مقالاتمقالات المنتدى

معالم في طريق النصر والتمكين (3): البناء الروحيُّ أساس النهضة والتمكين

معالم في طريق النصر والتمكين (3): البناء الروحيُّ أساس النهضة والتمكين

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

إن العبادات التي سنها الله لنا ذات تأثير شامل مشرق، ولها أخطر المهمات في تمكين الحقائق العليا للرسالات الإلهية، وتحقيق الفطرة الإنسانية على وجهها الصحيح المستقيم، طالما تمثلت فيها عناصر الحب والذل، والرجاء والخوف ونحوها، ومعلوم لدى العلماء أن للعبادة مقصدًا أصليًا، وهو التوجه إلى الواحد الصمد، وإفراده بالعبادة في كل حال، طلبًا لرضا الله، والفوز بالدرجات العلا، وهناك مقاصد تابعة للعبادة: صلاح النفس، واكتساب الفضيلة، فالصلاة مثلاً أصل مشروعيتها الخضوع لله تعالى، وإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بذكره، قال تعالى: +وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي” [طه:14]، وقال: +إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ” [العنكبوت:45] يعني أن اشتمال الصلاة على التذكير بالله هو المقصود الأصلي، ثم إن لها مقاصد تابعة كالاستراحة إليها من أنكاد الدنيا وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة، وكذلك سائر العبادات لها فوائد أخروية وهي العامة، وفوائد دنيوية وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية وهي الانقياد والخضوع لله. (العبادة في الإسلام للقرضاوي: 48-49)

وإذا تأملنا في مهمة العبادة يمكننا أن نستخلص الآتي:

1- تثبيت الاعتقاد:

إن روح العبادة هو إشراب القلب حب الله تعالى، وهيبته، وخشيته والشعور الغامر بأنه رب الكون ومليكه، والتوجه دائمًا بما شرع من شعائر ونسك، باعتبارها مظهرًا عمليًا دائبًا لصدق الإنسان في دعوى الإيمان، وتذكيرًا مستمرًا بسلطان الإله الأعلى، وإلهابًا متجددًا لجذوة اليقين في الله، ورجاء فضله وثوابه.

ولنأخذ مثالاً عباديًا لتثبيت معنى التوحيد، وإجلال الله تعالى، وهو (الأذان) وقد شرع بدخول أوقات الصلاة المفروضة، فهو يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، وينادي به منادي المسلمين صوتًا في كل مكان يوجد به تجمع إسلامي، ولو كان أدنى الجمع من المسلمين، بل شرع مع ذلك للمسافر، والمنفرد، ولو كان في بادية لما يمثله من معانٍ عظيمة ليس مجرد الإعلام بدخول الوقت.

إن المؤذن حين ينادي بصوته الأعلى: (الله أكبر الله أكبر) ثم يكررها، يطلب شرعًا أن يردده معه كل مسلم ومسلمة حين يسمعون هذا القول الأجل، لينسكب في مشاعر الجميع وفي أوقات متكررة متقاربة، معنى الكبرياء المطلق لله رب العالمين، وأنه تعالى فوق كل شيء وأكبر من كل شيء، فينبغي أن يعتز به وحده، ويلوذ بحماه وكنفه، ويستعلي فوق أعناق الطواغيت والجبارين بهذا النداء الجهير، الذي أراد الله عز وجل أن يتواطأ عليه المجتمع كله، وأن يظل حتى المنفرد على صلة دائمة به.

فإذا تقرر هذا المعنى عاد النداء الأجل ليملأ الآفاق: (أشهد أن لا إله إلا الله) وهو تذكير يومي بالعهد والميثاق الذي أعطاه العبد لربه بأن لا يعبد ولا يطيع إلا ربه الأكبر، المنفرد بالكبرياء في السموات والأرض.

ثم يأتي الشق الثاني من الشهادة: (أشهد أن محمدًا رسول الله) وهو كما علمت إقرار متكرر أيضًا بالطريق الذي تؤخذ عنه العبادة المشروعة، والتي لا تصح إلا بالتلقي عن الوحي الإلهي الذي جاء به المعصوم .

ثم تأتي رابعًا: الدعوة إلى الصلاة نفسها في جملتين فقط: (حي على الصلاة، حي على الصلاة) لأن الأذان كما قلنا أبعد مدى، وأشمل آثارًا.

ثم تأتي خامسًا: الدعوة العامة إلى الصلاح المطلق، المتمثل في الاستجابة لهذا الدين الإلهي الأغر، ومثله وتعاليمه، وفي مقدمتها الصلاة بداهة. (وسطية القرآن في العبادة والأخلاق والتشريع، ص 40)

ولذلك يعود الشارع بالمؤذن إلى نقطة البدء ليكبر في الختام التأكيد على تفرده تعالى بالكبرياء، وإعلان التوحيد بصيغة الإقرار والإثبات بعد صيغة الشهادة السابقة (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله) معنى هذا أن الأذان وحده يجري على ألسنة المؤمنين، ويسكب في ضمائرهم، ويغرس في حياتهم ووجدانهم إفراد الله تعالى بالكبرياء (ثلاثين) مرة يوميًا، وإفراده تعالى بصفة الألوهية الذي تفرده بالعبادة والطاعة «خمس عشرة» مرة، وهو نداء لا يتقيد بحدود معبد، أو مسجد، وإنما ينطلق ليدخل كل بيت، ويصافح كل سمع، ويطرق كل قلب يريد الهدى.

وإذا كان هذا هدف الوسيلة في تقرير الأصول العليا فإن القصد الذي تؤدي إليه (وهي الصلاة) أعظم شأنًا، وأتم مظهرًا، فقد فرضها الله على كل بالغ من الذكور والإناث خمس مرات في اليوم والليلة، وهي تبدأ بالتكبير ويطلب من المصلي تكرار هذه الجملة (الله أكبر) في صلوات الفرض فقط (أربعًا وتسعين مرة) عدا ما يقرع سمعه بعددها من صلوات إمامه إذا صلى جماعة، فضلاً عن السنن الراتبة والنوافل المطلقة وهي أضعاف ذلك.

ثم إن العبد يتلو كتاب ربه في صلاته، ويحني له ظهره راكعًا، ويخر بجبهته ساجدًا، ويناجي مولاه معظمًا، ومسبحًا، وحامدًا، وداعيًا، وليس هناك في الوجود أسمى وأجل من هذه الشعيرة في ربط العبد بهذا السلطان الإلهي، وإلهاب نفسه بمعاني عظمته وسموه. (المنهاج القرآني في التشريع، ص458)

إن الصلاة عندما تؤخذ على وجهها الصحيح -واحة وراحة- يسكن إلى ظلها المؤمن كلما مسه تعب الحياة ولغوبها، وهذا مصداق قول الله تعالى: +إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا  ` إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ` وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ` إِلاَّ الْمُصَلِّينَ ` الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ” [المعارج: 19-23].

2- تثبيت القيم الأخلاقية:

فقد جاء المنهاج الرباني في العبادة ليتمم مكارم الأخلاق، ويدعو الناس إلى المثل العليا، والفضائل الكريمة كالصبر، والمثابرة، والسماحة، والسخاء، والصدق، والتي تحقق للإنسان سعادته في الدنيا فضلاً عن الآخرة، وللعبادات بأنواعها مهمة عظيمة في تثبيت هذه الأخلاق، وتدعيمها، وغرسها في نفس المؤمن ووجدانه، (فالصلاة) مثلاً تعود المؤمن الصبر، والدأب، والإخلاص والنظام، حتى تصبح جميعًا خلقًا راسخًا في النفس، فالمسلم النائم حين يقوم من لذة النوم على نداء المؤذن «الصلاة خير من النوم»، وكذلك حين ينسحب من ضجيج الأسواق والبيع والشراء ملبيًا لنداء «حي على الصلاة»، ثم لا يزال دأبه هكذا عبر الساعات، والأيام، والأعوام، فهذا وأمثاله لابد أن تتربى فيهم هذه المعاني الخلقية العالية. (وسطية القرآن في العبادة والأخلاق والتشريع، ص 42)

و(الزكاة) التي أخذت من معنى الزيادة، والنماء، والتطهير، لها -هي الأخرى- أكبر الأثر في تنقية الخلق من زخم الشح والبخل والإمساك، وفي طبعه بطبائع البذل، والعطاء والسخاء، كذلك تستل صدور المحتاجين، وتبدل به شيئًا من خلق الحب، والمودة، أو على الأقل سلامة الصدور، فتشيع في المجتمع تبعًا لذلك كل علائق التداني والتقارب، وتتداخل صلات الناس بمشاعر الألفة، وإلى مثل هذا يشير قوله تعالى: +خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ” [التوبة: 103].

و(الصوم) له عمله الأساسي في تربية الإرادة الإنسانية، والضمير الحي اليقظ الذي يتعامل على أساس من رقابة الله تعالى له، واطلاعه عليه، فضلاً عن غرس خليقة الصبر، والضبط النفسي بالإمساك الطويل عن شهوتي البطن والفرج وبالكف عن
اللغو، والصخب، والقدرة على تغيير عاداته حتى لا يتعود الجمود، أو تستعبده
عاداته وتقاليده. (المنهاج القرآني في التشريع، ص 460)

__________________________________________

ملاحظة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم”، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية عشرة، 1405هـ، 1985م.
  • المنهاج القرآني في التشريع، د. عبد الستار فتح الله سعيـد، مطابع دار الطباعة الإسلامية، الطبعة الأولى 1413هـ، 1992م.

فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، د. علي محمد الصلابي، مؤسسة اقرأ، الطبعة الأولى، 2006م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى