مقالاتمقالات المنتدى

دلالات الاعتكاف في التربية الروحية

دلالات الاعتكاف في التربية الروحية

 

بقلم د. سلمان مرضي السعودي (خاص بالمنتدى)

 

لقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم من أكمل الهدي وأيسره في جميع العبادات والمعاملات والخلاق، ويتضح لنا جليا في هذا الشهر المبارك – شهر رمضان – في اعتكافه صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم مدرسة في الهداية والدلالة إلى السمو بالعبادة والأخلاق، كيف لا وقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، قال تعالى: ﴿  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } ([1])  وقد وصفه تعالى بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ ([2])  وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ ” و في روايةٍ ( صالحَ ) الأخلاقِ ” ([3])

معنى الاعتكاف:

الاعتكاف: هو لزوم المسجد بنية مخصوصة ، لطاعة الله تعالى : وهو مشروع مستحب باتفاق أهل العلم، قال الإمام أحمد فيما رواه عنه أبو داود: ( لا أعلم عن أحد من العلماء إلا أنه مسنون ) وقال الزهري رحمه الله : ( عجباً للمسلمين ! تركوا الاعتكاف ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ، ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل )

أركان الاعتكاف:

للاعتكاف أربعة أركان: (المُعتَكِف، النية، المعتكَف فيه، اللبث في المسجد). فهذه أركان أربعة عند جمهور الفقهاء.

الدلالات المستوحاة من الاعتكاف في التربية الروحية:

أولا: تربية القلب:

فالقلوب حتى تصبح سليمة لا بد وأن تُروض على الطاعة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فالعبادة تُجْلِي ما على القلوب من كدر وهم وغم، ويجعلها مطمئنة، قل تعالى: ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ ([4]) وبالاعتكاف تجتمع معظم أسباب تربية القلوب، ففيه بركة الزمان والمكان، وبركة الأعمال، ففيه الصلاة ونهاره صيام، وساعاته ذكر تلاوة قرآن وتسبيح وتحميد وتكبير وتهليل وصدقة، فإذا اجتمعت هذه على قلب أصلحته، فكانت نعمة التربية لتمنح القلب صفاء يضفي صفاؤه على الروح، فمن أسرار الاعتكاف صفاء القلب والروح؛ إذْ إنَّ مدار الأعمال على القلب كما في الحديث عن النعمان بن بشير- رضي الله عنهما- عن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ” ألاَ وإن في الجسد مُضْغة، إذا صلحت صَلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ” ([5])

يقول الدكتور محمد الزحيلي رحمه الله تعالى: “صفاء القلب بمراقبة الربِّ والإقبال، والانقطاع إلى العبادة في أوقات الفراغ، متجرِّدًا لها ولله- تعالى- من شواغل الدنيا وأعمالها، ومسلِّمًا النَّفْس إلى المولى بتفويض أمرها إلى عزيز جنابه، والاعتماد على كرمه والوقوف ببابه، وملازمة عبادته في بيته- سبحانه وتعالى- والتقرب إليه ليقرب من رحمته، والتحَصُّن بحِصنه- عزَّ وجلَّ- فلا يصل إليه عدوه بكيده وقهره؛ لقوَّة سلطان الله وقهره، وعزيز تأييده ونَصره، فهو من أشرف الأعمال وأحبِّها إلى الله- تعالى- إذا كان عن إخلاص لله- سبحانه- لأنه منتظر للصلاة، وهو كالمصلِّي، وهي حالةُ قُرْب، فإذا انضم إليه الصوم عند مشتَرِطِيها ازداد المؤمن قربًا من الله بما يفيض على الصائمين من طهارة القلوب، وصفاء النفوس” ([6]) ويقول إبراهيم الخواص: “دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بتدبُّر، وخلُوُّ البطن، وقيام الليل، والتضُّرع عند السَّحَر، ومجالسة الصالحين” ([7])

ثانيا: الحرص على استغلال مواسم الطاعة:

عن محمد بن مسلمة الأنصاري أن رسول الله ﷺ قال : « إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها، لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدًا » ([8])  وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على استغلال كل الأوقات، وخاصة التي فيها نفحات الله تعالى، حافظ صلى الله عليه وسلم على الاعتكاف في العشر الأواخر، كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده “. ([9]) وفي العام الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم ( اعتكف عشرين يوماً ) ([10]) أي العشر الأواسط والعشر الأواخر جميعاً. وذلك لعدة أسباب :

أولها: أن جبريل عارضه القرآن في تلك السنة مرتين. ([11])

ثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم أراد مضاعفة العمل الصالح، والاستزادة من الطاعات.

ثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك شكراً لله تعالى على ما أنعم به عليه من الأعمال الصالحة من الجهاد والتعليم والصيام والقيام وما آتاه من الفضل من إنزال القرآن عليه ورفع ذكره وغير ذلك مما امتن الله تعالى به عليه .

ثالثا: شكر الله على النعم:

عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله ﷺ: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ” ([12]) فإن الفراغ والصحة من أجلَّ النعم التي أنعم الله بها على عبده، ولهذا يتوجب على العبد أن يداوم على شكر الله المنعم، لأنه من انقطع عن شكر النعم انقطعت عنه بركة العطاء الرباني، كيف لا وقد حثنا الله تعالى على الاستمرار في الشكر له على نعمه في آية من آيات الصيام بقوله ( لعلكم تشكرون ) فجاءت لفظة ( تشكرون ) بصيغة المضارع، وصيغ المضارع تفيد الاستمرارية.

وكذلك لا بد من شكر الله تعالى على نعمة الوقت الذي جعله الله تعالى موسما من مواسم الطاعات المباركات الذي تضاعف فيه الأجور على قليل العمال إن كان فيها إخلاص لله تعالى، ولقد ذكر العلماء بأن أفضل يوم في العام هو يوم عرفة، وأفضل ليلة هي ليلة القدر، وأفضل عشرة أيام هي العشر الأُول من ذي الحجة، وأفضل عشر ليالي هي ليالي العشر الأخيرة من رمضان، فهذه الليالي العشر من رمضان يجب على الإنسان أن يجتهد فيها بالمزيد من الشكر لله تعالى على أن أحياه ليعيشها ويعيش فضلها حتى يفوز بجوائزها التي وعد الله تعالى بها، وبينها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فهناك أخوة لنا وأحبة حرمهم الموت من أن يعيشوا بركة هذه الأيام، فعلينا أن نغتنم الفرص التي يعطينا إياها رب العزة سبحانه وتعالى كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه قال النبيّ – عليه الصلاةُ والسلام: ” اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ ” ([13]) ومعناه أنّ هذه الخمس هي أيام العمل والقوّة والإكثار من الطاعات، فمن فاتهُ العمل فيها فلن ينفع الإنسانُ عندها الندم على ما فرّط في زمن القوة، حيث إنّ بعد القوّة الضعف، وبعد الشباب الهرم، وبعد الصحة المرض، فمن فرّط في أيام شبابه فلا يُمكنهُ تدارُك ما فاته في أيام كِبره وفي الحديث حثٌّ عظيم على اغتنام الفُرص في زمن المُهلة قبل أن يأتي الوقت الذي يندم فيه الإنسان على ما قصّر، قال الله تعالى: ﴿ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ﴾ ([14]) فالغنيّ والصحيح ومن يملك الوقت يستطيع فعل أشياء كثيرة لا يستطيع فِعلها الفقير والمريض والكبير.

رابعا: الانقطاع الكلي لمناجاة الله تعالى:

والاعتكاف المسنون هو اعتكاف الروح والجسد إلى جوار الرب الكريم المنان، في خلوة مشروعة، تتخلص النفس من بهرجة وزينة المتاع الفاني، واللذة العاجلة، لتبحر الروح في الملكوت الطاهر طالبةً القرب من الحبيب مالك الملك، ملتمسة لنفحاته المباركات.

كان صلى الله عليه وسلم حريصا على اعتكاف القلب مع اعتكاف الجسد والوح، فرغم أن بيته صلى الله عليه وسلم كان بجوار المسجد، إلا انه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في المسجد، وكان يضع فراشه في الروضة الشريفة عند اسطوانة التوبة، ويضع على الاسطوانة خباء له، فكان معتكف داخل معتكف ليخلوا صلى الله عليه وسلم خلوة تامة لمناجاة الله تعالى، والنبي صلى الله عليه اختار اسطوانة التوبة ليضرب عليها خباءه ليعلم الأمة أن رأس المقاصد من صيام رمضان والاعتكاف فيه التوبة، التي تستجلب المغفرة والعفو من الله تعالى، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يضع رأسه عند اسطوانة التوبة، ليتحقق الانقطاع الكلي جسدا وروحا وقلبا لمناجاة الله تعالى طمعا برضوان الله تعالى وعفوه، فالمدخل إلى الله تعالى هو: ﴿ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ ([15]) فمتى تاب العبد غفر له الرب ، ومتى غُفر له فاز بجوائز الله تعالى.([16])

الخلوة عند الصالحين موطن محاسبة النفس واستصلاح عيبها، فقد عنّف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحدَ رعيته، ثم دخل بيته فافتتح الصلاة، فصلى ركعتين، ثم جلس، فقال: “يا ابن الخطاب، كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزّك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، لما جاء رجل يستعديك ضربته، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟ “، يقول الأحنف بن قيس: فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه من خير أهل الأرض. رواه ابن عساكر. وسأل فَيْضُ بْنُ إِسْحَاقَ الْفُضَيْلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ مِنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ ([17]) ، قَالَ: “الْمُنِيبُ الَّذِي يَذْكُرُ ذَنْبَهُ فِي الْخَلْوَةِ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ”. وفي الخلوات لذة المناجاة، يقول مسلم بن يسار: “مَا تَلَذَّذَ الْمُتَلَذِّذُونَ بِمِثْلِ الْخَلْوَةِ بِمُنَاجَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ”، ويقول محمد بن يوسف: “مَنْ أَرَادَ تَعْجِيلَ النِّعَمِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ مُنَاجَاةِ الْخَلْوَة”.([18])

ودمعة الخشية في الخلوة سبب للاستظلال بظل الله سبحانه يوم القيامة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله”، ومنهم: “رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه”. ([19])

خامسا: دفع الشك باليقين للحفاظ على صدق الإيمان:

إن الأصل في المسلم الابتعاد عن مواطن التُهم والشُبهات، والتحرز من كل ما يُوقِعُهُ في تهمة أو شبهة، وذلك لأن مواطن الرِيبة والتهم قد تجر الناس إلى إساءة الظن به، وإطلاق ألسنتهم فيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فمَنِ اتّقى الشُبُهات فقد استبرأ لدينه وعِرْضِه) ([20]) ، قال ابن رجب: “أي: طلب لهما البراءة مما يشينهما”.([21])

ومن مواقف السيرة النبوية الدالة على أن المسلم عليه أن يُبرئ نفسه من مواطن الريبة والسوء، حفظاً لعرضه، وصيانة لقلوب الناس وألسنتهم، ما رواه البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها: (أنها جاءتْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزورُه، وهو مُعْتَكِفٌ في المسجِد، في العَشْر الأواخرِ مِن رمَضان، فتَحَدَّثَت عنده ساعَة مِن العِشاء، ثم قامتْ تَنْقَلِب (ترجع إلى بيتها)، فقام معها النبي صلى الله عليه وسلم يَقْلِبُها (يردها و يمشي معها)، حتى إذا بلغت بابَ المسجد، الذي عِندَ مَسكَن أُمِّ سَلَمَة زَوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم، مَرَّ بهِما رجلان مِنَ الأنْصارِ، فسَلَّما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نَفَذا (أسرعا)، فقال لهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: علَى رِسْلِكُما (مهلكما)، إنَّما هي صفيَّة بنتُ حُيَيٍّ، قالا: سبحان الله يا رسول الله، ـ وكَبُرَ عليهِما (عظُم و شقّ) ما قال، قال صلى الله عليه وسلم: إنَّ الشَّيطان يَجْري مِن ابنِ آدَم مَبلَغ الدَّم، وإنّي خَشيتُ أنْ يَقذِف في قُلوبِكُما). ([22])

سادسا: جواز السمر في المعتكف بما لا يلهي عن العبادة.

روى الشيخان أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد، في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة.

وفي ذلك دلالة على جواز السمر فيما هو مباح ولا يلهي عن ذكر الله تعالى، حبذا لو كان الحديث فيما تعم فيه المصلحة من تعليم وإرشاد وتوجيه، أو اصلاح ذات البين، أو قضاء حاجة ملحة لأنسان  عند الطبراني بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «.. وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ- شَهْرًا» ([23]) فالاعتكاف يعود النفع فيه لذات المعتكف، ولكن قضاء الحوائج نفعها متعدٍ ليشمل العدد الأكثر، وزيارة أم المؤمنين صفية رضية الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم في معتكفه والجلوس إليه والحديث معه صلى الله عليه وسلم خير دليل على جواز السمر في المعتكف فيما هو مباح.

سابعا: المحافظة على النظافة لأنها شطر الإيمان:

وكان صلى الله عليه وسلم يحافظ على نظافته، إذْ كان يخرج رأسه إلى حجرة عائشة رضي الله عنها لكي ترجّل له شعر رأسه، ففي الحديث عن عروة عنها رضي الله عنها ( أنها كانت ترجّل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض، وهو معتكف في المسجد ، وهي في حجرتها ، يناولها رأسه ) ([24])

قال ابن حجر : ( وفي الحديث جواز التنظيف والتطيب والغسل والحلق والتزين إلحاقاً بالترجل ، والجمهور على أنه لا يكره فيه إلا ما يكره في المسجد ) ([25])

ثامنا: اخراج جزء من الجسم لا يعتبر خروج من المعتكف:

إن من أركان الاعتكاف المكث في المسجد، فالخروج من المسجد يقطع الاعتكاف، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر دخل المعتكف قبل غروب الشمس من ليلة الحادي والعشرين، وكان صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، وذلك من أجل التركيز والانقطاع الكلي لمناجاة الله عز وجل، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه وهو معتكف في المسجد إلى عائشة رضي الله عنها وهي في حجرتها، فتغسله وترجله، وهي حائض، كما جاء في الصحيحين ([26] وفي مسند أحمد أنه كان يتكئ على باب غرفتها، ثم يُخْرج رأسه، فترجّله. ([27])

وفي ذلك دليل على أن إخراج المعتكف بعض جسده من المعتكف لا بأس به ، كأن يخرج رجله أو رأسه . كما أن الحائض لو أدخلت يدها أو رجها مثلاً في المسجد فلا بأس ، لأن هذا لا يُعدّ دخولاً في المسجد .

تاسعا: الاعتكاف يؤصل العبودية لله تعالى وحده في قلب المؤمن، ويضبط سلوكه الأخلاقية:

وهذا أمر مقطوع به، لأن مظاهره واضحة في أداء الصيام والصلوات، والتهجد بالليل، وتلاوة القرآن الكريم، والذكر، والاستغفار، والتوبة والإنابة إلى الله وحده.. وغير ذلك مما يتعبد به المؤمن، ذلك لأن الذاكر يستحضر عظمة الله الذي يذكره، وإلا فلا أثر لذكره، وأفضل الذكر كما قرر المعصوم صلى الله عليه وسلم في قوله: ” خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ” ([28]).

ويكفي المسلم الذاكر شرفًا أن الله يذكره كلما ذكر الله، وذلك قوله سبحانه:﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُون﴾ ([29]) وإن من الأخلاق التي يضبطها الاعتكاف.

  1. الاعتكاف يؤصل الرجولة والقوة في المؤمن:

وهذا الأمر واضح جلي لكل من يتأمل في المنهج الفقهي للاعتكاف من حيث السلوك، وأداء العبادات، وتربية النفس والجوارح، كل ذلك يعد دعوة صريحة إلى بناء الرجولة الإيمانية،. وتأصيلها في المؤمن روحيًا وجسديًا، وما أحوج الأمة المسلمة إلى هذه الرجولة في شتى ميادين الحياة التي تحتاج إلى رجال في الجهاد، والاقتصاد.. وغيرهما.

  1. الاعتكاف يوطد علاقة الأخوة في الله:

إن التآخي في الله أضحى ضائعًا بين أبناء المجتمع المسلم، الأمر الذي أدى إلى تفريق صفهم، وانهيار اقتصادهم، وهزيمتهم، فما أحوجنا إلى هذا التآخي الذي هو السبيل إلى الحب والتعاون لبناء مجتمع فاضل، الرجال فيه يصلحون ويحققون الخلافة على الأرض فيتمكنون فيها وعليها، وتكون لهم الغلبة إن شاء الله تعالى.

عاشرا: الاعتكاف دورة تدريبية للنفس على الأخلاق والمراقبة الذاتية.

النفس البشرية تنقسم الى ثلاثة أقسام، كما ذُكرت في القرآن الكريم:

1- النفس المطمئنة: وهي النفس التي تحث صاحبها على فعل الطاعات، قال تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴾ ([30])

2- النفس اللوامة: وهي المضطربة تارة تحث صاحبها على فعل الخيرات وتارة اخرى تحثه على فعل بعض المعاصي، قال تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ ([31])

3– النفس الأمارة بالسوء: وهي التي تحث صاحبها دائما” على ارتكاب المعاصي، قال تعالى: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ ([32])

اللهم اجعل أنفسنا وقلوبنا مطمئنة بذكرك.

فالواجب على الإنسان محاسبة النفس، وذلك بالتفكُّر في مَسِيرة حياته، وما جنَتْه يداه من ذنوب وحسنات، ووقفة مع النفس لتصحيح المعوجِّ، والتمسُّك بالطريق السليم الذي لا اعوجاج فيه، ومحاسبة النفس مطلوبة، كما جاء عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: “حاسِبُوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا؛ فإنَّه أهون لحِسابكم، وزِنُوا أنفسكم قبل أن تُوزَنوا، وتجهَّزوا للعرض الأكبر يوم تُعرَضون لا تَخفى منكم خافية” ([33]) ويأت الاعتكاف كدورة تدريبية مغلقة لهذه النفس التي تستهويها الحياة الدنيا بما فيها من زينة بهرجة وحب للشهوات، فالاعتكاف يؤصل في نفس المعتكف مفهوم العبودية الحقة لله عز وجل، ويدربه على هذا الأمر العظيم الذي من أجله خلق الإنسان، كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾  ([34]) حيث أن المعتكف قد وهب نفسه كلها ووقته كله متعبداً لله عز وجل.

ويكون شغل المعتكف الشاغل هو مرضاة الله عز وجل، فهو يشغل بدنه وحواسه ووقته – من أجل هذا الأمر – بالصلاة من فرض ونفل، وبالدعاء، وبالذكر، وقراءة القرآن الكريم، وغير ذلك من أنواع الطاعات .

وبهذه الدورة الإيمانية في مثل أيام العشر الخيرة من شهر رمضان المبارك يتربى المعتكف على تحقيق مفهوم العبودية لله عز وجل في حياته العامة والخاصة، ويضع موضع التنفيذ قول الحق تبارك وتعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ ([35]) قال القرطبي ( محياي ) أي: ما أعمله في حياتي، ( ومماتي ) أي: ما أوصي به بعد وفاتي، ( لله رب العالمين ) أي: أفرده بالتقرب بها إليه ) ([36]).

ففي الحديث القدسي عَنْ أَبِي هُرَيْرَة – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: “مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقْد آذَنْتهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ”. ([37])

ومحاسبة النفس واجبة على كل عاقل ليحفظها من أن تضل، ويعيدها إلى الصواب، وذلك بالتفكُّر في مَسِيرة حياته، وما جنَتْه يداه من ذنوب وحسنات، ووقفة مع النفس لتصحيح المعوجِّ، والتمسُّك بالطريق السليم الذي لا اعوجاج فيه، ومحاسبة النفس مطلوبة، كما جاء عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: “حاسِبُوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا؛ فإنَّه أهون لحِسابكم، وزِنُوا أنفسكم قبل أن تُوزَنوا، وتجهَّزوا للعرض الأكبر يوم تُعرَضون لا تَخفى منكم خافية” ([38])

ويقول إبراهيم الخواص: “دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بتدبُّر، وخلُوُّ البطن، وقيام الليل، والتضُّرع عند السَّحَر، ومجالسة الصالحين” ([39])

هناك أربعة أشياء تساعد المسلم في تطهير قلبه :

الأولى: المداومة على ذكر الله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ ([40]) وبالذكر يطمأن القلب قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ ([41])

الثانية: الصمت: ” عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بـالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بـالله واليوم الآخر، فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بـالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه» ([42])

الثالثة: العزلة (الاعتكاف): وقال الزهري رحمه الله : ( عجباً للمسلمين ! تركوا الاعتكاف ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ، ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل ) ([43])

الرابعة: عدم الإفراط في تناول الطعام والشراب: قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ ([44])

كل هذه الأشياء مجتمعة تعتبر معززات روحية للقلب تسمح لنا بالابتعاد عن الغفلة والخروج إلى حالة ذكر الله الحقيقية حيث تتوق القلوب إلى أن تكون أقرب إلى الله عز وجل.

هذا والله من وراء القصد

 

 

الهوامش

________________________________________________________

[1] – ( سورة الأنبياء: 107).

[2] – ( سورة القلم:4).

[3] –  أخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة الصفحة أو الرقم: 45).

[4][4] – ( سورة الرعد: 28 )

[5] – أخرجه البخاري (1/28)، رقم (52)، ومسلم (3/1219)، رقم (1599).

[6] – “انظر: الفقه الإسلامي وأدلته – وهبة الزحيلي (3/123).

[7] – انظر: “الرسالة القشيرية”: 23. (https://www.alukah.net/spotlight/0/24956 )

[8] – أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 2398)

[9] – أخرجه البخاري ( 1921 ) ومسلم ( 117 ).

[10] – أخرجه البخاري ( 1939 )

[11] – أخرجه البخاري ( 4712 ).

[12] – أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب لا عيش إلا عيش الآخرة (8/ 88)، رقم: (6412).)

[13] – أخرجه الألباني، في صحيح الترغيب، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم: 3355، صحيح .

[14] ( سورة الشورى: 47 ).

[15] – ( سورة الأحقاف: 15).

[16]–  (https://www.alukah.net/sharia/0/1092 ).

[17] – ( سورة ق: 33).

[18] – ( https://www.alukah.net/sharia/0/50481/ ).

[19] – أخرجه البخاري ومسلم.

[20] – أخرجه مسلم.

[21] – (https://www.alukah.net/sharia/0/50481/ ).

[22] – أخرجه البخاري.

[23] – أخرجهه الطبراني (المعجم الأوسط؛ برقم: [6/139]) بإسناد صحيح.

[24] – أخرجه البخاري 4/807 فتح الباري

[25] – انظر: فتح الباري4/807

[26] – أخرجه البخاري ( 1924 ) ، ( 1926 ) ومسلم ( 297) .

[27] – أخرجه الأمام أحمد في مسنده ( 6/272)

[28] – أخرجه الترمذي – حديث حسن.

[29] – ( سورة البقرة:152)

[30] – ( سورة الفجر: 27-28 )

[31] – ( سورة القيامة: 1-2 )

[32] – (سورة يوسف: 53)

[33] – أخرجه ابن المبارك في “الزهد” (1/103)، رقم (306). ( رابط الموضوع: https://www.alukah.net/spotlight/0/24956 )

[34] – ( سورة الذاريات: 56 ).

[35] – ( سورة الأنعام: 162 -163).

[36] –  انظر: تفسير القرطبي 7/69 – (http://www.saaid.net/mktarat/ramadan/127.htm ).

[37] -أخرجه الْبُخَارِيُّ (رقم:6502)

[38] – أخرجه ابن المبارك في “الزهد” (1/103)، رقم (306).- ( https://www.alukah.net/spotlight ).

[39] – انظر: “الرسالة القشيرية”: 23- ( https://www.alukah.net/spotlight ).

[40] – ( سورة البقرة:152).

[41] – ( سورة الرعد:28).

[42] – رواه البخاري ومسلم.

[43] – http://www.saaid.net/mktarat/ramadan/127.htm

[44] – ( سورة الأعراف:31).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى