مقالاتمقالات المنتدى

أساليب قريش في محاربة المهاجرين ومشاهد العظمة في الهجرة (2)

 أساليب قريش في محاربة المهاجرين ومشاهد العظمة في الهجرة (2)

 

بقلم د. علي محمد محمد الصّلابيّ (خاص بالمنتدى)

 

لم يكن حدث هجرة النبي و أصحابه سهلا، فقد أخذ الأمر إستعدادت وخطوات حاسمة ، قابلها الخصم بأساليب متنوعة للحيلولة دون خروج من بقي من المسلمين إلى المدينة، و قد اتَّبعت قيادة قريش  في ذلك عدَّة أساليب؛ منها:

1 – أسلوب التَّفريق بين الرَّجل، وزوجه، وولده:

ونترك أمَّ المؤمنين أمَّ سلمة، هند بنت أبي أميَّة تحدِّثنا عن روائع الإيمان، وقوَّة اليقين في هجرتها، وهجرة زوجها أبي سلمة. قالت رضي الله عنها: «لما أَجْمَعَ أبو سلمة الخروجَ إلى المدينة، رَحَل لي بعيرَهُ، ثمَّ حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثمَّ خرج بي يقود بعيرَه، فلـمَّا رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم؛ قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه، علامَ نتركك تسير بها في البلاد؟

قالت: فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة، فقالوا: لا والله، لا نترك ابننا عندها؛ إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا بُنيَّ سلمة بينهم، حتَّى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت: ففُرِّق بيني، وبين زوجي، وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كلَّ غداةٍ، فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتَّى أُمسي، سنةً، أو قريباً منها؛ حتَّى مرَّ بي رجلٌ من بني عمِّي – أحدُ بني المغيرة – فرأى ما بي، فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تُخرْجون هذه المسكينة؛ فرَّقتم بينها وبين زوجها، وبين ولدها؟! قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئتِ. قالت: وردَّ بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابني. قالت: فارتحلتُ بعيري، ثمَّ أخذت ابني، فوضعته في حِجري، ثمَّ خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحدٌ من خَلْق الله. قالت: فقلت: أتبلَّغ بمن لقيت حتَّى أقدم على زوجي، حتَّى إذا كنت بالتَّنْعيم، لقيتُ عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بني عبد الدَّار.

فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أميَّة؟! قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قالت: فقلت: لا والله! إلا الله، وبُنَيَّ هذا. قال: والله ما لكِ من مَتْرك. فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يَهْوِي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قطُّ أرى أنَّه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل؛ أناخ بي، ثمَّ استأخر عنِّي، حتَّى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحطَّ عنه، ثمَّ قيَّده في الشَّجرة، ثمَّ تنحَّى عنِّي إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرَّواح؛ قام إلى بعيري، فقدَّمه، فرحَّله، ثمَّ استأخر عنِّي، وقال: اركبي، فإذا ركبتُ، واستويت على بعيري؛ أتى فأخذ بخطامه، فقاده حتَّى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقْدَمني المدينة فلـمَّا نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقُباء، قال: زوجك في هذه القرية – وكان أبو سلمة بها نازلاً – فادْخُليها على بركة الله، ثمَّ انصرف راجعاً إلى مكَّة. قال: فكانت تقول: والله! ما أعلم أهل بيتٍ في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قطُّ كان أكرم من عثمان بن طلحة». [ابن هشام (2/112 – 113)] .

فهذا مثل على الطُّرق القاسية، الَّتي سلكتها قريشٌ؛ لتحول بين أبي سلمة والهجرة، فرجل يفرَّق بينه وبين زوجه عَنْوَةً، وبينه وبين فلذة كبده على مرأىً منه، كلُّ ذلك من أجل أن يثنوه عن الهجرة، ولكنْ متى تمكَّن الإيمان من القلب؛ استحال أن يقدِّم صاحبه على الإسلام والإيمان شيئاً، حتَّى لو كان ذلك الشَّيء، فلذة كبده، أو شريكة حياته، لذا انطلق أبو سلمة رضي الله عنه إلى المدينة، لا يلوي على أحدٍ، وفشل معه هذا الأسلوب، وللدُّعاة إلى الله فيه أسوةٌ.

وهكذا أثَرُ الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب، فهذه أسرةٌ فُرِّق شملُها، وامرأةٌ تبكي شدَّة مصابها، وطفلٌ خُلعت يده، وحُرِم من أبويه، وزوج، وأبٌ يسجِّل أروع صور التَّضحية، والتَّجرد؛ ليكون أوَّل مهاجِرٍ يصل أرض الهجرة، محتسبين في سبيل الله ما يلقون، مصمِّمين على المضيِّ في طريق الإيمان، والانحياز إلى كتيبة الهدى، فماذا عسى أن ينال الكفر، وصناديده من أمثال هؤلاء؟!

وأمَّا صنيع عثمان بن طلحة رضي الله عنه، فقد كان يومئذ كافراً «وأسلم قبل الفتح»، ومع ذلك تشهَدُ له أمُّ سلمة رضي الله عنها بكرم الصُّحْبةِ، وذلك شاهد صدقٍ على نفاسة هذا المعدن، وكمال مروءته، وحمايته للضَّعيف، فقد أبت عليه مروءته، وخلقه العربيُّ الأصيل، أن يَدَع امرأةً شريفةً، تسير وحدها في هذهِ الصَّحراء الموحشة، وإن كانت على غير دينه، وهو يعلم أنَّها بهجرتها تراغمه، وأمثاله من كفَّار قريش.

فأين من هذه الأخلاق – يا قومي المسلمين! – أخلاق الحضارة في القرن العشرين؛ من سطوٍ على الحرِّيات، واغتصابٍ للأعراض؛ بل وعلى قارعة الطَّريق، وما تطالعنا به الصَّحافة كلَّ يومٍ من أحداثٍ يندى لها جبين الإنسانيَّة؛ مِن تَفَنُّنٍ في وسـائل الاغتصـاب، وانتهاك الأعراض، والسَّطو على الأموال!.

إنَّ هذه القصة – ولها مُثُلٌ ونظائر – لتشهدُ أنَّ ما كان للعرب من رصيدٍ من الفضائل كان أكثر من مثالبهم، ورذائلهم، فَمِنْ ثمَّ اختار الله منهم خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا أهلاً لحمل الرِّسالة، وتبليغها للنَّاس كافَّةً.

وتظهر عناية الله تعالى بأوليائه، وتسخيره لهم، فهو – جلَّ وعلا – الَّذي سخَّر قلب عثمان بن طلحة للعناية بأمِّ سلمة، ولذلك بذل الجهد، والوقت من أجلها، كما تظهر سلامة فطرة عثمان بن طلحة؛ الَّتي قادته أخيراً إلى الإسلام بعد صلح الحديبية، ولعلَّ إضاءة قلبه بدأت منذ تلك الرِّحلة في مصاحبته لأمِّ سلمة رضي الله عنها.

2 – أسلوب الاختطاف:

لم تكتفِ قيادة قريش بالمسلمين داخل مكَّة بمنعهم من الهجرة، بل تعدَّت ذلك إلى محاولة إرجاع من دخل المدينة مهاجراً، فقامت بتنفيذ عملية اختطاف أحد المهاجرين، ولقد نجحت هذه المحاولة، وتمَّ اختطاف أحد المهاجرين من المدينة، وأعيد إلى مكَّة، وهذه الصُّورة التَّاريخيَّة للاختطاف يحدِّثنا بها عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، حيث قال: اتَّعدتُّ لما أردنا الهجرة إلى المدينة، أنا، وعيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السَّهمي التَّناضِبَ من أضَاة بني غفارٍ، فوق سَرِف، وقلنا: أيُّنا لم يُصْبِحْ عندها فقد حُبس، فليمضِ صاحباه.

قال: فأصبحت أنا، وعياش بن أبي ربيعة عند التَّناضِب، وحُبِس عنَّا هشام، وفُتن، فافتتن. فلـمَّا قدمنا المدينة؛ نزلنا في بني عمرو بن عوف بقُباء، وخرج أبو جهل بن هشام، والحارث بن هشام، إلى عيَّاش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمِّهما، وأخاهما لأمِّهما، حتَّى قدما علينا المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة، فكلَّماه، وقالا: إنَّ أمَّك قد نذرت ألا يمسَّ رأسها مشطٌ حتَّى تراك، ولا تستظلَّ من شمسٍ حتَّى تراك، فرقَّ لها، فقلت له: عيَّاش، إنَّه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمَّك القملُ، لامتشطت، ولو قد اشتدَّ عليها حرُّ مكة لاستظلَّت.

قال: أبرُّ قسم أمِّي، ولي هناك مالٌ، فآخذه. قال: فقلت: والله إنك لتعلم أنِّي لَمِنْ أكثر قريشٍ مالاً، فلك نصفُ مالي، ولا تذهب معهما، قال: فأبى عليَّ إلا أن يخرج معهما، فلـمَّا أبى إلا ذلك، قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت؛ فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقةٌ نجيبةٌ ذلول، فالزمْ ظهرها، فإن رابك من القوم ريبٌ؛ فانجُ عليها، فخرج عليها معهما، حتَّى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يا أخي، والله! لقد استغلظتُ بعيري هذا، أفلا تُعْقِبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى، قال: فأناخ، وأناخ، ليتحوَّل عليها، فلما استَوَوْا بالأرض، عدوا عليه، فأوثقاه، ثمَّ دخلا به مكَّة، وفتناه، فافتتن.

قال: فكنَّا نقول: ما الله بقابل ممَّن افتتن صَرفاً، ولا عدلاً، ولا توبةً، قوم عرفوا الله، ثمَّ رجعوا إلى الكفر لبلاءٍ أصابهم! قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلـمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ أنزل الله تعالى فيهم، وفي قولنا، وقولهم لأنفسهم: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ [الزمر: 53 – 55] .

قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: فكتبتها بيدي في صحيفةٍ، وبعثت بها إلى هشام بن العاص، قال: فقال هشام: فلـمَّا أتتني؛ جعلت أقرؤها بذي طَوَى أُصَعِّد بها فيه، وأصَوِّبُ، ولا أفهمها، حتَّى قلت: اللهمَّ فهِّمنيها، قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنَّها إنَّما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويُقال: فينا، قال: فرجعت إلى بعيري، فجلست عليه، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بالمدينة. [البزار (1746) والبيهقي في الدلائل (2/461-462) ومجمع الزوائد (6/61)] .

هذه الحادثة تظهر لنا كيف أعدَّ عمر رضي الله عنه خطَّة الهجرة له، ولصاحبيه عيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السَّهميِّ، وكان ثلاثتهم كلُّ واحدٍ من قبيلةٍ، وكان مكان اللِّقاء الَّذي اتَّعَدوا فيه بعيداً عن مكَّة، وخارج الحرم، على طريق المدينة، ولقد تحدَّد الزمان، والمكان بالضَّبط؛ بحيث إنَّه إذا تخلف أحدهم؛ فليمضِ صاحباه، ولا ينتظرانه؛ لأنَّه قد حُبس، وكما توقعوا، فقد حبس هشام بن العاص رضي الله عنه، بينما مضى عمر، وعيَّاش بهجرتهما، ونجحت الخطَّة كاملة، ووصلا المدينة سَالِمَيْنِ.

إلا أنَّ قريشاً صمَّمت على متابعة المهاجرين، ولذلك أعدَّت خطَّةً محكمةً، قام بتنفيذها أبو جهل، والحارث، وهما أَخَوَا عياش من أمِّه، الأمر الذي جعل عياشاً يطمئنُّ لهما، وبخاصَّةٍ إذا كان الأمر يتعلَّق بأمِّه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة؛ لعلمه بمدى شفقة ورحمة عيَّاش بأمِّه، والَّذي ظهر جليّاً عندما أظهر موافقته على العودة معهما، كما تُظهر الحادثة الحسَّ الأمني الرَّفيع؛ الَّذي كان يتمتَّع به عمر رضي الله عنه؛ حيث صدقت فراسته في أمر الاختطاف.

كما يظهر المستوى العظيم من الأخوَّة التي بناها الإسلام في هذه النُّفوس؛ فعمر يضحِّي بنصف ماله حرصاً على سلامة أخيه، وخوفاً عليه من أن يفتنه المشركون بعد عودته، ولكن غلبت عياشاً عاطفتُه نحو أمِّه، وبرِّه بها؛ ولذلك قرَّر أن يمضي لمكَّة فيبرَّ قسم أمِّه، ويأتي بماله من هناك، وتأبى عليه عفَّته أن يأخذ نصف مال أخيه عمر رضي الله عنه، وماله قائم في مكَّة لم يُمسَّ، غير أنَّ أفق عمر رضي الله عنه كان أبعد، فكأنه يرى رأي العين، المصير المشؤوم، الَّذي سينزل بعياشٍ لو عاد إلى مكَّة، وحين عجز عن إقناعه؛ أعطاه ناقته الذَّلول النَّجيبة، وحدث لعياش ما توقَّعه عمر من غدر المشركين به.

