قبسات من سير أولي العزم من الرسل (7)
نشأة موسى عليه السلام.. ولادة خلّد القرآن ذكرها
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
ولد موسى عليه السلام في ظل أوضاع شديدة القسوة، إذ ولد والخطر محدق به والموت يتلفت حوله، وشفرات السيوف مشرعة على عنقه، تهم أن تحتز رأسه، وها هي ذي أمه حائرة به، وخائفة عليه، وتخشى أن يصل نبؤه إلى الجلّادين، وترجف أن تتناول عنقه السكين، ها هي بطفلها الصغير في قلب المخافة عاجزة عن حمايته، عاجزة عن إخفائه، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه، عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة، ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة، هنا تتدخل يد القدرة، فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة، وتلقي في روعها كيف تعمل، وتوحي إليها بالتصرف.
قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ]القصص: ٧ [.
- ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ ويا الله، يا للقدرة، يا أم موسى أرضعيه ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾ وهو في رعيتك، إذا خفت عليه وفي فمه ثديك، وهو تحت عينيك، إذا خفت عليه ﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾. (في ظلال القرآن، (٥/٢٦٧٩).
- ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾ إنه هنا في اليم في رعاية الله التي لا أمن إلا في جوارها، وحفظ الله التي لا خوف معها، ولا تقترب المخاوف منها، مع قدرة الله التي تجعل النار برداً وسلاماً وتجعل البحر ملجأً ومناماً، مع عظمة الله التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعاً أن يدنو من حماها، الأمن العزيز الجناب.
- ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ فلا خوف على حياته ولا حزن بعده.
- ﴿وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وتلك بشارة الغد ووعد الله، الله أصدق القائلين.
هذا هو المشهد الأول في القصة، مشهد الأم الحائرة والملهوفة، تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح، وينزل هذا الإيحاء على القلب الواجف المحرور برداً وسلاماً . (في ظلال القرآن، (٥/٢٢٦٧٩).
- قال الشوكاني في تفسير الآية: أيّ ألهمناها وقذفنا في قلبها وليس ذلك الوحي الذي يوحى إلى الرسل وقيل: كان ذلك رُؤيا في منامها، وقيل: كان ذلك بملك أرسله الله يعلمها بذلك.
وقد أجمع العلماء على أنها لم تكن نبيّة، وإنما كان إرسال الملك إليها عند من قال به نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث الثابت في الصحيحين.
- ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾ من فرعون بأن يبلغ خبره إليه ﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ وهو بحر النيل.
- ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾ أي: لا تخافي عليه الغرق أو الضيعة ولا تحزني لفراقه ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ عن قريب على وجه تكون به نجاته.
- ﴿وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ الذين نرسلهم إلى العباد.
- قال ابن القيم: إن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله تعالى، إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه وجريانه إلى حيث ينتهي أو يقف.
- قال الشيخ محمد متولي: إن الوحي في عموم اللغة: إعلام بطريق خفي دون أن تبحث عن الموحِي، أو الموحَى إليه، أو الموحَى به. أما الوحي الشرعي؛ فإعلام من الله تعالى لرسوله بمنهج لخلْقه.
- فالله تعالى يوحي للملائكة: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ]الأنفال:١٢[.
- ويوحي إلى الرسل: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ ]النساء:١٦٣[.
- ويوحي للمؤمنين الصادقين في خدمة رسول: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي…﴾ ]المائدة:١١١[.
- ويوحي إلى النحل، بل إلى الجماد: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ ]النحل:٦٨[ وإلى الأرض ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ ]الزلزلة:١-٥[.
- وقد يكون الإعلام والوحي من الشيطان: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ ]الأنعام:١٢١[.
- ويكون من الضالين: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ ]الأنعام:١١٢[.
فالوحي إلى أم موسى كان وحياً من المرتبة الرابعة بطرق مختلفة في الرّوع، أو الإلهام، أو برؤيا أو بملك يُكلمها وهذا كله يصح، وهذا الوحي من الله وموضوعه ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ وهذا أمر.
- ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾ نهي.
- ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وهذه بشارة في خبرين، فهذه الآية جمعت لأم موسى أمرين ونهيين وبشارتين في إيجاز بليغ معجز.
ومعنى ﴿أَرْضِعِيهِ﴾: مدة أمانك عليه، ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾ ولم يقل من أي شيء ليدل على أي مخوف تخشاه على وليدها: ﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾.
ويُراعي الحق سبحانه مشاعر الأم وقلقها على ولدها، خاصة إذا ألقته في البحر فيطمئنها ﴿وَلَا تَخَافِي﴾ لأن الله سييسر لك تربية خيراً من تربيتك في ظل ببت الغنى والملك.
- ﴿وَلَا تَحْزَنِي﴾ أي: لفراقه لأن هذا الفراق، سيُعوضك ويعوّض الدنيا كلها خيراً حتى يقضي على هذا الطاغية، ويأتي بمنهج الله الذي يحكم خلق الله في الأرض.
ثم اعلمي بعد هذا أن الله رادّه إليك، بل وجاعله من المرسلين، إذن: أنا الذي أحفظه، ليس من أجلك فحسب، إنما أيضاً لأن له مهمة عندي.
قال الدكتور أحمد نوفل: لاحظ التوجيه العظيم لدرء الخطر والخوف والمتمثل في المواجهة لا الانسحاب ولا الهروب.
- ﴿فَإِذَا خِفْتِ﴾
- ﴿فَأَلْقِيهِ﴾
- ﴿وَلَا تَخَافِي﴾
إذا خفت ببساطة لا تخف -يعني: واجه الخوف لتنفذ من مستنقع الخوف.
أما الفرار من الخوف والهروب منه بحثاً عن مكانٍ أمن، فهذا يوطنه في النفس، ويجعل الخوف عقدةً مستديمة، وأما على صعيد علم النفس الفردي أو الاجتماعي، ومن هنا كلمة الصدّيق الرائعة الجامعة الذائعة الماتعة النافعة: اطلبوا الموت توهب لكم الحياة. وكلمة سيف الله: جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحيون الحياة، من هنا وصف أصحاب النفسية الإيمانية الجهادية من صحابة وتابعيهم؛ لا يبالون أسَقَط الموت عليهم أم سقطوا هم على الموت، هذه فلسفة عظيمة لو نعيها ونعقلها . (تفسير القصص، أحمد نوفل، ص٢٣٦)
إن الغنى في الاستغناء، فالغنى من استغنى عن الأشياء إلا من احتاجها فكدّسها وأكثر من اقتنائها وجمعها، ومن هنا فإن النبي ﷺ كان أغنى الناس لأنه أكثرهم استغناءً عن الأشياء وعن المتاع الدنيوي الذي لا بقاء له.
وقد تكلم المفسرون كلهم عمّا حوت هذه الآية من صنوف القول، وضروب البيان، وجوامع المعاني، وصروف البلاغة وتصريف التعبير، إذ قالوا: جمعت هذه الآية بين فعلين ماضيين وأمريت ونهيين وبشارتين، وهي في سطرين.
إن الله تعالى من سننه الجارية في الأمم والشعوب، والمجتمعات والدول إذا أراد شيئاً هيّأ له أسبابه وأتى به شيئاً فشيئاً، بالتدرج لا دفعة واحدة، فعندما وصل الظلم إلى أقصى منتهاه، ووصل الاستضعاف إلى أسفل نقطة ممكنة، كانت تلك النقطة بداية التمكين لبني إسرائيل، وبدأت قصة التمكين وإنفاذ مشيئة الله عزّ وجل بالاهتمام بالرضيع في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ ]القصص:٧[. (تفسير القصص، المصدر السابق، ص٢٣٦)
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “موسى عليه السلام كليم الله”، للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد كثيراً مادته من كتاب: “في ظلال القرآن”، للأستاذ سيد قطب.
المراجع:
- علي محمد الصلابي، موسى كليم الله. عدو المستكبرين وقائد المستضعفين.
- سيد قطب، في ظلال القرآن.