هجرة الصديق رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة… حدث غيّر مجرى التاريخ
دروس وعبر
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
تغلَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل المتاعب والتحديات التي واجهته للوصول للمستقبل الباهر للأمَّة، والدَّولة الإسلاميَّة التي استطاعت أن تصنع حضارةً إنسانيَّةً رائعةً على أسس من الإيمان، والتقوى، والإحسان، والعدل، بعد أن تغلبت على أقوى دولتين كانتا تحكمان في العالم، وهما الفرس، والروم.(جزولي، 1996، ص355) وكان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ السَّاعدَ الأيمنَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم منذ بزوغ الدَّعوة حتى وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ ينهل بصمتٍ، وعمقٍ من ينابيع النبوَّة: حكمةً وإيماناً، يقيناً وعزيمةً، تقوى وإخلاصاً، فإذا هذه الصُّحبة تثمر: صلاحاً وصدِّيقيَّةً، ذكراً ويقظةً، حُبّاً وصفاءً، عزيمةً وتصميماً، إخلاصاً وفهماً، فوقف مواقفه المشهودة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، وغيرها من المواقف، وبعث جيش أسامة، وحروب الرِّدَّة، فأصلح ما فسد، وبنى ما هُدم، وجمع ما تفرَّق، وقوَّم ما انحرف.(أبو خليل، 1996، ص226)
إنَّ حادثة هجرة الصِّدِّيق مع رسول الله فيها دروسٌ، وعِبرٌ، وفوائدُ، منها:
أولاً: قال تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [التوبة: 40].
ففي هذه الآية الكريمة دلالةٌ على أفضلية الصِّدِّيق من سبعة أوجه، وهي من فضائل أبي بكرٍ رضي الله عنه:
1ـ أنَّ الكفار أخرجوه:
الكفار أخرجوا الرسول (ثاني اثنين) فلزم أن يكونوا أخرجوهما، وهذا هو الواقع.
2ـ أنَّه صاحبه الوحيد:
الذي كان معه حين نصره الله؛ إذ أخرجه الذين كفروا هو وأبو بكر، وكان ثاني اثنين، الله ثالثهما.
قوله: ففي المواضع التي لا يكون مع النبيِّ {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} من أكابر الصَّحابة إلا واحدٌ يكون هو ذلك الواحد مثل سفره في الهجرة، ومقامه يوم بدرٍ في العريش لم يكن معه فيه إلا أبو بكر، ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام كان يكون معه من أكابر الصَّحابة أبو بكر، وهذا اختصاصٌ في الصُّحبة لم يكن لغيره باتِّفاق أهل المعرفة بأحوال النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
3ـ أنَّه صاحبه في الغار:
الفضيلة في الغار ظاهرةٌ بنصِّ القران، وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنسٍ، عن أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يراسل الله! لو أنَّ أحدهم نظر إلى قدميه؛ لأبصرنا. فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر! ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثُهما ».(ابن تيميه، 1985، ج4،ص240) وهذا الحديث مع كونه ممّا اتفق أهل العلم على صحَّته، وتلقِّيه بالقَبُول، فلم يختلف في ذلك اثنان منهم؛ فهو ممّا دلَّ القران على معناه.
4ـ أنَّه صاحبه المطلق:
قوله: لا يختص بمصاحبته في {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ}، بل هو صاحبه المطلق الذي عمل في الصُّحبة، كما لم يشركه فيه غيره، فصار مختصّاً بالأكالية من الصُّحبة، وهذا ممّا لا نزاع فيه بين أهل العلم بأحوال النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال مَنْ قال من العلماء: إنَّ فضائل الصِّدِّيق خصائص لم يشركه فيها غيره.
5ـ أنَّه المشفق عليه:
قوله: يدلُّ على أنَّ صاحبه كان مشفقاً عليه محبّاً {لاَ تَحْزَنْ}، ناصراً له حيث يحزن، وإنَّما يحزن الإنسان حال الخوف على مَنْ يحبه، وكان حزنه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم لئلاّ يقتل، ويذهب الإسلام، ولهذا لمّا كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارةً، ووراءه تارةً، فسأله النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: أذكر الرَّصد فأكون أمامك، وأذكر الطَّلب فأكون وراءك.(بن قاسم،1996،ص43) وفي رواية أحمد في كتاب «فضائل الصَّحابة»: فجعل أبو بكرٍ يمشي خلفه ويمشي أمامه، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم «مالك؟». قال: يراسل الله! إذا كنت أمامك؛ خشيت أن تؤتى من ورائك، وإذا كنت خلفك؛ خشيت أن تؤتى من ورائك، قال: فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر: يراسل الله! كما أنت حتّى أقمَّه.. فلمّا رأى أبو بكر جحراً في الغار، فألقمها قدمه، وقال: يراسل الله! إن كانت لسعةً، أو لدغةً كانت بي.(ابن تيمية، 1985، ج7،ص263) فلم يكن يرضى بمساواة النبيِّ، بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يعيش، بل كان يختار أن يفديه بنفسه، وأهله، وماله. وهذا واجب على كلِّ مؤمن، والصِّدِّيق أقوم المؤمنين بذلك.
6ـ المشارك له في معيَّة الاختصاص:
قوله: صريحٌ في مشاركة الصدِّيق للنبيِّ {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} في هذه المعيَّة، التي اختصَّ بها الصِّدِّيق لم يشركه فيها أحدٌ من الخلق.. وهي تدلُّ على أنَّه معهما بالنَّصر، والتأييد، والإعانة على عدوِّهما ـ فيكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أخبر: أنَّ الله ينصرني، وينصرك يا أبا بكر! ويعيننا عليهم، نصر إكرامٍ ومحبةٍ، كما قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ *} [غافر: 51]. وهذا غاية المدح لأبي بكرٍ؛ إذ دلَّ على أنَّه ممن شهد له الرسول بالإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي يخذل فيها عامَّة الخلق إلا مَنْ نصره الله.(ابن تيمية، 1985،ج4ص243)
وقال الدكتور عبد الكريم زيدان عن المعيَّة في هذه الآية الكريمة: وهذه المعيَّة الربَّانيَّة المستفادة من قوله تعالى: أعلى من معيَّته {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، والمحسنين في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128] لأنَّ المعيَّة هنا لذات الرَّسول، وذات صاحبه، غير مقيَّدة بوصفٍ هو عملٌ لهما، كوصف التَّقوى، والإحسان، بل هي خاصَّةٌ برسوله، وصاحبه، مكفولةٌ هذه المعيَّة بالتأييد بالآيات، وخوارق العادات.(زيدان، 1997،ج2،ص100)
7ـ أنَّه صاحبه في حال إنزال السَّكينة والنَّصر:
قال تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40] فإنَّ من كان صاحبه في حال الخوف الشَّديد فلأن يكون صاحبه في حضور النَّصر والتَّأييد أولى، وأحرى، فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام، والحال عليها. وإذا عُلِمَ: أنَّه صاحبه في هذه الحال؛ عُلِمَ أنَّما حصل للرَّسول من إنزال السكينة والتأييد بالجنود التي لم يرها الناس لصاحبه فيها أعظم ممّا لسائر الناس. وهذا من بلاغة القران، وحسن بيانه.(ابن تيمية، 1985،ج4،ص272)
___________________________________________________________
مراجع البحث
علي محمد الصلابي، الإنشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، 1424ه-2003م صص57-60
أحزمي سامعون جزولي، الهجرة في القران الكريم، مكتبة الرُّشد الرِّياض، الطَّبعة الأولى 1417هـ 1996م.
شوقي أبو خليل، في التَّاريخ الإِسلامي، دار الفكر المعاصر، بيروت، الطَّبعة الثانية 1417هـ 1996م
ابن تيميَّة، منهاج السُّنة تحقيق محمَّد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة.1406ه1985م
محمَّد بن بن قاسم، أبو بكرٍ الصِّدِّيق أفضل الصَّحابة وأحقُّهم بالخلافة، دار القاسم الطَّبعة الأولى 1417هـ 1996م.
عبد الكريم زيدان، المستفاد من قصص القران، مؤسَّسة الرِّسالة، الطَّبعة الأولى 1418هـ 1997م.