سلسلة قدوات من التاريخ الإسلامي (3) – شجاعة عماد الدين زنكي وهيبته
مواقف من البسالة وصور من الجسارة
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
كان عماد الدين زنكي حسن الصورة، أسمر اللون، مليح العينين، معتدل الطول، وخط الشيب رأسهُ في سني حكمه الأخيرة، وكان ذا شخصية قوية، شديدة الهيبة على رعيته وجنده، جاداً في معظم الأحيان، وكان جدُّه الصارم يمنعه من الاستسلام للراحة، أو الترف، ويدفعهُ إلى مواصلة كفاحهِ من أجل أهدافه، ويجعل أصوات السلاح ألذ في سمعهِ من غناء القينات.(الجزري، 1963، ص81)
1 ـ شجاعته:
فقد ورث الشجاعة عن أبيه الذي تقدم في جيش ملكشاه، وقد مرَّ معنا شيءٌ من سيرته وقوله لتتش المنتصر وهو الأسير بين يديه: لو ظفرت بك لقتلتك، ويلقى نتيجة جرأته، فيقتله تتش صبراً، وقد تقدم عماد الدين عند أمراء الموصل بشجاعته، وظهرت شجاعته في القتال في زمن مبكر، فقد سار مع مودود في غزوته ضدَّ الإفرنج، وخرج إفرنج طبرية للدفاع عنها، فحمل عليهم، وانهزم الإفرنج من أمامه، وطعن بباب سور طبرية طعنة أثرت فيهِ وكان أصحابهُ قد تأخروا عنه، لما قرب من الأسوار ومع ذلكَ قاتل متراجعاً، فعجب الناسُ من شجاعتهِ ونجاته.(أبو زيد، 1972، ص160)
وقال أبو شامة في شجاعته: «وأما شجاعتهُ وإقدامهُ فإليهِ النِّهايةُ فيهما، وبه كانت تضرب الأمثال، ويكفي في معرفة ذلكَ جملةً: أن ولايته أحدق بها الأعداء والمنازعون من كل جانب: الخليفة المسترشد، والسلطان مسعود، وأصحاب أرمينية وأعمالها، وبيت سُكمان، وركن الدولة داود صاحب صحن كيفا، وابن عمه صاحب ماردين، ثم الفرنج، ثم صاحب دمشق، و كان ينتصف منهم، ويغزو كُلاًّ منهم في عقر دارهِ، ويفتح بلادهم، ما عدا السلطان مسعود فإنه كان لا يباشر قصده، بل كان يحمل أصحاب الأطراف على الخروج عليه، فإذا فعلوا عاد السلطان محتاجاً إليه، وطلب منه أن يجمعهم على طاعته، فيصير كالحاكم على الجميع، وكلٌّ يداريه، ويخضع له، ويطلب منهُ ما تستقر القواعد على يديه» (المقدسي، 1997،ج1، ص160) وحمل على قلعة عقر الحميدية في جبال الموصل، وأهلها أكراد، وهي على جبال عالية، فوصلت طعنتهُ إلى سورها، وفي حصار الرُّها، جمع أمراءهُ عنده، ومد السماط، وقال: لا يأكلْ معي على مائدتي هذه إلا من يطعن معي غداً في باب الرُّها، فلم يتقدم إليهِ غير أمير واحد، وصبي واحد لا يعرفه، لما يعرفون من إقدامه وشجاعته وأن أحداً لا يقدرُ على مساواته في الحرب. فقال الأمير لذلكَ الصبي: ما أنت وهذا المقام، فقال عماد الدين: دعه، فإني أرى واللهِ وجهاً لا يتخلف عني، وكان يقدر الشجعان، وكان لا يضطرب أمام أي خطر.(أبو زيد، 1972، ص159)
2 ـ هيبتهُ:
كان عماد الدين ذا هيبةٍ شديدة في نفوس أصحابهِ، لا يجرؤون على الجلوس بين يديه، واشترك معه في الحروب أجناس مختلفة، ويحتاج ضبطها لكثير من الدراية والمهارة والهيئة، فاستطاع بشخصيتهِ القوية فرض النظام على جميع جندهِ، وكان ذا هيبة وسطوة، وكان إذا مشى يسير العسكر خلفه في صفين، كأنهم الخيط خوفاً أن يدوس أحدهم الزرع، ولا يجسر أحد أن يدوس عرقاً منه، ولا يمشي فرسه فيه، ولا يجسر أن يأخذ من فلاح تبناً إلا بثمنه، أو بخطٍّ من الديوان إلى رئيس القرية، وإن تعدَّى أحدٌ؛ صلبه (بن هبة الله 1951، ص283) وهيبتهُ كانت في نفوس قادته، قال علي كوجك نائبه بالموصل: «لما فتحنا الرُّها مع الشهيد، وقع بيدي من النهب جارية رائعة أعجبني حسنها، ومال قلبي إليها، فلم يكن بأسرع من أن أمر الشهيد بردِّ السبي، والمال المنهوب، وكان مهيباً مخيفاً فرددتها وقلبي معلق بها». وخرج يوماً من باب السر في قلعة الجزيرة خطوة، وملاَّح له نائم، فأيقظهُ بعض الجنادرية من مماليك السلطان، فحين رأى الشهيد سقط على الأرض، فحركه فوجده ميتاً.( أبو زيد، 1972، ص 159)
وركب يوماً فعثرت دابتهُ، وكاد يسقط عنها، فاستدعى أميراً وكان معه، فقال لهُ كلاماً لم يفهمه، ولم يتجاسر على أن يستفهمه منه، فعاد إلى بيته، وودع أهله عازماً على الهرب، فقالت لهُ زوجته: ما ذنبكَ، وما حملك على الهرب؟ فذكر لها الحال، فقالت له: إنَّ نصير الدين له بك عناية، فاذكر له قصتكَ، وافعل ما يأمركَ به. فقال: أخاف أن يمنعني من الهرب، وأهلك. فلم تزل بهِ زوجته تراجعهُ، وتقوي عزمه إلى أن عرف نصير الدين حاله، فضحكَ منهُ، وقال له: خذ هذه الصرة ـ الدنانير ـ واحملها إليه، فهي التي أراد. فقال: اللهُ اللهُ في دمي ونفسي، فقال: لا بأس عليك، فإنه ما أراد غير هذه الصرة، فحملها إليهِ فحين راه قال: أمعكَ شيء؟ قال: نعم، فأمرهُ أن يتصدقَ به، فلما فرغ من الصدقة قصد نصير الدين، وشكره، وقال: من أين علمتَ: أنه أراد الصُّرَّة؟ فقال: إنه يتصدق بمثل هذا القدر كل يوم، يرسل إليَّ يأخذه من الليل، وفي يومنا هذا لم يأخذه، ثم بلغني: أنَّ دابته عثرت بهِ؛ حتى كاد يسقط إلى الأرض، فأرسلكَ إليَّ، فعلمتُ: أنهُ ذكر الصدقة.
واجتمعَ حوله العرب، والترك، والتركمان، والأكرادُ، والبدو، وكان يجتهد أن تضبط أمور هذه الجموع بحكمة القائد الماهر، ويضبطهم في أحرج الأوقات، فعندما اقتحم جندهُ الرُّها، وكادوا يأتون على ما فيها، كف أيديهم، وحافظ على البلد؛ لأن تخريب مثله لا يجوز في السياسة كما قال. وخاف خصومه قصد ولايته لعلمهم: أنهم لا ينالون منها عرضاً.(الجزري، 1963،ص 25)
وبلغَ من خوف الفرنجة منه: أنه رفع الحصار عن قلعة البيرة لقتل نائبه في الموصل، فسلَّمها أهلها إلى حسام الدين تمرتاش خوفاً من عودة الشهيد إليهم، وكان يخشاه سلاطين السلاجقة، ولا يقدرون على قصد بلاده، فيقول ابن الأثير: «أرادَ السلطان مسعود زنكي إثارة الأطراف عليه، ومنع السلطان مسعود قصده، لحصانة بلاده، وكثرة عساكره وأمواله» والخليفة المسترشد نفسه حاصر الموصل فلم ينل منها شيئاً مدة ثلاثة شهور.(أبو زيد، 1972، ص160)
_____________________________________________________
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، الدولة الزنكية، دار المعرفة، بيروت، 2007، صص 41-43
ابي شامة شهاب الدين المقدسي، عيون الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق: ابراهيم الزيبق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق ،1418-1997
الجزري، التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة بالقاهرة، ومكتبة المثنى، بغداد 1382 هـ 1963 م.
كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله، زبدة الحلب في تاريخ حلب، تحقيق سامي دهان، ط دمشق، 1370 هـ 1951 م.
شاكر أحمد أبو زيد، الحروب الصليبية والأسرة الزنكية، الجامعة اللبنانية، كلية الاداب والعلوم الإنسانية.1392-1972م