وساد في الصفِّ المسلم: أنَّ الله تعالى لا يقبل صرفاً، ولا عدلاً، من هؤلاء الذين فُتِنوا، فافتتنوا، وتعايشوا مع المجتمع الجاهليِّ، فنزل قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾، وما إن نزلت هذه الآيات، حتَّى سارع الفاروق رضي الله عنه، فبعث بهذه الآية إلى أخَوَيه الحميمين عيَّاش، وهشام؛ ليجدِّدوا محاولاتهما في مغادرة معسكر الكفر .. أيُّ سموٍّ عظيمٍ عند ابن الخطَّاب رضي الله عنه؟! لقد حاول مع أخيه عياش، أعطاه نصف ماله على ألاَّ يغادر المدينة، وأعطاه ناقته ليفرَّ عليها، ومع هذا كلِّه، فلم يشمت بأخيه، ولم يَتَشَفَّ منه لأنَّه خالفه، ورفض نصيحته، وألقى برأيه خلف ظهره؛ إنَّما كان شعور الحبِّ، والوفاء لأخيه هو الَّذي يسيطر عليه، فما إن نزلت الآية، حتَّى سارع ببعثها إلى أخويه في مكَّة، ولكلِّ المستضعفين هناك؛ ليقوموا بمحاولاتٍ جديدةٍ للانضمام إلى المعسكر الإسلاميِّ.

3 – أسلوب الحبس:

لجأت قريش إلى الحبس كأسلوبٍ لمنع الهجرة، فكلُّ من تقبض عليه، وهو يحاول الهجرة كانت تقوم بحبسه داخل أحد البيوت مع وضع يديه، ورجليه في القيد، وتفرض عليه رقابةً، وحراسةً مشدَّدةً حتَّى لا يتمكَّن من الهرب، وأحياناً يكون الحبس داخل حائطٍ بدون سقف، كما فُعل مع عيَّاش، وهشام بن العاص رضي الله عنهما، حيث كانا محبوسَيْن في بيتٍ لا سَقف له، وذلك زيادة في التَّعذيب؛ إذ يضاف إلى وحشة الحبس، حرارة الشَّمس، وسط بيئةٍ جبليَّةٍ شديدة الحرارة مثل مكَّة.

فقيادة قريش تريد بذلك تحقيق هدفين؛ أوَّلهما: منع المحبوسين من الهجرة، والآخر: أن يكون هذا الحبس درساً وعِظَةً، لكلِّ مَنْ يحاول الهجرة من أولئك الَّذين يفكِّرون بها ممَّن بقي من المسلمين بمكَّة، ولكن لم يمنع هذا الأسلوب المسلمين من الخروج إلى المدينة المنَّورة، فقد كان بعض المسلمين محبوسين في مكَّة؛ مثل عيَّاش، وهشام رضي الله عنهما، ولكنَّهما تمكَّنا من الخروج، واستقرّا بالمدينة.

كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد هجرته يقْنُتُ، ويدعو للمستضعفين في مكَّة عامَّةً، ولبعضهم بأسمائهم خاصَّةً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الرَّكعة الأخيرة؛ يقول: «اللَّهم أَنْجِ عيَّاش بن أبي ربيعة، اللَّهمَّ أنج سَلَمَةَ بن هشام، اللَّهم أنج الوليدَ بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللَّهم اشْدُدْ وطأتك على مُضَر، اللهم اجعلها سنينَ كسِنِي يوسفَ» [البخاري (1006) وأحمد (2/418)] .

ولم يترك المسلمون أمر اختطاف عيَّاش؛ فقد ندب الرَّسول صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه، وفعلاً استعدَّ للمهمَّة، ورتَّب لها ما يحقِّق نجاحها، وذهب إلى مكَّة، واستطاع بكلِّ اقتدارٍ، وذكاءٍ، أن يصل إلى البيت الَّذي حُبسا فيه، وفكَّ قيدهما، ورجع بهما إلى المدينة المنوَّرة.

4 – أسلوب التَّجريد من المال:

كان صهيب بن سنان النَّمَري من النَّمر بن قاسط، أغارت عليهم الرُّوم، فسُبي وهو صغيرٌ، وأخذ لسان أولئك الَّذين سَبَوْه، ثمَّ تقلَّب في الرِّق، حتَّى ابتاعه عبد الله بن جُدعان ثمَّ أعتقه، ودخل الإسلام هو، وعمَّار بن ياسر رضي الله عنهما في يومٍ واحدٍ.

وكانت هجرة صهيب رضي الله عنه، عملاً تتجلَّى فيه روعة الإيمان، وعظمة التَّجرُّد لله؛ حيث ضحَّى بكلِّ ما يملك في سبيل الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، واللُّحوق بكتيبة التَّوحيد، والإيمان، فعن أبي عثمان النَّهْديِّ – رحمه الله – قال: بلغني: أنَّ صهيباً حين أراد الهجرة إلى المدينة، قال له أهل مكَّة: أتيتنا هاهنا صُعْلُوكاً، حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت ما بلغتَ، ثمَّ تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك. فقال: أرأيتم إن تركت مالي؛ تخلون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم، فجعل لهم ماله أجمع، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: «ربح صهيبٌ! ربح صهيبٌ!» [المطالب العالية (4063) وابن هشام (2/121)] .

وعن عكرمة – رحمه الله – قال: لـمَّا خرج صهيب مهاجراً؛ تبعه أهل مكَّة، فنثل كنانته، فأخرج منها أربعين سهماً، فقال: لا تَصِلُون إليَّ حتى أضع في كلِّ رجلٍ منكم سهماً، ثمَّ أصيرُ بعد إلى السَّيف، فتعلمون أنِّي رجلٌ، وقد خلَّفت بمكَّة قينتين، فهما لكم» [الحاكم (3/398)]، وقال عكرمة: ونزلت على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207].

فلـمَّا رآه  النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قال: «أبا يحيى! ربح البيع!» قال: وتلا عليه الآية [الحاكم (3/398)] لكأنِّي بصهيبٍ رضي الله عنه يقدِّم الدَّليل القاطع على فساد عقل أولئك الماديين؛ الَّذين يَزِنُون حركات التَّاريخ، وأحداثَه كلَّها بميزان المادَّة، فأين هي المادَّة الَّتي سوف يكسبها صهيبٌ في هجرته، والَّتي ضحَّى من أجلها بكلِّ ما يملك؟! هل تراه  ينتظر أن يعطيـه محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم منصباً يعوِّضه عمَّا فقده ؟! أو هل ترى محمَّداً صلى الله عليه وسلم يُمنِّيه بالعيش الفاخر في جوار أهل يثرب؟ إنَّ صهيباً ما فعل ذلك، وما انحاز إلى الفئة المؤمنة، إلا ابتغاء مرضاة الله، بالغاً ما بلغ الثَّمن؛ ليضرب لشباب الإسلام مثلاً في التَّضحية عزيزة المنال، عساهم يسيرون على الدَّرب، ويقتفون الأثر.

إنَّ هذه المواقف الرائعة، لم تكن هي كلَّ مواقف العظمة والشُّموخ في الهجرة المباركة، بل امتلأ هذا الحدث العظيم، بكثيرٍ من مشاهد العظمة والتَّجرُّد والتَّضحية، الَّتي تعطي الأمَّة دروساً بليغةً في بناء المجد، وتحصيل العزَّة.

مراجع البحث:

 

  1. علي محمد محمد الصّلابيّ، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث (دروس وعبر)، الطبعة الأولى، 2004.ص.ص (411:402).
  2. إبراهيم علي محمَّد، في السِّيرة النَّبويَّة جوانب الحذر والحماية، الطَّبعة الأولى ، وزارة الأوقاف الدوحة، قطر، 1996، ص 130.
  3. محمَّد أبو شهبة، السِّيرة النَّبويَّة في ضوء القران والسنة، الطبعة الثالثة، دار القلم – دمشق سوريا، 1996، (الجزء الأول/ ص 461).
  4. عبد العزيز الحميديُّ، التَّاريخ الإسلاميُّ – مواقف وعبرٌ، الطبعة الأولى، دار الدَّعوة الإسكندريَّة، مصر، 1997، (الجزء الثالث، ص 128).
  5. منير الغضبان، التَّربية القياديَّة، الطبعة الأولى، دار الوفاء – المنصورة، مصر، 1998، (الجزء الثاني/ ص 160).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى