في معنى الوسطية وورديفاتها .. أمثلة وتفسيرات
بقلم د. علي الصلابي (خاص بالمنتدى)
تستعمل كلمة (وسط) تستعمل في معانٍ عدةٍ، أهمها:
1 ـ بمعنى الخيار، والأفضل، والعدل.
2 ـ قد ترد لما بين شيئين فاضلين.
3 ـ وتستعمل لما كان بين شيئين، وهو خير.
4 ـ وتستعمل لما كان بين الجيد والرديء، والخير والشر.
5 ـ وقد تطلق على ما كان بين شيئين حسّاً، كوسط الطريق، ووسط العصا. وقد تأتي لمعانٍ أخرى قريبة من هذه المعاني، والمهم ـ هنا ـ متى يطلق لفظ (الوسطيَّة) بل على ماذا يطلق هذا المصطلح؟ فهناك من جعل مصطلح الوسطيَّة مرادفاً للفظ الخيرية، ولو لم يكن بين شيئين حسّاً، أو معنى.
قال فريد عبد القادر: ومن جملة ما سبق بيانه نستطيع أن نستخلص تعريفاً خاصاً محدداً للوسطية، فنقول: بأن الوسطيَّة هي: مؤهل الأمة الإسلامية من العدالة، والخيرية للقيام بالشهادة على العالمين، وإقامة الحجة عليهم … ثم قال: أما ما شاع عند الناس، وانتشر من الوقوف عند أصل دلالتها اللغوية، أي: التوسط بين طرفين، مهما كان موضوع هذا الوسط ـ الذي تمَّ اختياره ـ من صراط الله المستقيم، التزاماً، وانحرافاً، فليس بمفهوم صحيح وفق ما تبينه الايات، والأحاديث.(الفرفور، الوسطيَّة في الإسلام ص 29).
ويؤكد هذا المعنى في محلٍّ اخر، فيقول: ولا يلزم لكل ما يعتبر وسطاً في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالعدل وسط، ولا يقابله إلا الظلم، والصدق وسط، ولا يقابله إلا الكذب .(الفرفور، الوسطيَّة في الإسلام ص 33).
وهناك من جعل (الوسطيَّة) من التوسط بين الشيئين دون النظر إلى معنى الخيرية التي دلَّ عليها الشرع.
قال الأستاذ فريد عبد القادر: وقد شاع كذلك عند كثير من الناس استعمال هذا الاصطلاح الربَّاني استعمالاً فضفاضاً، يلبس أيَّ وضع، أو عرف أو مسلك أرادوه؛ حتى أصبحت الوسطيَّة في مفهومهم تعني التساهل والتنازل.
وما ذكره الأستاذ فريد في تعريفه للوسطية، وكذلك ما نقله عن غيره فيه نظر، ويتضح ذلك فيما سيأتي؛ لأنَّ المتأمل فيما ورد في القرآن، والسنة، والمأثور من كلام العرب فيما أطلق، وأريد به مصطلح الوسطيَّة يتضح له: أن هذا المصطلح لا يصحُّ إطلاقه إلا إذا توفرت فيه صفتان:
1 ـ الخيرية: أو ما يدل عليها كالأفضل، والأعدل، أو العدل.
2 ـ البينية: سواء أكانت حسية، أو معنوية.
فإذا جاء أحد الوصفين دون الاخر؛ فلا يكون داخلاً في مصطلح الوسطيَّة. والقول بأن الوسطيَّة ملازمة للخيرية ـ أي أن كل أمر يوصف بالخيرية فهو (وسط) ـ فيه نظر، والعكس هو الصحيح، فكلُّ وسطية تلازمها الخيرية، فلا وسطية بدون خيرية، ولا عكس فلا بد مع الخيرية من البينية؛ حتى تكون وسطاً.
وكذلك البينية ـ أيضاً ـ فليس كل شيئين أو أشياء يعتبر وسيطاً؛ وإن كان وسطاً، فقد يكون التوسط حسيّاً، أو معنوياً، ولا يلزم بالوسطيَّة كوسط الزمان، أو المكان، أو الهيئية، ونحو ذلك، ولكن كل أمر يوصف بالوسطيَّة فلابد أن يكون بينيّاً حسّاً، أو معنى.
ومن هنا نخلص إلى أن أيَّ أمر اتصف بالخيرية، والبينية جميعاً فهو الذي يصح أن نطلق عليه وصف: الوسطيَّة، وما عدا ذلك؛ فلا. وإلى هذا الرأي ذهب الدكتور ناصر بن سليمان العمر في كتابه «الوسطيَّة في ضوء القرآن ».(بن سليمان،الوسطيَّة في ضوء القرآن (41 ـ 42).
وإليك بعض الأمثلة توضح ما ذهبت إليه:
1 ـ جاء وصف هذه الأمة بالوسطيَّة في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمةً وَسَطَا} [البقرة: 143] وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم: أنه فسر الوسط بالعدل
وفي رواية: عدولاً . والمعنى واحد.( تفسير الطبري 2/ 7).
2 ـ وإذا نظرنا في تفسيرها بمعنى العدل؛ وجدناه يتضمَّن معنى الخيرية. والعدل كذلك يقابله الظلم، والظلم له طرفان، فإذا مال الحاكم إلى أحد الخصمين فقد ظلم، والعدل وسط بينهما، دون حيف إلى أيٍّ منهما.
3 ـ وما رواه أبو داود(السباعي،: السنة ومكانتها في التشريع 451) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ثلاث من فعلهن فقد طعِم طعْم الإيمان: مَنْ عبدَ الله وحدَه، وعلم: أنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسُهُ، رافدةً عليه كل عام، ولا يُعْط الهرمةَ، ولا الدرنةَ، ولا المريضةَ، ولا الشَّرَط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرِّه».
وهنا نجد: أن الوسطيَّة واضحة في هذا الحديث النبوي، فالبينية صريحة في الحديث، أما الخيرية؛ فهي ظاهرة بالتأمل من خلال ما يلي:
1 ـ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك دليل على هذه الخيرية، فلا يأمر صلى الله عليه وسلم إلا بخير: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: 29] وهل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم شرع من الله يوحى إليه.
2 ـ أننا عندما نريد أن نستخرج معنى الخيرية في السمينة السليمة الأفضل مما هو من أجود الأغنام، وأغلاها.
وإذا نظرنا إلى خيرية الغني ـ في الدنيا ـ قلنا: إن الأسهل عليه أن يخرج الضعيفة الهزيلة، ونحوها. ولكن الخيرية الكاملة أن ننظر إلى مصلحة الفقير، ومصلحة الغني ـ صاحب المال ـ جميعاً، دون ترجيح لإحدى المصلحتين على الأخرى، وهذه هي الوسطيَّة، وذلك باستخراج ما بين أفضلها، وأضعفها ـ هي الوسط ـ وذلك مثل قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] هنا اتضح التلازم بين ، والبينية في تحقيق معنى الوسطيَّة.( (السباعي،: السنة ومكانتها في التشريع 451)
روى الإمام البخاري في صحيحه: أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ خطب يوم السقيفة، وكان ممَّا قال يخاطب الأنصار: «ما ذكرتم فيكم من خير؛ فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيِّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً، وداراً» (تفسير الطبري 2/ 6).والوسطيَّة المرادة هنا يظهر فيها معنى الخيرية جليّاً، لا لبس فيه، فأين البينية؟
فالبينية تتضح إذا علمنا ما امتازت به قريش من صفات أهَّلتْها لأن تكون خير العرب، وهذه الصفات من الشجاعة، والكرم، وسائر الصفات الحميدة، هي في حقيقتها صفات اتصفوا بأفضلها، دون إفراط، أو تفريط، أو غُلوٍّ، أو جفاء، ولذلك فقد نالوا هذه المنزلة الرفيعة من كون العرب لا تدين إلا لهم، وما ذلك إلا لثقتهم في عدلهم من قبائل وأطراف متنافرة في أخلاقها، متباينة في طباعها، وذلك لخصِّيصة الوسطيَّة فيهم، ويصدق فيهم قول زهير:
هم وسطٌ يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى اللَّيالي بمُعْظَمٍ
والعدل هو سبب قبول حكمهم، والعدل فيه صفة البينية بين نوعي الظلم، ولذلك كان وسطيَّاً، فكذلك سائر صفاتهم. وبهذا يتضح: أن الخيرية، والبينية ـ المعنويّة ـ هي التي أهَّلتهم لأن يكونوا وسطاً نسباً، وداراً.(بن سليمان، الوسطيَّة في ضوء القرآن 45/ 4 ـ 47).
وتأمل معنى ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا ـ رضي الله عنه ـ: (قالوا: إن الوسط هو العدل، والخيار، وذلك: أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تفريط، وتقصير، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر؛ أي: المتوسط بينهما).(رشيد رضا، تفسير المنار 2/ 4).
وذهب الدكتور زيد عبد الكريم الزيد في كتابه «الوسطيَّة في الإسلام» إلى ما ذكرته، وقررته؛ حيث قال:الوسط من كل شيء أعدله، فالوسط إذاً ليس مجرد كونه نقطة بين طرفين، أو وسطية جزئية، كما يقال: فلان وسط في كرمه، أو وسط في دراسته، ويراد أنه وسط بين الجيد، والرديء، فهذا المفهوم وإن درج عند كثير من الناس، فهو فهم ناقص مجتزأ، أدى إلى إساءة فهم معنى الوسطيَّة المقصودة.
وعلى هذا: فالوسط المراد، والمقصود هنا هو العدل الخيار، والأفضل، إلى أن قال: وبالتالي لم يبق معنى الوسطيَّة مجرد التجاوز بين الشيئين فقط، بل أصبح ذا مدلول أعظم، ألا وهو البحث عن الحقيقة، وتحصيلها، والاستفادة منها.
ثم يقول: وهو معنى يتسع ليشمل كلَّ خصلة محمودة لها طرفان مذمومان، فإن السخاء وسط بين البخل، والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كلَّ وصف مذموم، وكلا الطرفين هنا وصف مذموم، ويبقى الخير، والفضل للوسط.(الفرفور، الوسطيَّة في الإسلام 18)
ومن خلال الأمثلة السابقة اتضح لنا التلازم بين الخيرية، والبينية ـ حِسِّيَّةً، أو معنوية ـ في إطلاق مصطلح (الوسطيَّة) ولهذا: فعندما أستخدم هذا المصطلح في بحثي هذا؛ فإنني أقصد به ما ينطبق عليه هذا الفهم دون سواه.