سلسلة قدوات من التاريخ الإسلامي (9) – الذكاء والفطنة صفتان فذتان في شخصية عماد الدين زنكي
بقلم د. علي الصلابي (خاص بالمنتدى)
تميزت شخصية عماد الدين زنكي بمجموعة من الصفات الفذة والفضائل الحسنة التي مكنته من تحقيق أهدافه فبالإضافة إلى الشجاعة والبسالة، كان عماد داهية، فطنا، ذكيا، يقضا، حذرا:
1 ـ ذو دهاء ومكر وحيلة: كان ذا دهاءٍ، ومكرٍ، وحيلة، وذكاء نافذ في مجابهة المشاكل الحربية، والسياسية، وقد مكَّنهُ ذلكَ من اجتياز كثير من الصعوبات، وتحقيق مزيد من الانتصارات، فمن مناوراته البارعة ضدَّ التحالف البيزنطي الصليبي عام 532 هـ أن أرسل إلى قادته، يقول: إنكم قد تحصنتم بهذه الجبال، فاخرجوا عنها إلى الصحراء حتى نلتقي، وتكون الغلبة لأحدِ الطرفين، فظن الروم والصليبيون أن وراءه قوات ضخمة أتاحت لهُ أن يطرح تحديه، فتجنبوا لقاءهُ وهو ما كان زنكي يرجوه، ثم راحَ بعد ذلكَ يراسل إمبراطور الروم، ويوهمهُ: أن الصليبيين متفقون مع المسلمين سراً وبالعكس، واستطاع بذلكَ أن يبذر بذور الانشقاق في الجبهة المسيحية مما اضطر قواتها إلى الانسحاب ( الجزري، 1963، ص 55) .هذا إلى أنه فتح الرُّها وهو أكبر نصر حققه في حياتهِ، معتمداً على الحيلة والمكر؛ إذ اتجه إلى امد موهماً الصليبيين: أنه يسعى لحصارها، وما إن رحل أمير الرُّها عن حاضرته مطمئناً إلى انهماك زنكي بمشاكله في ديار بكر حتى انقضَّ الأخيرُ عليها، وتمكن من اجتياحها.
2 ـ ذكاؤه: من ذكائه: أنه لم يظهر أنه مستقل عن السلاطين السلاجقة، بل أظهر: أنه يحكم بأمرهم، فقد كان معهُ ولدان من أولاد السلطان محمود بن محمد السلجوقي، وهما: ألب أرسلان، وفرخ شاه ويعرف بالخفاجي، وكان يظهر: أنَّ الحكم له في بلاده، وأنه نائب عنه، وكان إذا أرسلَ رسولاً أو أجاب عن رسالة يقول: قال الملك كذا وكذا، وكان ينتظر موت السلطان مسعود، ليجمع العساكر باسم ألب أرسلان، ويخرج الأموال، ويطلب السلطنة، فعاجلته المنية قبل ذلك، وكان ابنه سيف الدين غازي عند السلطان مسعود ليثق بطاعته وكان يثير الأطراف على السلطان مسعود حتى يحتاجه ويجمعهم عليه مرة ثانية ليشتغل بهم عنه.(أبو زيد، 1972، ص168)
3 ـ يقظته وحذره: كان عماد الدين زنكي شجاعاً غير هيَّاب، إلا أنه كان حذراً يحتاط للأمور، فقد كان شديد العناية بأخبار الأطراف، وما يجري لأصحابها حتى في خلواتهم، ولا سيما بلاط السلطان، وكان يدفع في ذلكَ المال الجزيل، فكان يطالع ويكتب إليهِ بكل ما يفعله السلطان في ليلهِ ونهاره من حرب وسلم وهزل وجد، فكان يصلُ إليهِ كل يوم من عيونهِ عدة كتب، وكان مع اشتغالهِ بالأمور الكبار من أمور الدولة لا يهمل الاطلاع على الصغيرة، وكان يقول: إذا لم يعرف الصغير ليمنع؛ صار كبيراً، وكان لا يمكن أي ملك أن يعبر بلاده بغير إذنه، وإذا استأذنه رسول في العبور؛ أذن له، وأرسل إليهِ من يسيِّرهُ، ولا يتركهُ يجتمعُ بأحدٍ من الرعية، ولا غيرهم، فكان الرسول يدخلُ بلاده، ويخرج منها، ولا يعلمُ من أحوالها شيئاً.
ومن آرائهِ: أنه لما اجتمعَ له الأموال الكثيرة؛ أودعَ بعضها بسنجار، وبعضها بالموصل، وبعضها بحلب، وقال: إن جرى عليَّ بعض هذه الجهات فتق، أو حيل بيني وبينهُ؛ استعنتُ على سد الخرق بالمال في غيره، وكان الرجل طويل الفكر كتوماً لا يعلنُ عمَّا ينويه إلا بعد أن يتخذ الأهبة الكاملة، وكان يفرض أسوأ الاحتمالات، ويُعِدُّ نفسه لها، فلما سار من بغداد قاصداً الموصل؛ أخذ البوازيج، وهي قرية قرب تكريت؛ ليملكها، ويتقوى بها، ويجعلها في ظهره إن منعهُ جاولي عن البلاد، ومن حذره تردده في دخول دمشق بعد أن وعده جماعة من أهلها بفتح أبوابها له خوفاً من أن يتفرق جيشهُ، ولضيق المسالك ولإمكان مهاجمتهم من ظهور البيوت، ولما وصل الروم الفرنج إلى الشام؛ نازلوا حلب، ولم يرد عماد الدين أن يخاطر بالمسلمين ويلقاهم؛ لأنهم كانوا في جمع عظيم، فانحاز عنهم ونزل قريباً منهم يمنع عنهم الميرة.( أبو زيد، 1972، ص168)
4 ـ قدرته على اختيار الأكفاء من الرجال: وكان يختار الرجال الأكفاء، الذين أخلصوا له، وكانوا دعائم دولته، ودولة أبنائه من بعده، فقد كانت له همَّةٌ عالية، ورغبة في الرجال ذوي الرأي والعقل، ويرغبهم ويخطبهم، ويوفر لـهم العطاء. وقـال ابن الأثير: «حكى لي والدي: قيل للشهيد: إنَّ هذا كمال الدين، ويحصل له في كل سنة ما يزيد على عشرة الاف دينار أميرية، وغيره يقنع منه بخمسمئة دينار. فقال لهم: بهذا العقل، والرأي تدبرون دولتي؟! إنَّ كمال الدين يقل له هذا القدر، وغيره يكثر له خمسمئة دينار، إن شغلاً واحداً يقوم به كمال الدين خير من مئة ألف دينار، وكان كما قال ـ رحمه الله ـ».( المقدسي، 1997، ج1، ص159)
وكان يتعهد أصحابه، ويمتحنهم، فقد أعطى يوماً خُشكُنانكه إلى طشت دار له وقال: احفظ هذه. فبقي نحو سنة لا يفارقه خوفاً أن يطلبها منه، فلما كان بعد سنة سأله عنها، فأخرجها من منديل كان لا يفارقه خوفاً من أن يطلب منه، فاستحسن ذلك، وجعله داراً لقلعة كواشي ـ وهي قلعة حصينة في الجبال الواقعة شرقي الموصل، وكان يخطب الرجال ذوي الهمم والآراء الصائبة، والأنفس الأبية ويوسع في الأرزاق، فيسهل عليهم فعل الجميل، واصطناع الرجال، ومن أسباب توفيقه: أنه كان نقاداً للرجال، يعرف كيف يختار الأكفاء الصالحين منهم، ويوليهم ثقته.( ابو زيد، 1972، ص166)
ملاحظة مهمة:
هذا المقال استند بشكل كبير على كتاب “الحروب الصليبية والأسرة الزنكية” لشاكر أحمد أبو زيد.
______________________________________________________________
مراجع البحث
علي محمد الصلابي، الدولة الزنكية، دار المعرفة، بيروت، 2007، صص 43-55
شاكر أحمد أبو زيد، الحروب الصليبية والأسرة الزنكية، الجامعة اللبنانية، كلية الاداب والعلوم الإنسانية.1392ه-1972م
ابي شامة شهاب الدين المقدسي، عيون الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق: ابراهيم الزيبق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق ،1418-1997
الجزري، التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة بالقاهرة، ومكتبة المثنى، بغداد 1382 هـ 1963 م.