مقالاتمقالات المنتدى

أحكام الشرع بين فقه الواجب وضغط الواقع

أحكام الشرع بين فقه الواجب وضغط الواقع

بقلم د. بلخير طاهري الإدريسي (خاص بالمنتدى)

لقد تركنا نبينا صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء ، وسيجها  بقوله بمرجعية ثابتة الى قيام الساعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا : كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ ” . رواه الحاكم .

    و مما أصبحنا نخشاه في واقع المعاصر ، هو الفتور في التدين، والتنصل من أحكام الشرع، و الانتقال الى مرحلة التعديل والتبديل.

    إن ظاهرة الابتعاد عن أحكام الشريعة بدأت تبرز بشكل مبالغ فيه في العصور المتأخرة، خاصة بعد أن كشرت العلمانية على انيابها ، وأعلنت الحداثة هيمنتها على الفكر والتراث ، في ظل تدهور المستوى التعلمي، وقوة الشبهات وضعف المواجهات.

   وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المنحى البياني الخطير الذي ستؤول إليه أمته،  فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة). رواه أحمد

    وقوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي يرويه سيدنا ابوهريرة رضي الله عنه :” بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ” .رواه مسلم.

    من خلال هذه النصوص وغيرها ندرك واقع الأمة و مٱلها، مما يدفعنا دفعا للتجهز لمواجهة هذا التحدي من خلال خوض معركة الوعي، ونشر العلم الصحيح ، وتصحيح المفاهيم ، ودفع الشبهات .

أولاً: عموم البلوى وأثره في الفتوى:

     لقد أضحى الاستهانة بأحكام الشريعة من سمات هذا الجيل، والتنصل من أحكام الشريعة لأدنى سبب، واصبحت قاعدة عموم البلوى ترعى عند كل فتوى،  ومحاولة جعلها ظاهرة تفرض نفسها بقوة الواقع، ومن ذلك التعاملات الربوية ، و التأمينات التجارية، والحجاب المتبرج الذي يصف كل شيئ ،  و تبجيل والثناء على الأحكام الوضعية التي هي من الصناعة البشرية، والقفز على النصوص الالهية بدعوى عدم الصلاحية …

    وكلما زاد الضغط زاد التنازل ، ولا حول ولا قوة الا بالله،  فهو المستعان وعليه تكلان.

    إن مراعاة قاعدة:” عموم البلوى”. لا  تجعلنا نتنصل عن أحكام الشرع الثابتة،  ونطوع النصوص لاملاءات الواقع وضغوط الشارع (العامة). بل يجب أن نفرق بين الثوابت والمتغيرات ، وبين الاصول والفروع، وبين الوسائل والمقاصد ، وبين القطعيات و الظنيات ، وهكذا وفق هذه الثنائية.

ثانياً: ظاهرة التوسع في الرخص

     من نعمة الله عزوجل على هذه الأمة عدم ادخلها في الضيق والحرج، ونصب أمام كل حكم من هذا النوع عزيمة ورخصة، ويبقى المكلف هو سيد الاختيار في هذا المقام.

    ونحن نعلم كما جاء في الأثر :” أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه”.

   ولكن يجب ألا يتوسع فيها إلا بالقدر الذي تدفع إليه الحاجة من غير تكلف .

    ولكن أن تنزل الرخصة منزلة العزيمة،  ويصبح الاستثناء قاعدة فهذا ما يجب ينظر فيه ، وينبه عليه ، فإنه يؤدي إلى تغيير خط الشريعة في رسم الأحكام.

     وقد حذر سيدنا علي رضي الله عنه في وصية جامعة فقال:     «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالْفَقِيهِ كُلِّ الْفَقِيهِ؟» قَالُوا: بَلَى قَالَ:

       «مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤَيِّسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَلَا يَدَعُ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى مَا سِوَاهُ، أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَقُّهٌ وَلَا عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ وَلَا قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ». اهـ. أبو عمر ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله

ثالثا: انتشار فقه الطوارئ:

    فقه الطوارئ ، هو قريب مما يسمى عندنا بفقه النوازل المستجدة التي لم يسبق لها نظير في الفقه الموروث، ويطلب من أهل الصنعة بذل الوسع في استفراغ الجهد للإجابة عن هذه الطوارئ الفقهية،  مما يعزز عظمة الشريعة في نفوس المكلفين، ومواكبة كل مستجدات عصرهم. وكما قال الامام الشافعي ما تنزل بالعبد من نازلة، إلا ولله حكم فيها، علمها من علمها ، وجهلها من جهلها. وهذا مصداقا لقوله تعالى :”  ما فرطنا في الكتاب من شيء “.

     إن واجب علماء الأمة أن يجيبوا على كل واقعة أو نازلة في الكرة الارضية لها صلة بأفعال المكلفين، وهذا حتى لا ترمى الشريعة بالتخلف، أو القصور ،  والعجز . وحتى لا تنعتها الأجيال اللاحقة بعدم القيام بواجب البيان.

   ولكن بشرط ألا يكون على شعار ( ما يطلبه المستمعون) و إنما بكل مسؤولية و موضوعية و اقتدار.

رابعاً: المبالغة في إنزال الحاجة منزلة الضرورة.

     لقد أبدع الامام عبد المالك الجويني في سبك قاعدة أصولية مقاصدية فقهية،  أصبحت قبلة المجتهدين يؤمونها عند كل حاجة ملحة أو ضرورة حاقة. وهي :” أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة”.

    ولكن أن تتخذ هذه القاعدة يتوكأ عليها عند كل حاجة عارضة ، ونقلها من كونها موجهة إلى مكلف ، فإذا بها تصبح تعم كل المكلفين دون تحقيق مناطاتها التي تدور عليها وتحقق فيها.

    فإن من القواعد الضابطة لهذه القاعدة ، قاعدة : الضرورات تبيح المحظورات ” ولكن مع قيدها ، ” أن الضرورة تقدر بقدرها”.

        و إلا فإن  هذا السلوك يفضي إلى كثرة دعوى الحاجة، خاصة في زمن قل فيه الوازع الديني،  وغاب فيه الرادع السلطاني.

خامسا: البحث عن فقه المخارج و الحيل بالمجان!!!

      حقيقة أن وظيفة المفتي أن يخرج المكلف فيما وقع فيه ، او فيما هو مقبل عليه، بأن يحمله على الأيسر من الأقوال ، طبقا للهدي النبوي من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها، أنه صلى الله عليه و سلم :” ما خير صلى الله عليه و سلم بين أمرين إلا إختار  أيسرهما ، مالم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه”.

     وعليه فإن الجري وراء البحث عن المخارج لكل واقعة دون ضرورة ملحة أو عاجلة، يعتبر مسلكا غير مرحب به في معهود الشارع من حمل الناس على مهيع التشريع.

       لإن المخارج هي بريد الحيل ، للالتفاف على نصوص الشرع خاصة إن خلت من ضوابط تحكمها حتى لا تتفلت أو تتسيب من عقالها، وفي هذا يقول العلامة الحنفي ابن نجيم: “واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى في التعبير عن ذلك؛ فاختار كثير التعبير بكتاب الحيل، واختار كثير كتاب المخارج”

      أما العلامة ابن القيم فإنه تحاشى لفظة الحيل لما لها من نفرة عند العامة، والتي تشعر بمعنى سلبي ، فقال : “ونسميه وجوه المخارج من المضائق، ولا نسميه بالحيل التي ينفر الناس من اسمها”.

     وعليه لا بد أن يكون المكلف قائما على حدود الشرع وفي مقام الامتثال، كما قال الامام الشاطبي :” المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه ; حتى يكون عبدا لله اختيارا ، كما هو عبد لله اضطرارا “. الموافقات.

     ولكن ما أصبحنا نراه اليوم هو عدم التفكير الجاد في تثبيت أحكام الشريعة دون اللجوء إلى الحلول الاستثنائية التي تدفع الى تميعها ، بل لا بد من صونها وتعزيزها بتثيت العامة على الالتزام دون تنازل ، وبدفع الحكام بالتي هي أحسن لتحمل مسؤولياتهم الشرعية اتجاه أمتهم في حماية بيضة الاسلام من كل تعطيل او هتك، أو استبدال.

==========#في الختام:

       لقد أبدع الامام ابن القيم رحمه الله في كتابه النفيس ، أعلام الموقعين ، بوضع قاعدة لكل مؤهل للنظر في نصوص الشرع، بقوله :”  ولا يتمكن المفتي ، ولا الحاكم ، من الفتوى ، والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم :

       أحدهما : فهْم الواقع والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع ، بالقرائن ، والأمارات ، والعلامات ، حتى يحيط به علماً .

      والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع , وهو فهم حكم الله الذي حكم به ، في كتابه ، أو على لسان رسوله في هذا الواقع ، ثم يطبق أحدهما على الآخر .” إعلام الموقعين “

     فبين فقه الواقع وفقه الواجب تلازم لا ينفك، وإلا كان تنزيل أحكام الشريعة على غير وجهها الصحيح، وإهمال مٱلات الأحكام وواقعية التشريع .

     إن الأمة اليوم تعيش أزمة تطبيق الشريعة في جميع مناحي الحياة ، و أصبح التدين الفردي هو السمة الغالبة في كثير من الأقطار ، مما أصبح ظاهرا و  دليلا على أزمة الأمة في تطبيق أحكامها العادية!

       لقد نص العلامة الطاهر بن عاشور على أن تكون الشريعة مرهوبة الجانب ، مصنونة الإختراق حتى لا يلعب بأحكامها وتفقد قدسيتها.

    وننظر الى صنيع الامام مالك عندما أراد أبو جعفر المنصور هدم الكعبة وبناءها على ما نطق به الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم ، فقال له يا أمير المؤمنين لا تفعل ، حتى لا تذهب  مكانة الكعبة في قلبوب ، أنه كلما جاء أمير هدم ثم بنى . _ او في معنى هذا الكلام _ فهذا ملحظ قوي رعاه الامام مالك صونا للاحكام الشريعة ومقدساتها من تكون عرضة للعبث.

      إن استقرار الأحكام وثابتها، والا تكون ألعوبة بين يدي العامة، او رغابات الحكام أمر مهم ، و إلا غيرت رسوم الشريعة على ما وضعت عليه ابتداء .

      ولا يمكن الوصول الى هذا المقام الا بأمرين إثنين :

  أولها: أن وظيفة العلماء  هو البيان من غير خضوع

  وثانيا :  أن و وظيفة الحكام تنفيذ الأحكام من غير تردد.

      فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، قال :” يا مَعْشَرَ المهاجرينَ ! خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ :

       لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ ؛ حتى يُعْلِنُوا بها ؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا.

      ولم يَنْقُصُوا المِكْيالَ والميزانَ إِلَّا أُخِذُوا بالسِّنِينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ ، وجَوْرِ السلطانِ عليهم

       ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا .

      ولم يَنْقُضُوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلا سَلَّطَ اللهُ عليهم عَدُوَّهم من غيرِهم ، فأَخَذوا بعضَ ما كان في أَيْدِيهِم .

       وما لم تَحْكُمْ أئمتُهم بكتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ويَتَخَيَّرُوا فيما أَنْزَلَ اللهُ إلا جعل اللهُ بأسَهم بينَهم” رواه الحاكم

        اللهم ردنا الى دينك ردا جميلا ، و ارشدنا الى مقاليد أمورنا

و ول أمرنا خيرنا يا رب .

كتبه:

الدكتور بلخير طاهري الادريسي الحسني المالكي الجزائري

أستاذ الشريعة والقانون جامعة وهران الجزائر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى