النّظام العالمي الجديد بين مخطَّط الماسونيَّة والبعث الإسلامي 2 من 10
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
تصوُّر لهيكل النّظام العالمي الجديد
تعالت الأصوات المطالِبة ببناء نظام عالمي جديد قبيل انتهاء الحرب الباردة؛ وجاء الإعلان الصَّريح الأوَّل عن ضرورة قيام نظام جديد في تقرير للجنة الجنوب غير الحكوميَّة برئاسة يوليوس نيريري، الرَّئيس التَّانزاني الأسبق، صدَر عام 1990م. بدأت الحاجة إلى ذلك النّظام الجديد بعد أن أثبتت الرَّأسماليَّة فشلها في مستعمرات الدُّول الغربيَّة؛ وبعد النَّزيف الاقتصادي الحادّ الَّذي أصاب الدُّول النَّامية؛ ممَّا أدَّى إلى اعتمادها على مزيد من القروض الخارجيَّة من المنظَّمات الماليَّة الدُّوليَّة. ومن الملفت أنَّ الأزمات الاقتصاديَّة للدُّول النَّامية صاحَبها طفرات اقتصاديَّة للدُّول الصّناعيَّة، الَّتي “عادت إلى شكل جديد من الاستعمار الحديث، وزادت من احتكارها للاقتصاد العالمي” (ص10). ويبدو أنَّ مطالبات دول نصف الكرة الأرضيَّة الجنوبي بالعدل والمساواة والدّيموقراطيَّة في المجتمع العالمي باتت أوهامًا ما كانت الدُّول العظمى لتلتفت إليها. يستشهد تشومسكي بما صرَّح به ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق (1940-1945م؛ 1951-1955م)، في كتابه الموسوعي The Second World War-الحرب العالميَّة الثَّانية (1951م، جزء5، ص382) عن حُكم العالم لا بدَّ وأن يبقى في أيدي الطَّبقة الغنيَّة منه، مبرّرًا ذلك بقوله “لو أنَّ حكومة العالم كانت في أيدي شعوب جائعة سيكون الخطر دومًا محدقًا…يجب أن يتمَّ الحفاظ على السَّلام من قِبل شعوب تعيش على طريقتها دون أن تكون لديها مطامع في الآخرين. إنَّ قوَّتها تضعنا فوق الجميع. فنحن أشبه برجال أغنياء يعيشون آمنين في مساكنهم”.
يدَّعي تشرشل أنَّ الطَّبقة الغنيَّة من سُكَّان العالم لا تطمع فيما بأيدي المعوزين، إنَّما تحافظ على مكتسباتها، دون تبرير لما أثاره تشومسكي عن تعاظُم ثروة الدُّول الصّناعيَّة وازدياد الدُّول النَّامية فقرًا في أعقاب الحرب الباردة! ويصدر المفكّر المخضرم تعليقًا ناريًّا على زعْم تشرشل يلخّص حقيقة النّظام العالمي القائم: “يحكم الرّجال الأغنياء في المجتمعات الغنيَّة ويتنافسون فيما بينهم للفوز بحصَّة أكبر من الثَّروة السُّلطة؛ ويزيحون بلا رحمة أولئك الَّذين يقفون في طريقهم؛ ويساعدهم في ذلك الرّجال الأغنياء في الدُّول الجائعة؛ أمَّا الباقون، فيخدمون ويعانون” (ص11). يكشف تشومسكي عن حقيقة أنَّ الإعانات الَّتي تقدّمها أمريكا إلى دول العالم الثَّالث ليست سوى ضمانات للولاء ووسائل للإبقاء على سيطرتها عليها، دون أن تكلّفها الكثير. تتعمَّد أمريكا، مع ذلك، عدم التَّصريح بعدائها لمَن يعترض طريق إحكام سيطرتها على العالم، وتقويم الانحراف الأخلاقي للأغيار. وفي أوج قصفها للعراق خلال حرب الخليج مطلع التّسعينات، أعلن الرَّئيس جورج بوش حينها إيذان العالم باستقبال نظام عالمي جديد “تتوحَّد فيه الأمم على مبدأ مشترك يهدف إلى تحقيق طموح عالمي لمصلحة البشريَّة، عماده السَّلام، وأركانه الحريَّة وسيادة القانون” (ص14). ويعتبر تشومسكي أنَّ دعوة بوش الأب حينها إلى بناء نظام عالمي جديد أحدث صدى واسعًا حينها، وكانت بمثابة تدشين لمرحلة جديدة في تاريخ العالم الحديث. ووجَّه الخطاب الإعلامي لإدارة بوش الأب حينها إلى أنَّ انتصار أمريكا في الحرب الباردة يستتبع إقامة نظام جديد قوامه الدّيموقراطيَّة وحريَّة السَّوق.
علاقة غزو العراق الأوَّل بتجديد النّظام العالمي
من الملفت أنَّ أمريكا اختارت العراق لإجراء تجربة عمليَّة لتطبيق المبادئ الغربيَّة الممهّدة للنّظام العالمي الجديد؛ فنشبت معركة يطلق عليها تشومسكي “مذبحة الخليج”، على اعتبار أنَّ مسمَّى “حرب” لا يُطلق إلَّا في حالة وجود مواجهة عسكريَّة بين طرفين، وليس أن يذبح طرفٌ “السُّكَّان العُزَّل…وهو في مكان آمن” (ص16). أرادت أمريكا الإطاحة بنظام صدَّام حسين، المتَّهم باستخدام العنف المفرط في مواجهة تمرُّدات الأكراد والشّيعة، وبالاستبداد وقمْع المعارضين، لكنَّها عجزت في الحقيقة عن تحقيق هدفها؛ ليعاود صدَّام ارتكاب الانتهاكات ضدَّ المدنيين، بينما آثرت السّياسة الدُّوليَّة الرَّدَّ من خلال حصار الشَّعب العراقي، اعتقادًا منها بأنَّ ذلك سيدفع الشَّعب للثَّورة والإطاحة بنظام حزب البعث. كأنَّما أرادت أمريكا لصدَّام أن يضرب أعناق الثُّوَّار لكي ينتفض جيشه وينقلب عليه؛ والحقيقة هي أنَّ إدارة بوش الأب أرادت حاكمًا غير صدَّام حسين تضمن تبعيَّته، دون خسائر مادّيَّة في الحروب، ودون تلطيخ سمعتها باتّهامها بارتكاب جرائم في حقّ العراقيين، كما حدث لاحقًا بعد حرب عام 2003م. أراد بوش تسديد “لكمة في وجه المشاغب”، وفي الوقت ذاته “تطبيق المبادئ ذاتها في مجال السَّيطرة على الشُّعوب”، لإنهاء ما أطلق عليه الرَّئيس الأمريكي “تهديدات العالم الثَّالث” (ص20). تحالفت المملكة المتَّحدة مع أمريكا في حربها، الَّتي نجحت في الحصول على تأييد لها من مجلس الأمن، الَّذي رضخ بدوره لسطوة شرطيّ العالم، ترهيبًا وترغيبًا، بعد بذْل إدارة بوش الملايين لشراء ذمم أعضائه، كما يشير تشومسكي.
تحت ستار الدّفاع عن حقوق الأقليَّات، يثير المفكّر اليهودي مسألة مساندة الإدارة الأمريكيَّة المساعي الانفصاليَّة للشّيعة والأكراد في العراق، ودعمها المادّي، من خلال ذراعها التَّنظيمي، أي الأمم المتَّحدة ومنظَّماتها، للحركات الانفصاليَّة، مع إثارة التَّعاطف الدُّولي تجاه قضيَّتهم، وإشاعة تعرُّضهم للقمع والتَّهميش من قِبل نظام حزب البعث. يتظاهر تشومسكي بالتَّأسُّف على محدوديَّة الدَّعم المادّي الَّذي وجهه الغرب للأكراد، في معاناتهم من حصار داخلي بالتَّزامن مع حصار أمريكا للعراق؛ حيث لم توافق الإدارة الأمريكيَّة إلَّا على تقديم 50 مليون دولار للأكراد ومعهم الشّيعة، برغم إعداد قسم الشُّؤون الإنسانيَّة في الأمم المتَّحدة برنامج مساعدات بقيمة 500 مليون دولار؛ والمفارقة أنَّ إدارة كلينتون، الَّتي تولَّت السُّلطة في يناير 1993م، لم تقدّم سوى 15 مليونًا فقط، بعد خصم باقي المبلغ الَّذي كانت قد دفعته لبرنامج الأمم المتَّحدة شمال العراق. أدَّى الحصار المفروض على العراق، بحجَّة تحفيز الشَّعب العراقي على الثَّورة على نظام البعثيين وإسقاط رأسه، إلى وفاة عشرات الآلاف من الأطفال، وتردّي الحالة الاقتصاديَّة.
وقد سارعت منظَّمة الأمم المتَّحدة للطُّفولة، اليونيسيف، بإعداد تقرير عن الأوضاع المزرية للعراقيين في ظلّ الحصار، الَّذي كان بمثابة عقاب لهم، وليس لرئيسهم؛ وقد أوضح التَّقرير ارتفاع معدَّلات وفيَّات الأطفال، وانتشار سوء التَّغذية، وتفشّي الأمراض المعدية، وانهيار المنظومة الطّبيَّة. والسُّؤال: إذا كانت الأمم المتَّحدة، راعية السَّلام والاستقرار في العالم، قد حرَّكت ذراعها الأمني، مجلس الأمن، للموافقة على غزو أمريكا للعراق في يناير 1991م، فلماذا لم تحرّك ذراعها الإغاثي لرفْع المعاناة عن المنكوبين من أبناء العراق؟! يُذكر أنَّ مادلين أولبرايت، سفيرة أمريكا لدى مجلس الأمن ولاحقًا وزيرة الخارجيَّة في إدارة كلينتون، قد استندت إلى المادَّة 51 من ميثاق الأمم المتَّحدة للدّفاع عن استخدام القوَّة في العراق، برغم أنَّ المادَّة تشترط الدّفاع عن النَّفس لمواجهة هجوم مُسلَّح؛ فاستُخدمت حجَّة واهية، هي محاولة اغتيال الرَّئيس بوش في أبريل 1993م، خلال زيارته للكويت. توالت الرَّشقات الصَّاروخيَّة حتَّى نهاية عهد بوش الأب، واستمرَّت حتَّى بعد رحيله عن البيت الأبيض مطلع عام 1993م، لتدمّر البنية التَّحتيَّة لإمبراطوريَّة بابل العظيمة، وكأنَّما كان الثَّأر من العراق نفسه للتَّنفيس عن حقْد دفين يعود لفترة السَّبي البابلي (587-539 ق.م.)، وليس ردًّا على محاولة اغتيال رئيس سابق.
يشدّد تشومسكي على أنَّ أمريكا لم تدخل العراق لإجبارها على الانسحاب من الكويت، إنَّما لحماية مصالحها في منطقة الشَّرق الأوسط، مع إعطاء درس للمخالفين لمنهجها من حُكَّام المنطقة، مصرًّا على أنَّ بوش قدَّم أسبابًا واهية للغزو، ومع ذلك قُبلت. كرَّرت سياسة إدارتي بوش وكلينتون تجاه العراق المآسي الَّتي ارتكبتها أمريكا في الماضي في حقّ الأبرياء في أمريكا الوسطى وآسيا الجنوبيَّة، حينما حوَّلت “جزءً كبيرًا من العالم إلى مقابر جماعيَّة وقفار” (ص38). ومن بين أشكال الازدواجيَّة السّياسيَّة أن تُرسل أمريكا جنودها إلى الصُّومال بعد انحسار المجاعة هناك، بينما لم تُرسل جنودًا إلى البوسنة والهرسك خلال حربها مع صربيا مطلع التّسعينات لمنْع التَّطهير العرقي المرتكَب في حقّ المسلمين. أمَّا عن أهمّ درْس يمكن الخروج به من تلك التَّجربة أنَّ حرب العراق الأولى كانت بالفعل إيذانًا بنظام عالمي، جديد فقط من حيث “تبنّيه سياسات قديمة من الهيمنة والاستغلال مع اختلافات شكليَّة عارضة، بهدف الإبقاء على دول وشعوب العالم في أماكنها الصَّحيحة الَّتي تخدم الغرب” (ص39). يمكن كذلك استنتاج أنَّ القانون الدُّولي “حيلة وقناع يضعه الأقوياء على وجوههم حين الحاجة” (ص39).
إشعال الحرب الباردة لإحكام السَّيطرة الأمريكيَّة على العالم
لم تتغير سياسات غزو الدُّول العظمى لدول العالم الثَّالث عن الَّتي اتَّبعتها أوروبَّا في غزو أمريكا الشَّماليَّة واستعمارها، لتؤسّس أكبر قوَّة باطشة في يومنا هذا، وهي أمريكا، الَّتي استطاعت الاستحواذ على نصف ثروة العالم بعد انتصارها في الحرب العالميَّة الثَّانية وانتهاء الحرب عام 1945م. استفادت أمريكا من موقعها الجغرافي الفريد؛ فهي تقع بين محيطين يصعب تجاوزهما لشنّ عدوان عليها؛ كما أحسنت استغلال ثرواتها الطَّبيعيَّة في إحداث نهضتها المادّيَّة. كان من الواضح أنَّ أمريكا ستقود العالم بعد انتهاء الحرب لصالها؛ وهذا ما نجح المخطّطون في استغلاله بالإعداد لفترة ما بعد الحرب أثناء اشتعالها. تركَّز تفكير المخطّطين الحكوميين على كيفيَّة إخضاع الأسواق العالميَّة للسُّلطان الأمريكي؛ واستُخدمت الآلة الدَّعائيَّة في إقناع العامَّة بأنَّ حريَّة السُّوق هي سبيل تحقيق الرّبح وإحداث طفرة اقتصاديَّة، وإشاعة أنَّ مَن يعطّل ذلك هو من دعاة الفوضى، مع ادّعاء وجود مؤامرة تُحاك ضدَّ أمريكا الرَّأسماليَّة بتخطيط من الشُّيوعيين. يؤكّد تشومسكي إنَّ التّقنيات الحديثة أُحسن استغلالها من قِبل أباطرة المال للسَّيطرة على الفِكر الجماهيري، وتوجيهه بما يخدم مصالح تلك الشَّريحة المحدودة من المنتفعين. نجحت وسائل الإعلام في سِحر أعين العامَّة وإقناعهم بجاذبيَّة مجال الاستثمار؛ حتَّى صار اقتحام عالم البزنس حلمًا يراود الطَّامحين إلى تكوين الثّروات. أصبح الفكر الرَّأسمالي هو المسيطر على الذّهنيَّة الأمريكيَّة؛ وأصبح العمل ضدَّ ذلك الفكر بمثابة الخيانة، بعد أن أطلق فريق من المفكّرين مفهومًا عُرف بـ “معاداة الأمريكيَّة”، حوَّل المعارضين للتَّيَّار السَّائد إلى أعداء لدولتهم.
شُنَّت في أمريكا في أعقاب الحرب العالميَّة الثَّانية حملة منظَّمة للنَّيل من الشُّيوعيَّة واتّخاذها العدوَّ الواجب القضاء عليه، بعد هزيمة الفاشيَّة الإيطاليَّة والنَّازيَّة الألمانيَّة في الحرب؛ فأصبح الاتّحاد السُّوفييتي الخصم الجديد، الَّذي من أجله اشتعلت الحرب الباردة. ومن بين الإجراءات الحكوميَّة لدحْر الشُّيوعيَّة إصدار الغرفة التُّجاريَّة الأمريكيَّة نشرة عنوانها “التَّغلغل الشُّيوعي في الولايات المتَّحدة”، وأخرى عنوانها “الشُّيوعيون داخل الحكومة”، كان هدفهما إثارة العداء تجاه الشُّيوعيَّة وأقطابها؛ ومن بينها كذلك تنظيم كبرى الشَّركات دورات تعليميَّة للتَّعريف بآليَّات الاقتصاد الحرّ. هكذا، نجحت المؤسَّسات الاقتصاديَّة الرَّائدة في تكوين رأي عامّ مساند لما يأتيها بالمنفعة، بفضل الآلة الإعلاميَّة ووسائل الاتّصال الحديثة حينها، دون مبالاة بحقوق العمَّال، ودون اعتبار للنتائج الاجتماعيَّة المترتّبة على ذلك. وبالطَّبع، نجح انتعاش الاقتصاد الأمريكي بعد الحرب العالميَّة الثَّانية، وما سبقها من سنوات الكساد الكبير، في استمالة الرَّأي العام وتعافته على المشاركة في الطَّفرة الاقتصاديَّة؛ فأصبح من السَّهل إقناع العمَّال بالابتعاد عن الاتّحادات العمَّاليَّة، ومن ثمَّ تغلغُل الشُّيوعيَّة في البنية الاقتصاديَّة الأمريكيَّة. على ذلك النَّحو، استطاع مستشارو الرَّئيس هاري ترومان (أبريل 1945-يناير 1953م) في شيطنة الشيُّوعيَّة ومناصريها في أمريكا، بحجَّة الحفاظ على سياسة الاقتصاد الحرّ، بينما كان هدفهم سحْق “أيّ تحدٍّ مباشر للهيمنة الرَّأسماليَّة” (ص135). ولإحكام اختلاق الذَّرائع لشنّ الحرب الباردة، أُطلقت حملة لتوجيه الاتّهامات غير المستندة إلى أدلَّة بالعمل لصالح الفكر الشُّيوعي، وبالتَّالي معادة الأمريكيَّة، عُرفت بـ “المكارثيَّة” (McCarthyism)، نسبة إلى جوزيف مكارثي، وكان عضوًا في مجلس الشُّيوخ الأمريكي ورئيسًا لإحدى لجانه الفرعيَّة، وقد اتَّهم عددًا من موظَّفي الحكومة بالخيانة واعتناق الشُّيوعيَّة.
المصدر: رسالة بوست