لماذا يحرص المستبدّ على إهانة العمائم الموالية له؛ إلغاء منصب الإفتاء نموذجًا؟
إنّ البلاد المحكومة بالطغيان لا تحتمل في ربوعها كلَّ واسعِ القلبِ، بعيدِ الأفق، ممتدّ التَّأثير، صلبِ المراسِ، ومن يدخل قلوب النّاس دونما استئذان، ويمتلكُ جرأة الاعتذار، وشجاعة المراجعة، والقدرة على قول لا، وثقافة التآخي الحقيقي.
إنَّ هؤلاء لا يروقون للطّاغية لا في منهجهم ولا في سلوكهم وتوجّهاتهم ولا حتى في صمتهم.
-
العمائم الوظيفيّة وتأليه المستبدّ
إنَّ الوجه الحقيقيّ للطغيان يقتضي قتلَ وحبسَ ونفيَ وتحييدَ كلّ من يمكن أن يعكّر صفو الطاغية وشعوره بالتفرّد، أو زلزلة عرشه بكلمة الحقّ، وهذا يقتضي إزالة كلّ من يمكن أن يشوّش بشكل مباشر أو غير مباشر على ذلك “وكلّه بما يُرضي الله طبعًا”.
لذلك يحرص المستبدّ على الدّوام على إلباس ظلمه وطغيانه ثوب الشّريعة، وتزيين باطله بمصطلحات الفقه، وإكساء استبداده بآيات الكتاب الكريم وسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلّم زورًا وبهتانًا، وتجميل طغيانه بفتاوى العمائم الرّخيصة.
وهذا من مقتضيات تأليه الطّاغية نفسه، وتقديسه لذاته، وإخضاعه للمحيطين به إخضاع العبيد لخالقهم، ووسيلته إلى تحصيل ذلك، العمائم الوظيفيّة النّاطقة باسم الدّين، والألسنة الدّينيّة التي تمارسُ الفاحشة الفكريّة، وقد بيّن عبد الرّحمن الكواكبي ذلك وهو يفصّل في طبائع الاستبداد إذ يقول:
“إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلا ويتَّخذ له صفةً قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله، ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضًا، فتتهاتر قوَّة الأمّة ويذهب ريحها، فيخلو الجوّ للاستبداد ليبيض ويُفرِّخ”.
وقد حرصَ المستبدُّ في أحواله كلّها على استخدام الدّين لتمرير ظلمه، وقامت العمائم الموالية له باعتقال الفقه والتّشريع الإسلاميّ ووضعه في زنزانةٍ وأخذ الأقوال منه كرهًا تحت التعذيب، بل أكثر من ذلك جعلت التشريع خادمًا للطاغية، وكم لوت هذه العمائم ألسنتها بآيات الله تعالى تحريفًا لتخدم المستبدّ في إجرامه وطغيانه!
فالعمامة التي وقفت أمام سيّد قطب تلقّنه الشّهادتين قبيلَ إعدامه وهو يقولُ لها: أنا أموت لأجل لا إله إلّا الله وأنتَ تأكل بها الفتات على موائد الظالمين.
والعمائم التي أفتت للسّيسي أن “يضرب في المليان” ويستبيح الدّماء والأعراض باسم الإسلام، وكذلك العمائم التي تعلو أصواتُها تطبيلًا لجرائم بشّار الأسد؛ كلّها تستحضرُ المصطلحات الشرعيّة والفقهيّة وتلوي ألسنتها بالكتاب لتقول هذا من عند الله وما هو من عند الله؛ وإنّما تفعل ذلك لإعانة الظالم وتسويغ أحكامه الجائرة.
ولقد كان أحمد حسّون أعلى هذه العمائم صوتًا في سوريا في تجميل جرائم النّظام السّوري وتسويغها وإلباسها ثوب الشريعة زورًا وبهتانًا خلال العقدين الأخيرين، ولكنّ كلّ هذا لم يشفع له لإخراجه من المشهد الديني بصورةٍ فيها ولو اليسير من الاحترام أو التقدير أو حتّى مكافأة نهاية الخدمة على استماتته في تجميل قبح النّظام باسم الله والإسلام.
لقد كان مرسوم إلغاء مقام الإفتاء إهانة لكلّ عمائم النّظام، فمن يعلم كيف يفكّر أبناء المدرسة الدّينيّة يعلم هذا جيدًا، فعندما كنت في سوريا كنت أسمع من كثير من هؤلاء المطبّلين اليوم لقرار بشّار الأسد تباكيهم بالأمس على أنّ الإفتاء أصبح بالتّعيين وأنّ الأصل فيه أن يرجع إلى الانتخاب كما كان من قبل.
هؤلاء يشعرون بالمهانة من إلغاء منصب الإفتاء من وجهين؛ الأوّل: أنّ النّظام لم يكترث لهم ولوجودهم في القرار الذي اتّخذه، والثّاني: أنّه لم يرَ في أيّ منهم من هو أهل ليكون في موقع التصدّر للفتيا، ومع ذلك فهم سادرون في التّسبيح بحمد النّظام الذي لا يترك فرصةً سانحةً إلّا ويوجّه لهم إهانةً بالغة.
-
المستبدّ وردود الفعل
إن كانت ردودُ الفعل هي آخر ما يهمّ المستبدَّ حينَ يعمدُ إلى إهانة رجاله غير أنَّ ردود الفعل الباهتة والباردة وغير المكترثة تغري الطاغية بالسّيرِ قدمًا في جريمته وتعطيه قوّةً دافعةً لمزيدٍ من التّصرفات التي لا تتوقّع العمائم الرّخيصة أن تصل الوقاحة بالمستبدّ إلى فعلها.
فالمستبدّ يتعامل مع رعيّته عمومًا ومع رجاله المقرّبين منه على وجه الخصوص على أنّهم ثلّةٌ من الرّعاع أو قطيعٌ من الأغنامِ أو فريقٌ من الكلابِ يجب تعزيرهم وإهانتهم وإذلالهم بين الفينة والأخرى.
وخير وسيلةٍ لتعزير رعيّته عمومًا هيَ إهانة رموزهم وعلمائهم ومفكريهم، حتّى لا يستطيع أحدٌ منهم رفع رأسه، وحتّى لا يفكّرَ أحدُ من أرباب هذه العمائم أن تتشوّف نفسُه إلى أبعد من مسح حذاء الطّاغية؛ وهنا تكونُ الرّعيّة أمام اختبارها المصيريّ كما قال الكواكبي:
“المستبدّ يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درًّا وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقًا، وعلى الرَّعية أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ، وإنْ ضُرِبت شَرست، وعليها أن تكون كالصّقور لا تُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصّيد كلِّه، خلافًا للكلاب التي لا فرق عندها أَطُعِمت أو حُرِمت حتَّى من العظام.
نعم؛ على الرّعية أن تعرف مقامها؛ هل خُلِقت خادمةً لحاكمها، تطيعه إنْ عدل أو جار، وخُلق هو ليحكمها كيف شاء بعدلٍ أو اعتساف؟ أم هي جاءت به ليخدمها لا يستخدمها؟ والرَّعية العاقلة تقيَّد وحش الاستبداد بزمامٍ تستميتُ دون بقائه في يدها؛ لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزَّت به الزّمام وإنْ صال ربطتْه”.
غيرَ أنّ العمائم الموالية للنّظام عندما تقع عليها الإهانة لا تغضب لنفسها، فضلًا عن الغضب لدينها الذي انسلخت منه انسلاخ بلعام بن باعوراء وأحفاده في الفكر والسّلوك الذين قال الله تعالى فيهم: “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ”
بل تقابل إهانتها بالمبالغة في تمجيد الطّاغية، وشكره على إهانتها وتطلب منه مزيداً من حكمته السديدة، وكأنّ عبد الرّحمن الكواكبي يصوّر لنا العمائم التي جاءت وفودًا متتابعة إلى مكتب وزير الأوقاف محمّد عبد الستّار السيّد مهنّئةً بقرار بشّار الأسد إلغاء منصب الإفتاء إذ يقول:
“العوام هم قوّة المستبد وقوتُه، بهم وعليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهلّلون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريمًا، وإذا قتل منهم ولم يمثّل يعدّونه رحيمًا، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التّوبيخ”.
فماذا يريدُ المستبدّ لتحقيق ساديّته المتعاظمة وسيادته الخُلّبية أكثر من هذه العمائم المهينة؟!
المصدر: سوريا TV