مقالاتمقالات المنتدى

مراسم بيعة الأمير عبد القادر وتولي الحكم

مراسم بيعة الأمير عبد القادر وتولي الحكم

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

بعد الجهود العظيمة التي بذلها السيد محيي الدين للتصدي للغزاة وقيادة القبائل للجهاد في سبيل الله رأى الناس أهمية مبايعته، ولكنه اعتذر بكبر سنه، ودفع المواطنين للتفكير في مبايعة ابنه عبد القادر لقناعته بقدرته على ذلك، واتفق مع الأهالي على موعد لعقد البيعة صباح (الاثنين يوم الثالث من شهر رجب 1248ه / 1832م).

جلس عبد القادر إلى جانب والده وإخوته الذين علت وجوههم ابتسامة الرضا؛ لأن كلاً منهم كان يدرك أن شقيقهم عبد القادر كان أكثرهم شجاعة وقوة تحمل، وكانوا يحبونه ويفخرون به، ولم يُبد أي منهم اعتراضاً على اختيار أبيهم له. وعندما اكتمل هذا الاجتماع التاريخي تقدم الوالد من عبد القادر مبايعاً وشد على يده قائلاً: كيف ستحكم البلاد يا ولدي؟ أجاب عبد القادر: بالعدل والحق الذي أمر به رب العالمين، سأحمل القرآن بيد وعصا من حديد بيد أخرى، وسأسير على هدى كتاب الله وسنة رسوله، ثم التفت الوالد سيدي محيي الدين مخاطباً الجموع قائلاً لهم: إنه ناصر الدين عبد القادر بن محيي الدين لقب ليس سلطاناً ولا ملكاً، وإنما أمير عليكم أيها الأخوة المؤمنون، ثم تقدمت عائلته تشد على يده مبايعة، وتلاهم الأعيان ورؤساء القبائل حسب مراكزهم، والعلماء والأشراف، وكل من حضر ذلك الاجتماع التاريخي العظيم، وكان جميع زعماء القبائل يرتدون اللباس الجزائري القومي المهيب والأنيق وكأنهم في عيد.

 مكان التوقيع على نص المبايعة:

قبل مغادرة تلك الجموع المكان وقف الشريف محيي الدين فيهم إماماً، وصلى صلاة العصر، وبعد أن صلى ركعتين صلاة الاستخارة اقترح أن يكون التوقيع على نص المبايعة في مسجد الحسن في عين البيضاء، فوافق الجميع لما لهذا المسجد من مكانة تاريخية حافلة بالأمجاد.

 وفي هذه المناسبة رأى ناصر الدين عبد القادر بن محيي الدين، وقبل توقيع المبايعة أن من واجبه إرسال رسالة إلى الخليفة العثماني السلطان محمود يخبره فيها بالأحداث وما آلت إليه البلاد بعد استسلام الدّاي حسين، والفوضى التي حدثت، وعن مقاومة الغزو، واستبسال أبناء الشعب بالدفاع عن دينهم وكرامتهم ودورهم ومساجدهم، كان الأمير يكن كل الاحترام والتقدير للدولة العثمانية، وسرى خبر مبايعة عبد القادر بن محيي الدين بين القبائل، فأخذت الوفود تترى على دار الشريف محيي الدين في القيطنة، راغبة بالطاعة والمبايعة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى الجهاد. وفي الموعد المحدد وبعد صلاة الفجر انطلقت عائلة الشريف محيي الدين من القيطنة على متن الجياد نحو جنوب مدينة معسكر، في ضاحية العين البيضاء حيث يقع المسجد المذكور؛ الذي اشتهر أيضاً بجمال بنائه وحدائقه العالية الرشيقة التي غطى نصفها الضباب.

 خطبة الأمير عبد القادر في الجموع ونص البيعة:

  • خاطب زعماء القبائل والأعيان وممثلي العشائر والعلماء فقال: بعد ذكر اسم الله الرحمن الرحيم والصلاة على رسوله بادرهم بقوله: «إنني لست أفضلكم خلقاً وشجاعة وحكمة، ولم يخطر لي هذا المنصب يوماً، ولكنني أجبرت عليه كما تعلمون، فهو مسؤولية أمام الله وأمامكم، أرجو منه تعالى التوفيق والعون لتطهير البلاد من الغزاة، ورفع راية الإسلام عالية في سماء بلادنا، فالإسلام هو الذي وحدّ قبائلنا بعد شتات وجعلها قوة لا تقهر، تدفعنا ميادين المجد والشرف، وجعلنا إخوة يحب أحدنا لأخيه ما يحب لنفسه، ولا فرق بين عربي وأعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى، وأمرنا بالعدل والمساواة.

 وإذا عدنا إلى التاريخ نجد كل من دخل هذه البلاد غازياً من رومان وفاندال وإسبان هزمتهم قوة بأس وشجاعة الأجداد، وكان هدف غزوهم لبلادنا إخضاع شعوبنا وإذلالها، ونهب خيرات بلادنا، لزيادة رفاهية شعوبهم. والذين حالف النصر أعلامهم من الفاتحين حملوا إلى هذه البلاد حضارة إلهية، وشيدوا صروحاً من القيم باقية إلى الأبد لا ينضب معينها، ودخلوا هذه البلاد لتكون دعوة الإسلام حرة فيها، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ *} [الأنبياء :107]. ومدنية راقية لا تزال آثارها تشهد عليها في مدننا في فاس، وقرطبة، وغرناطة، وإشبيلية، وفي وهران، وقسنطينة، إخوتي في الإسلام، أيها السادة زعماء القبائل والعلماء، أيها المجاهدون من أبناء هذا الوطن العظيم سنكون أقوياء، سندافع عن الراية والرسالة التي حملها لنا طارق بن زياد، وموسى بن نصير، وسيظل ارتباطنا وثيقاً بدولة الخلافة العثمانية ارتباطاً روحياً بنظامها الإسلامي، ولن نكون جاحدين لأعمال الأخيار من الولاة في خدمة الإسلام ومحاربتهم لقوى الشر في بلادنا، ولن تخرج دولتنا عن طاعة الخليفة، ولن نكون عوناً لأعدائها عليها، وكما قال والدي: هذا المنصب الذي اخترتموني له لن يكون متوارثاً، وأرفض لقب سلطان أو ملك {حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *} [التوبة :129]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

المراجع:

1- كفاح الشعب الجزائري، الجزء الأول، د.علي محمد محمد الصلابي.

2- حياة الأمير عبد القادر ، مقدمة أبو القاسم سعد الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى