مقالاتمقالات مختارة

الإسراء والمعراج قرار رباني بإسلامية القدس والمسجد الأقصى المبارك

الإسراء والمعراج قرار رباني بإسلامية القدس والمسجد الأقصى المبارك

بقلم الشيخ د. تيسير التميمي

 بداية أستميح الأخوة القراء الكرام عذراً لقطع سلسة المقالات المتعلقة بوقف سيدنا تميم بن أوس الداري رضي الله عنه في مدينة خليل الرحمن للكتابة في موضوع الإسراء والمعراج ، هذه الحادثة العظيمة التي يطيب للمسلمين المواظبة على الاحتفال بذكراها السنوية ، فهي مناسبة تتكرر في كل عام تظهر فيها الأمة بكاملها يقينها الثابت بهذه المعجزة الربانية ، وإيمانها الصادق بأن مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك هما جزء من عقيدتها التي لا محيد عنها أبداً ما دام في أبنائها قلب يخفق وعرق ينبض وعين تطرف ، كيف لا وقد وثق الله عز وجل هذه المعجزة الخالدة في قرآن يتلى أبد الدهر فقال تعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الإسراء 1 ، فهذه الآية الكريمة هي أقوى الأدلة النقلية على وقوع معجزة الإسراء .

     وأما معجزة المعراج فأقوى الأدلة النقلية فيها قوله تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } النجم 2- 18 .

     علمنا من أحداث السيرة النبوية كيف استقبل أهل مكة هذا الحدث استقبال المكذِّب ، وفي إنكارهم هذا أكبر برهان على أن الإسراء كان حقيقة تمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم برُوحه وجسده على الرغم من كونه جزءاً من عالم الغيب ، لذا كان للصِّدِّيق أبي بكر رضي الله عنه موقفاً آخر ، فقد استقبله بما يتناسب تماماً مع يقينه وإيمانه برسالة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال لقريش [ لئن قال لقد صدق ، إني أصدقه في أبعد من ذلك ، أصدقه بخبر السماء ] ومن هذا الموقف سُمِّي الصديق ، إذن جعل الحق عز وجل معجزة الإسراء والمعراج مَحكّاً للإيمان ومُمحِّصاً ليقين الناس يغربل أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا يبقى معه إلا أصحاب الإيمان الراسخ واليقين الثابت الذي لا يهتز ولا يتزعزع .

     ولماذا كانت معجزة الإسراء والمعراج ممحصة للإيمان وهي الخارقة لنظام الكون ؟ إن من آمن بأن قدرة الله مطلقة وأنه سبحانه وتعالى علي كل شيء قدير يوقن أنه يملك الكون ونظامه ، وثمرة ذلك ألآَّ يتردد في أن سؤاله من خير الدنيا والاخرة مهما كان في نظره بعيد المنال أو صعب التحقيق أو غير قابل للإجابة ، قال صلى الله عليه وسلم { إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ، ولكن لْيعزم المسألة ولْيُعْظم الرغبة فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء أعطاه } رواه البخاري في الأدب المفرد .

     كانت رحلة الإسراء والمعراج من المسجد الحرام ، المسجد الذي اختاره الله سبحانه وتعالى ليكون بيت الله وليكون قبلة عباده في الصلاة ، وانتهت هذه الرحلة بالمسجد الأقصى وهو مسجد بيت المقدس ، هذا المسجد الذي بارك الله حوله بصيغة المبالغة في البركة بقوله ” الذي باركنا حوله ” ، فإنْ كان سبحانه قد بارك ما حول الأقصى فالبركة فيه من باب أَوْلى ، والبركة هذه دنيوية ودينية : فالبركة الدنيوية بما جعل حوله من أرض خِصْبة فيها أنواع النعم العديدة ، والبركة الدينية بأنه كان دوماً مَهْد الرسالات وأرض النبوات ومهبط الوحي ، تعطَّرَ ثراه بخطى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام وأبنائه : إسحق ويعقوب وموسى وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام .

     وفي السيرة النبوية علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نصيره عمه أبا طالب وفقد زوجته المؤازرة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها في عام واحد ، ولعل ذلك السبب في تسميته عام الحزن ، فتجرأت عليه قريش وأمعنت في إساءاتها له ، فازداد غمًّا على غمٍّه حتى يئس منها ، فخرج إلى ثقيف بالطائف مبلِّغاً يطلب التصديق والنصرة والإيواء ، إلا أنهم ردوه شر رد وأغروا به صبيانهم  وجهلاءهم وسفهاءهم ليحصّبوه بالحجارة ، فكان موقفهم أسوأ من مواقف قريش التي عانى منها سنوات عجاف طوال وأشدَّ قسوة منهم ، وكان أصعب وقعاً عليه صلى الله عليه وسلم ، فعاد من عندهم مُكذَّباً دامياً ، فكان من دعائه في هذا الموقف العصيب الشديد { اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك أو يحل عليَّ سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك } رواه الطبراني .

     لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانته الخاصة عند ربه عز وجل برحلتيْ الإسراء والمعراج ، رأى صلى الله عليه وسلم حفاوة السماء به ، فكأن ربه يقول له [ إن أهانك أهل الأرض فسوف يحتفل بك أهل السماء في الملأ الأعلى، وإنْ كنت في ضيق من الخَلْق فأنت في سَعة من الخالق ] ، فكان شهر رجب الذي مسحت فيه أحزان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت ليلة السابع والعشرين منه على أرجح الأقوال ، كان هذا الظرف الذي نال في رسول الله الصادق المصدوق المصدّق ، نال أعلى منزلة يمكن أن ينالها بش ، وبلغ مكاناً لا يمكن أن يبلغه بشر ،

     في هذه الظروف الحزينة وبعد المحن المتلاحقة ، وبعد أن ضاقت به الأرض بما رحبت من المشركين اتَّسعت له آفاق السماء ، فجاءت رحلة الإسراء والمعراج تثبيتاً لفؤاده ومواساة له وتكريماً ورفعة ، لقد كانت ميزة خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن غيره من الأنبياء والرسل عليهم السلام ، فكلهم كلموا الناس عن الجنة وعن النار كما وصفهما لهم ربهم جلَّ وعلا في آياته التي أنزلها عليهم ، أما هو فقد كلمنا عن الجنة وعن النار كما وصفهما له ربه في كتابه الكريم وآياته التي تنزلت عليه ، وكما رآهما هو بنفسه رأي العين الرؤية الحقيقية وكما سمعهما هو بنفسه سماع الأذن السماع الحقيقي ، وإن كان سيدنا موسى عليه السلام كليم الله سبحانه وتعالى من وراء حجاب فإن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم كليم الله سبحانه وتعالى ليس بينه وبينه ترجمان .

     ولئن أجملت هذه الآية الكريمة حادثة الإسراء فقد فسر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحدث وفصله لنا في أحاديث نبوية كثيرة تضمنت ما رأى في الطريق من أشخاص وآيات ، وتضمنت كذلك إمامته الأنبياء عليهم السلام في المسجد الأقصى المبارك ، وتضمنت أيضاً ما تلا ذلك من عروجه إلى السماوات العلا ووصوله إلى الملأ الأعلى وسدرة المنتهى ، ولقائه بالأنبياء والرسل في السماوات السبع وقصة فرض الصلاة عليه وعلى أمته وعودته إلى المسجد الأقصى المبارك ،

     ولعل من أبرز دلالات حصول الإسراء إلى المسجد الأقصى المبارك والعروج منه إلى السماوات العلا تحديد هويته الحقيقية النهائية على مر الزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وقد تأكد تقديسه عند الله ومن ثم عند الأمة ، فقد جاء في تعريف بيت المقدس أنه الأرض المقدسة أي المباركة ، فاسم مدينة القدس يعني المكان المطهر من الذنوب ، وجاء اشتقاقه من القدس وهي الطهارة والبركة ، ويقال القدس هو المكان المرتفع المنزه عن الشرك

     ومن هنا جعل بيت المقدس قبلةً للمسلمين في بداية الأمر، ثم أسرى برسوله صلى الله عليه وسلم إليه ليدلل بذلك على أنه قد دخل في مقدسات الإسلام ، وأصبح منذ هذا الحدث في حَوْزة المسلمين . فهو إذن مسجد خالص للمسلمين وليس لليهود فيه شيء ولا علاقة لهم به من قريب ولا من بعيد ، وأنه علينا أن نستميت في الدفاع عنه كما نستميت في الدفاع عن المسجد الحرام وعن المسجد النبوي الشريف ، يؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى } رواه البخاري .

     ولا شك أن إحياء ذكرى معجزة الإسراء والمعراج هو من أحد السبل التي تسهم في تذكر مكانة المسجد الأقصى المبارك ، ذلك أن الإسراء يعيد إلى الأذهان ويرسخ في القلوب كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سار وصلى وأمّ الأنبياء في هذه البقعة المباركة ، وكيف أنه قد عرج به إلى السماء من هذه البقعة المباركة مع الإمكان أن يكون المعراج من مكان آخر أكثر قداسة منه وهو بيت الله الحرام ، ولكن المقصود إحداث صلة ورابطة وثيقة بين البيت الحرام والمسجد الأقصى المبارك ، ولكن لا يفوتني التذكير بأن الاكتفاء في هذه الاحتفالات بالمهرجانات الخطابية والفعاليات الأدبية والثقافية والأعمال الفنية والإعلامية والتغطيات الصحفية هو مزيد من التقصير في الدفاع عن هذه الأرض وعن هويتها الإسلامية والعربية ، وتهاون تام في تطهيرها من ذل الأسر ودنس الاحتلال ، فهي تحتاج منا إلى ما هو أكثر من ذلك وأبلغ في تحريرها وتطهيرها والحفاظ عليها وعلى هويتها وهوية أهلها .

     وصحيح أن الاحتفال بهذه الذكرى يربط بين ما تقدم من مجد ومكانة لهذه البقعة في قلوب أبناء الأمة وقادتها وجندها وعلمائها على مر التاريخ الإسلامي الزاهر ، وبين ما تأخر من تعرضها للاحتلال بسبب التقصير وضعف الهمم في الدفاع عنها ، لكنني أنوه بأن الاهتمام بهذه الذكرى ينبغي ألاَّ ينصب على الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك  فحسب ، بل عن سائر الأرض المحيطة به وفي مقدمتها مدينة القدس المباركة وسائر أرض فلسطين التاريخية المقدسة ، فقد نالت من شرف القداسة الكثير .

المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى