هبَّة فلسطين.. حي الشيخ جراح
بقلم محمد خليل شباط
أسرى الله برسوله ليلا إلى “القدس” بلد أخيه المبارك السيد المسيح ابن مريم عليهما صلوات الله وسلامه ليعرف المؤمنين من كل ملة ونحلة أنهم مكلفون بحماية هذه الأرض المباركة كما قد حماها من قبلهم الكماة الصناديد، وقد سبق أن عرف تاريخ هذا البلد بغزارة حروبه وكثرة الصراع حول ثراه المقدس، وقد سطر الغابرون في الثبات على هذا الثغر ما لا يهون على الأفلام تصويره،، إذ لا تكاد منطقة في هذا البلد تخلو من قبر صحابي شهيد أو حواري صالح، وليس مضارع الثرى الفلسطيني بمختلف عن الماضي في هذه الجزئية، ولن تجد عجبا من وقع دعاء أم فلسطينية تستنجد أبا حفص وصلاح الدين على أسماعك في هذه الأرض، قرونا بعد أن أتى عليهم الدهر، فإن القدسية التاريخية للأمة تعطي أهل الرباط فيها شدة في العزيمة، كلما حاصرهم شبح اليأس طردوه بالدعاء، وكلما تكاثر عليهم الأعداء صدوهم بالصبر، وكلما ذاقوا من كأس تخاذل الأنصار ردوا هذا التخاذل بابتسامة صفراء كما تفعل أم بابن عاق ما استسلمت لعقوقه يرميها بأبشع الألفاظ فتردها إليه أطيب الدعوات، ولله الأمر كله.
أما بعد، فإن هذه المذكرات التي أضعها بين يديك هي نتاج تجربتي الشخصية في هبّة رمضان (مايو/أيار الماضي) في الأراضي الفلسطينية، واعلم أيها القارئ أن لكل عربي من أهل هذا القطر قصته الفريدة وروايته المختلفة باختلاف مكان وجوده، ومقدار تفاعله ونسبة انتمائه، وهي -أيضا- خالصة تجربته فيما عم أرجاء فلسطين، والذي عرف في أنحاء العالم العربي بعدئذ بـ”هبة رمضان”.
ولما صحت لدي ضرورة تدوين هذه الأحداث وتأريخها بقلم من عايشها فقد رأيت أن مقالا تمهيديا سيكون مفيدا للقارئ والقارئة، لكي لا تحدث المقالات القادمة بلبلة لديهم فتنحسر عنهم الفائدة، وقد امتلكتني الحيرة في كيفية ترتيب هذه المقالة وهندستها، واجتهدت فيها لتكون بريئة من سمة التطويل الممل وعدلت حتى تبرأ من عيب الاختصار المخل، ولكن بعدما وضعت المعركة أوزارها ورجعت الحياة بشكل من الأشكال إلى مسار يشبه مسارها المسبوق انكببت على الأخبار والمواقع، فوجدت الصحف قد جادت بالتقارير المقروءة والمرئية عن الهبّة، وما وجدت أحدا قد قص الأحداث بلسان المشاهد المشارك، ومن هنا تركت ما كان في يدي من مواضيع الكتابة والتأليف، ووكلت نفسي هذه المهمة، لعظم الحدث المذكور في حدوثه وفي تبعاته، وليقيني أن الإنسان مهما تابع نشرات الأخبار واطلع على فحاوى التقارير فإنه سيغرق في سيل من السرد الحيادي المعلوماتي كذاك الذي ينزع من الحدث الحياة ولا يشبع نهم القارئ كما يشبعها مطالعة كتابة من خاض مخاض هذه الهبّة بذاته، وخبر ما فيها من تحديات إنسانية بنفسه، فإن هذا مما يقرب الحدث إلى القارئ ليضعه موضع الرائي السامع، ويقرب القارئ من الحدث ليحطه محط المشاهد المشارك.
إن من نعيم الدنيا الذي يخفى على الإنسان هو ذاك النعيم الذي لا يفهم أوله حتى يعقل آخره، ذاك الذي يهيج في الإنسان بادئ الأمر هاجس السوء، ليتطير من تعاقب الحادثات واستحكام حلقاتها وبيان شدتها وطوال أمد ظلماتها، حتى إذا فرغ القدر من إملاء ما عنده قعد الإنسان واضعا كفا على خد، محتارا متعجبا من مآل ما ظنه هلاكا أول الأمر، فاتضح أنه محض إعداد منزل بدقة تخلو من كل علة.
لقد أحسنت تلك الأيام إظهار سمو الوحدة بين العرب كيف يكون، وكيف وقفوا صفا كالبنيان المرصوص في مواجهة أعتى دولة في شرق المتوسط، بلا سلاح يذكر سوى إيمان متين وشراسة نمت في الفلسطينيين كلما نمت أعوام صمودهم في آخر ثغور الأمة مقاومة، مدونين بذلك ملحمة قديمة متجددة، وضاربين مثلا يدرس في الصبر على نوائب الدهر.
وليست مناقب هذه الهبّة مما يسهل عده وإحصاؤه، ولكن ذروة تلك المناقب كانت تكاتف كامل الخريطة الفلسطينية منصورة بدعوات الإخوة والأخوات من كامل الجغرافيا العربية والإسلامية، واتصال حبل أهلها بحبال الأمة جمعاء، لما في كل هذا من إحباط للمخططات الصهيونية التي سعت جاهدة لزرع بذور الفرقة بين الفلسطينيين، وإن استنجاد امرأة عشرينية في حي عربي شرقي القدس أدى إلى نفير الشجعان والأحرار من غزة والضفة والداخل، بل إلى نفير أمة كاملة تقبع وراء الحدود تشاهد وتتعجب، وتسمع وتدعو، لاعبين سويا دور معتصم جديد على قدر استطاعتهم.
وسرعان ما انتقلت المشاغبات في حي الشيخ جراح إلى باحات الحرم المقدسي، وأما اقتحام الأخير فقد أدى إلى صولة جديدة بين فلسطين وجيش إسرائيل المزود بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكا، وأما اشتعال الحرب المباشرة فقد أجج نار العزة في النفوس بعد أن قاربت جذوتها أن تنطفئ جراء التخاذل العربي والتواطؤ العالمي، فامتلأت المفارق وشمر الرجال والنساء عن السواعد استعدادا لجولة متجددة تجدد الأجيال في هذا البلد.
كنت قد تحدثت في ثاني فقرات هذه التدوينة عن أهمية طرحها على العلن بلسان المشاهد المشارك، وأعلم أن من التكرار ما يولد في نفس المرء الملل، ولكن من التكرار أيضا ما يزرع فسيل يقين في صدر القارئ ما كانت لتستقر فيه بسواه، ولقد عرفت من حال العرب في هذا الحاضر الحالك حاجتهم إلى أمل يحترزونه لقادم أيامهم، وإن من سلسلة المقالات هذه ما تخشع له الأفئدة الحية وما تنحني له العقول التي تستوعب ما تقرأ وتحسن تصويره في ذهنها كأنها قدامه، وإن في عزوف الناس عن متابعة أحوال أمتهم ما فيه من إنكار للعشير وتغفيل للضمير وإسقاط للواجب، ولهو غير مبرر، فلكي لا تتسرب الشكوك إلى ذهن القارئ فيخال المكتوب قد تم تأليفه استنادا إلى الخيال بقلم غائب عن منصة الأحداث فإني أطمئنه أن كاتب هذه السطور قد شهد بذاته كل مشهد تقرؤه، وإنما أنا ناقل لما رأيته بعيني وسمعته بأذني وبما أجادت ملاحظتي اصطياده وما أحسنت ذاكرتي جمعه، ولن ينبئك مثل خبير، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
المصدر مدونات الجزيرة