مقالاتمقالات المنتدى

قبسات من سير أولي العزم من الرسل (6) – إبراهيم -عليه السلام- أسوة الأمم

قبسات من سير أولي العزم من الرسل (6) – إبراهيم -عليه السلام- أسوة الأمم

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

وصانا الله عزّ وجل بالاقتداء بإمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام، ومما يدخل في اقتدائنا به ولاؤه لله وبراؤه من الشرك، وإنّ الولاء والبراء ليس كلمة تُقال باللسان؛ ولكنها حقيقة عظيمة يلزم عليها لوازم كثيرة، ويترتب عليه تبعات وتضحيات باهظة، فهي التي من أجلها أوذي الأنبياء وأتباعهم بالسجن وتارة بالطرد وتارة بالقتل، فهي التي من أجلها هجر الأنبياء أوطانهم وأهليهم فراراً بدينهم وبغضاً وعداوة للكفر وأهله كما حدث مع إبراهيم – عليه السّلام -، وهي التي من أجلها حوصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصحابته الكرام في شعب أبي طالب حتى بلغ منهم الجهد مبلغه. (وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم، عبد العزيز ناصر الجليل، (3/143).

قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)} [الممتحنة: 4].

تبيّن هذه الآيات معلماً مهماً في الولاء والبراء على أساس العقيدة والتميّز على ضوئها، فلا عقيدة ولا توحيد لله عزّ وجل دون ولاء وبراء، بل إنّ كلمة التوحيد التي لا يدخل أحد إلى الإسلام إلا بها هي ولاء وبراء، فنصفها ولاء، والنصف الآخر براء فكلمة “لا إله” براءة من كل شيء يُعبد من دون الله عزّ وجل، و”إلا الله” ولاء عبودية لله وحده؛ فيكون معناهما جميعاً لا معبود بحق إلا الله تعالى. (وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم، عبد العزيز ناصر الجليل، (3/143).

ينظر المسلم فإذا له نسب عريق وماضٍ طويل وأسوة ممتدة على آماد الزمان، وإذا هو راجع إلى إبراهيم لا في عقيدته فحسب، بل في تجاربه التي عاناها كذلك، فيشعر أن له رصيداً من التجارب أكبر من رصيده الشخصي، وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه، وإنَّ هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان، من المؤمنين بدين الله، الواقفين تحت راية الله، قد مرَّت بمثل ما يمرُّ به، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار قد اتخذته، فليس الأمر جديداً ولا مبتدعاً ولا تكليفاً يشقه على المؤمنين، ثم إنّ له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة، ويرجع إليها إذا انبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته، فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال، الشجرة التي غرسها إبراهيم – عليه السّلام -. (في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3542).

  • ‌أ- {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}:

{قَدْ} كان {لَكُمْ}: يا معشر المؤمنين، و{أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: قدوة صالحة وائتمام ينفعكم، ونموذج طيب في عمل الخير تتأسون به وتفعلون مثله، و{فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}: من المؤمنين؛ لأنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً، فقد مرَّ إبراهيم – عليه السّلام – والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون وفيهم أسوة حسنة. (في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3542).

  • ‌ب- {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}

تبرأ إبراهيم – عليه السّلام – ومن معه من المؤمنين من قومهم المشركين ومما يعبدون من دون الله، ثم صرّحوا عداوتهم غاية التصريح، وكانت بشكل واضح ومسموع، ليس منهم فحسب بل منهم ومما يعبدون، فكلهم سواء في تلك البراءة. (ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص146)

  • ‌ج- {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}:

{كَفَرْنَا بِكُمْ}: وهذا بيان فيه أن ما نعتقد به نحن المؤمنون بالله سبحانه مخالف لمعتقدكم، وإن ممارساتنا التعبية تختلف كل الاختلاف عن ممارستكم، بل وحتى تلك التي تتشابه أو لها شيء من انحرافكم وبدعكم سنتركها من أجل أن لا تتلوث عقيدتنا السليمة بأفعالكم المشينة، ولأنّ المؤمنين يوالون الله سبحانه وتعالى ورسله عليهم السلام، فهم يكفرون بمن يكفر بالله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ الولاء يقتضي النصرة، والله سبحانه وتعالى سمّى من يكفر به عدو، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} ]فصلت:19[، وعدو الله سبحانه وتعالى هو عدو المؤمنين، فمن أجل ذلك يكفرون به. (ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص146)

{وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}: ظهر وبان البغض بالقلوب، وزوال مودتها والعدوان بالأبدان، وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حد، بل ذلك {أَبَدًا} ما دمتم مستمرين على كفركم، هكذا عداء وكراهية، لأننا على طرفي النقيض ولا يجتمع الإيمان أبداً مع الكفر. (تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (24/15120).

فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعبادتهم، وهو الكفر بهم والإيمان بالله، وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده، وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئاً من الوشائج والأواصر، بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان، وفي هذا فصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمرُّ بها المؤمن في أي جيل وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة حسنة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين. (في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/2542).

{حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} أي: فإذا آمنتم بالله وحده، زالت العداوة والبغضاء، وانقلبت مودّة وولاية، فلكم أيها المؤمنون أسوة حسنة في إبراهيم – عليه السّلام – ومن معه، في القيام بالإيمان والتوحيد ولوازم ذلك ومقتضياته، وفي كل شيء تعبدوا به الله وحده. (تفسير السعدي “تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان”، ص1814)

  • ‌د- {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}:

أي: لكم أن تتأسوا بإبراهيم – عليه السّلام – ببراءته من قومه إلا من استغفاره لأبيه فلا تتأسوا به، فإن إبراهيم قد وعد أباه أن يستغفر له، وبيّن له أنه لا يدفع عنه عذاب الله إن عصاه وأشرك به، ولهذا لما تبيَّن لإبراهيم أن أباه أقام على الكفر وأصر عليه، تبرأ منه، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} ]التوبة:114[. (التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (8/181)

  • ‌ه- {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}:

وفي دعاء إبراهيم – عليه السّلام – هذا تفويضه أمره كله لله، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة، والرجوع إليه في كل حال. (في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3542)

{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} أي: اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرّنا ووثقنا بك يا ربنا في ذلك، والتوكل عمل القلب وليس عمل الجوارح، فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل. (تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (24/15122).

{وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} أي: رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك وجميع ما يقرّب إليك، فنحن في ذلك ساعون وبفعل الخير مجتهدون. (تفسير السعدي “تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان”، ص1814)

{وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي: المرجع يوم القيامة، فنستعد للقدوم عليك، ونعمل ما يزلفنا إليك، فإلى الله مرجعنا.

وهذا التسليم المطلق لله هو السّمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم- عليه السّلام – يبزرها ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين، كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم، ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه. (في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3543).

ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “إبراهيم عليه السلام”، للدكتور علي الصلابي، واستفاد كثيراً من معلوماته على كتاب: ” وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم”، للدكتور عبد العزيز الجليل.

المراجع:

  • وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم، عبد العزيز ناصر الجليل، دار طيبة، الرياض، السعودية، ط2، 1419ه، 1998م.
  • في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق للطباعة، القاهرة، ط 32، 2003 م.
  • تفسير السعدي “تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان”، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار ابن الجوزي، الدمام، المملكة العربية السعودية، ط4، 1435ه (1/659).
  • التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، نخبة من كبار علماء القرآن وتفسيره بإشراف الأستاذ الدكتور مصطفى مسلم، كلية الدراسات العليا والبحث العلمي، جامعة الشارقة، الإمارات العربية، 2010م.
  • تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، القاهرة، 2013م.
  • ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، دار المعراج للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2021م.
  • إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى