها السودان أو مع الولاة العثمانيين قبل أن تتفهم الدولة العثمانية الدور الإيجابي والمهم للحركة وتباركهُ أثناء قيادة الإمام الكبير محمد المهدي السنوسي فيما بعد  .

وكان الإمام قد أنجب ولديه المباركين السادة محمد الشريف السنوسي  والمهدي السنوسي من زواجهِ الثالث من ابنة الشيخ أحمد ابن فرج الله وهي السيدة فاطمة وكانَ عمرهُ في ذلك الوقت يناهز 59 عامًا وقد أرشدتهُ الرؤية لهذا الزواج فقد رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول تزوج من إحدى بنات هذا الرجل السيد أحمد ابن فرج الله تأتيك بولدين يكونان من المهاجرين والأبرار.

وتوفي الإمام الأكبر محمد بن علي السنوسي رضي الله عنه بالجغبوب ودفن بها سنة 1859م بعد رحلة مباركة وطويلة في طلب العلم والدعوة والمقاومة والكفاح ضد الظلم والاستبداد وإزالة الخلافات بين أبناء الأمة وتوحيدها ضد أعدائها ومستعمريها .

فقد أسَّسَ هذا البُنيان الصلب لحركة غيرت وجه التاريخ وحمت الإسلام وأهله في ليبيا وأفريقيا وكانت هي منارة الإحياء للمجتمع الليبي وإعادة بنائهِ بعيدًا عن العصبية القبلية المقيتة وأمراض الجهويات والمناطقيات التي قسمت الوطن ومزقت نسيجه الاجتماعي ,

فكان مريدي الشيخ من كل جغرافية الأقاليم الليبية ومشايخ الحركة وقادتها من مختلف القبائل والمدن الليبية وقد بارك الله سبحانه وتعالى هذا الصرح وامتد ليشكل حلقة نضال وكفاح صارع بها السنوسيين ومريديهم وأنصارهم الاستعمار الفرنسي والإيطالي والبريطاني وواجهوا حملات التبشير بنور الدعوة المحمدية ,

ولم يغادر السنوسيين ليبيا إلاَّ وهي دولة ووطن آمن مستقر يعيش أهله في رغد العيش وكانَ أمامهُ مستقبلاً منيرًا بين الأمم والبلدان في التنمية والتعمير والاقتصاد والتعليم والحريات والعدالة , ولكن للأسف قد انقطعت سكة قطار الوطن الليبي في مسيرة تقدمهِ منذُ قدوم الانقلاب العسكري في سبتمبر 1969م , فكما قال الملك الصالح ادريس السنوسي مخاطبًا أبناء وطنهِ (إنَّ المحافظة على الاستقلال أصعب من نيلهِ ).

وفي النهاية نخرج بأن الجغرافية الليبية هي مركز مهم من مراكز التغيير السياسي والفكري في المغرب العربي عبر التاريخ , وأنَّ الحالة الليبية أثناء دخول الإمام السنوسي للوطن الليبي كان بها شتات اجتماعي واضح وإدارات سياسية ضعيفة بعيدة عن تشكيل المجتمع الواحد لكل الأقاليم الليبية أو أن تقوم بإصلاح اجتماعي يأتي بالاستقرار والنمو في الداخل الليبي ,

 بالرغم من محاولات يوسف باشا القرمانلي والي طرابلس في وقتٍ ما من تأسيس كيان ليبيا القوي عبر امتداد سلطة حكمهِ لكل الأقاليم وتعميق جذور الدولة وتقويتها في الجغرافية الليبية وصناعة تحالفات مع جوارها المغاربي , لكن نجد أن الإرادة السياسية في الساحل الليبي في ذلك الوقت لم تستطع مقاومة مراكز القوى السياسة النافذة في مناخ ليبيا المائي , بحيث كانت السواحل الليبية عُرضة دائمًا لامتداد مناطق النفوذ الدولي وتأثيرات الخطوط الجيوسياسية المحيطة بها والتي كانت ترى ليبيا جغرافية للحفاظ على مصالحها الأمنية والاقتصادية ولكنها لم تُعطي الجغرافية الليبية أهمية البناء الحضاري والإنساني في التاريخ الحديث لليبيا , وهذا أهم ما قدمتهُ الحركة السنوسية المباركة لداخل الليبي بأن صنعت الهوية السياسية والاجتماعية والفكرية المفقودة والتي جمعت الأمة الليبية في كيان واحد عبر مراحل زمنية مختلفة , وكذلك وجد الإمام السنوسي مُرادهُ في ليبيا حيثُ رُفضت دعوته التجديدية والاصلاحية من قبل مراكز النفوذ السياسي والفكري في حواضر العالم العربي المسلم فوجد في جغرافية برقة وانثروبولوجيتها الاجتماعية مرادهُ بحيث ساهمت عوامل مختلفة في تأسيس ونجاح مشروعه العظيم الذي امتد لكل ليبيا , بحيث نجد حرص الإمام السنوسي على توحيد الكيان الليبي عبر مدارس العلماء والمفكرين والنخبة , فنجد أن علماء كبار من طرابلس ومصراتة وزلتين والجنوب الليبي كانوا منذُ اللحظة الأولى مع السنوسيين أمثال الشيخ عمران بن بركة الفيتوري والشيخ مصطفى المحجوب والشيخ مصطفى الدردفي والشيخ أحمد أبوالقاسم التواتي والشيخ عمران الأشهب وغيرهم الكثيرين من الذين التقوا مع أخوتهم في برقة من أهل العلم والفكر أمثال الشيخ عمر الفضيل والشيخ فهيد العقوري والشيخ رافع فركاش والشيخ حمد بوحليقه وغيرهم الكثيرين, بحيث ذاب الكيان القبلي والجهوي والمناطقي  في كيان المشروع والفكرة والذي انتهى بتأسيس دولة الاستقلال التي شكلت الدولة الوطنية الليبية سنة 1951م , تقبل الله من هؤلاء العظام كفاحهم ونضالهم وأصلح الله حال الوطن وأهلهِ وألهمهم سبيل الرشاد .

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى