المعتَقد الدِّيني وتشكيل السِّياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة: جيمي كارتر نموذجًا 2 من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
من أهم معتقدات الإنجيليَّة الجنوبيَّة ما يُعرف بـ “الولادة الجديدة” (Born again/New birth)، ما يعني انتقال الإنسان بعد إيمانه بالمخلِّص إلى حياة جديدة على الجانب الروحي. تنبع هذه العقيدة ممَّا ورد على لسان يسوع في العهد الجديد، في قوله لتلامذته “الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ” (إنجيل متَّى: إصحاح 19، آية 28)، وكذلك في “اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ»” (إنجيل يوحنَّا: إصحاح 3، آيات 6-8). وقد أورد بولس الرَّسول هذه العقيدة في بعض رسائله، كما جاء في ” ظَهَرَ لُطْفُ مُخَلِّصِنَا اللهِ وَإِحْسَانُهُ. لاَ بِأَعْمَال فِي بِرّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ خَلَّصَنَا بِغُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ. الَّذِي سَكَبَهُ بِغِنًى عَلَيْنَا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ مُخَلِّصِنَا” (رسالة تيطس: إصحاح 3، آيات 4-6). وفي ممارسة لشعيرة الميلاد الجديد في كنيسته المحليَّة، آمن كارتر بيسوع باعتباره مخلِّصه في عُمر الحادية عشرة. غير أنَّه الرئيس الأمريكي الأسبق لم يعتبر أنَّ تلك الشعيرة كانت بمثابة ميلاده الجديدة؛ حيث يرى أنَّ تلك العمليَّة تتشكَّل من عدَّة مراحل. عن ذلك يقول كارتر في كتابه Living Faith-الإيمان الحي (1996) “ميلادي الجديد لم يكن لمَّا كنتُ في عُمر الحادية عشرة؛ ففي رأيي، هي (الميلاد الجديد) عمليَّة تطوُّريَّة. فبدلًا من رؤية وميض من الضوء أو رؤية الربِّ فجأة وهو يتحدَّث، فقد تمَّت في سلسلة من الخطوات التي قرَّبتي من المسيح بصورة متواصلة” (ص21-22).
ناوب جيمي كارتر في طفولته على حضور المواعظ في الكنيستين المعمدانيَّة والميثوديَّة، وكان يميل بطبعه إلى الخطب المعتدلة، وانخرط في أنشطة الكنيسة، وشارك في فرق الكشَّافة. ويعترف كارتر بمروره أكثر من مرَّة بفترات شكٍّ في عقيدة، خاصَّةً بعد هزيمته في انتخابات مجالس المقاطعات عام 1966. غير أنَّه اعتبر تلك الفترة نقطة فارقة في تاريخ التزامه الديني؛ فقد انتبه كارتر إلى أنَّه لم يزر سوى 140 أسرة فقط في زيارة تفقُّديَّة نابعة من إيمانه العقائدي، من بين 300 ألف مواطن في المقاطعة. بتشجيع من أخته، التي كانت واعظة دينيَّة، قطع كارتر عدَّة رحلات تبشيريَّة في مناطق فقيرة. من اللافت أنَّ هذا الالتزام الديني لم يُثنِ كارتر عن إيمانه، الذي ورثه عن أبيه، بضرورة فصل الكنيسة عن السياسة.
لتحقيق التوازن بين عقيدته الإنجيليَّة وإيمانه بالتعدُّديَّة الدينيَّة في اتخاذ القرارات السياسيَّة، استخدم كارتر عقيدة الواقعيَّة المسيحيَّة، التي تقوم على ثلاثة فرضيَّات مشتقَّة من الكتاب المقدَّس، وهي إثم البشريَّة، وحريَّة البشر، وأهميَّة ما يُعرف بـ “الوصيَّة العظمى”، وفق ما جاء في موسوعة ويكيبيديا الرقميَّة. وردت “الوصيَّة العظمى” في أكثر من موضع في الكتاب المقدَّس، من بينها إنجيل متَّى (إصحاح 22: آيات 35-40)، وإنجيل مرقص (إصحاح 12: آيات 28-34)، وإنجيل لوقا (إصحاح 10: آية 27)، وهي توصي بحبِّ الإنسان ربَّه بكلِّ قلبه، وكلِّ نفسه، وكلِّ قوَّته. وفق عقيدة الواقعيَّة المسيحيَّة، ليس من الممكن تأسيس مملكة الربِّ على الأرض؛ بسبب ميل المجتمع بطبعه إلى الفساد.
ويعتبر دفاع جيمي كارتر عن حقوق الإنسان، النابع من معتقداته الدينيَّة ومن خبراته الحياتيَّة التي اكتسبها من حياته في إحدى الولايات الجنوبيَّة المغبون حقُّها مقارنة بجاراتها، أحد أهم أركان نظام حُكمه. وشكَّل إيمان كارتر بحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعيَّة، والمساواة المستقى من تعاليم الكتاب المقدَّس، موقفه تجاه إسرائيل. على عكس غالبيَّة المسيحيين الأصوليين والإنجيليين من المؤمنين بعقيدة ما قبل الألفيَّة، القائمة على الاعتقاد بأنَّ الظهور الثاني للمسيح لم يحدث قبل عودة بني إسرائيل إلى الأرض المقدَّسة، وبعد حرب طاحنة، كان موقف كارتر من إسرائيل مختلفًا، وإن كان قد أشار إلى نشأة دولة إسرائيل الحديثة باعتبار “تحقُّق لإحدى نبوءات الكتاب المقدَّس” خلال حملته الانتخابيَّة، كما ورد في كتاب American Presidents, Religion, and Israel: The Heirs of Cyrus-الرؤساء الأمريكيون والدين وإسرائيل: ورثة كورش (2004) للمؤرِخ اليهودي بول تشارلز مركلي.
عُرف عن بعض الإنجيليِّين دعمهم غير المشروط لدولة إسرائيل، مستشهدين على ضرورة ذلك التأييد بالآيات من سفر التكوين، التي أمر فيها الربُّ أبرام-الأب الصالح الذي انحدر منه بنو إسرائيل-بالهجرة إلى وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً. وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ»” (سفر التكوين: إصحاح 12، آيات 1-3)؛ حيث يعتبرون أنَّ الفوز ببركة الربِّ مرهون بمباركتهم بني إسرائيل. على سبيل المثال، اعتبر المسيحي الصهيوني جون هاجي، مؤسس منظَّمة مسيحيون متَّحدون من أجل إسرائيل، الآية 3 من إصحاح 12 في سفر التكوين بمثابة “بيان السياسة الخارجيَّة للربِّ”، كما أوردت فيكتوريا كلارك في كتابها Allies for Armageddon: The Rise of Christian Zionism-حلفاء من أجل مجيدو: نشأة الصهيونيَّة المسيحيَّة (2007). أمَّا تأييد كارتر لإسرائيل فكان نابعًا من تقديره لأرض ذُكرت في الكتاب المقدَّس ودارت معظم الأحداث الواردة فيه على أرضها. وقد عبر كارتر عن ذلك في سرده قصَّة زيارته الأولى للأرض المقدَّسة عام 1973 ميلاديًّا، التي تركت لديه انطباعًا دائمًا، بأن رأى الأرض التي جرت عليها الأحداث التي تعلَّمها لسنوات في دراسته الدينيَّة، كما أورد في كتابه We Can Have Peace in the Holy Land: A Plan That Will Work-يمكننا تحقيق السلام على الأرض المقدَّسة: خطَّة ستنجح (2009). هذا، وقد أشار كارتر إلى تلك الرحلة في كتاب سابق بعنوان The Blood of Abraham: Insights into the Middle East-دم أبراهام: تأمُّلات متبصِّرة في الشرق الأوسط (1985)، تناول فيه قصَّة طريفة وقعت لمَّا أراد وزوجته حضور صلوات السَّبت في كنيس مستعمرة إيليت هاشهار، حيث صُدما لمَّا لم يجدا سوى شخصين فقط حضرا للصلاة. أعرب كارتر عن قلقه حيال عزوف اليهود عن ممارسة الشعائر الدينيَّة في مقابلة له بجولدا مائير، رئيس وزراء إسرائيل وزعيم حزب العمَّال العلماني وقتها، فلم يجد منها سوى الضحك؛ من ثمَّ، حرص المبشِّر شديد التديُّن على إبراز حقيقة تعلَّمها من الكتاب المقدَّس عن بني إسرائيل، وهي أنَّ انتصاراتهم اقترن بالقرب من الربِّ، وهزائمهم نتجت عن الكُفر.
موقف كارتر من الصراع العربي-الإسرائيلي
حرص جيمي كارتر خلال حملته الانتخابيَّة، عام 1976 ميلاديًّا، على التشديد على تأييده دولة إسرائيل، معتبرًا أنَّ بقاءها ليس مسألة سياسيَّة وفقط، إنَّما هو كذلك “واجب أخلاقي”، كما جاء في الجزء 1، من المجلَّد 1 الصادر عن مطبعة الحكومة الأمريكيَّة عام 1978 بعنوان The Presidential Campaign, 1976-الحملة الرئاسيَّة لعام 1976. ولا شكَّ في أنَّ هذا الاعتقاد كان له عظيم الأثر في مفاوضاته مع طرفي النزاع عند إبرام اتفاقيَّة كامب ديفيد عام 1978. لم يغب الكتاب المقدَّس، وبخاصَّة أسفار العهد القديم، عن ذهن كارتر في جلسات التفاوض، واجتماعات السياسات الخارجيَّة، والخطابات الجماهيريَّة، وقد اعترف في كتابه دم أبراهام (1985) أنَّ التعامل مع قضيَّة إسرائيل كان يستوجب النظر إلى تاريخ الأرض المقدَّسة وشعبها في الكتاب المقدَّس، وفي ذلك يقول “طالما شكَّلت تلك الأسماء والصور جزءًا لا يتجزَّأ من حياته الدينيَّة، وإن كان كثيرٌ منها اتَّخذ مدلولات جديدة ومختلفة بالمرَّة عندما صرتُ رئيسًا للولايات المتَّحدة” (ص31).
تجدر الإشارة إلى أنَّ كارتر قد أعلن في كتابه Keeping Faith: Memoirs of a President-الاحتفاظ بالإيمان: مذكِّرات رئيس (1982)، أنَّ لليهود الناجين من المحرقة الحق في الأرض المقدَّسة، وأنَّ في اعتبار إسرائيل “وطني لليهود” ما “يتَّفق مع تعاليم الكتاب المقدَّسة وأوامر الربِّ”، مضيفًا أنَّ “هذه الاعتقادات الأخلاقيَّة والدينيَّة جعلت التزامه بأمن إسرائيل لا يتزعزع” (ص274). ويُنسب إلى الرئيس الأسبق والمبشِّر الورع قوله “بوصفي إنسانًا، وأمريكيَّا، ومتديِّنًا، لديَّ التزام كامل ومطلق تجاه إسرائيل، التي هي تحقُّق لنبوءة واردة في الكتاب المقدَّس”، كما جاء في كتاب الرؤساء الأمريكيون والدين وإسرائيل: ورثة كورش (2004، ص82)، للمؤرِّخ اليهودي بول تشارلز مركلي، الذي انتقد ادِّعاء كارتر أنَّ دراسته للكتاب المقدَّس وتدريسه في دروس الأحد كان كلَّ ما احتاج إليه للتعرُّف على المجتمع اليهودي الحديث. رأى مركلي أنَّ كارتر كان أكثر تفاهمًا مع أنور السادات منه مع مناحيم بيجن، مما يعني أنَّ معرفة كارتر بالمجتمع الإسرائيلي لم تكن شاملة.
المصدر: رسالة بوست