وزارة الأوقاف وسياسة «بوكو حرام»..
بقلم أ. د. أحمد الريسوني
“بوكو حرام” هو الاسم الذي تطلقه الصحافة على الجماعة المعروفة في نيجيريا بمناهضة المدارس الغربية وتحريم التعلم فيها… لكنني أقصد بهذا الاسم المعنى المتبادرَ في الفهم الشعبي المغربي، وهو “كثرة المحرمات” أو “كثرة التحريم”…
“بوكو حرام” بهذا المعنى هو ما تتبعه وزارات الأوقاف في معظم الدول العربية -ومنها المغرب- مع العلماء والخطباء والمرشدين الدينيين. فهذه الوزارات لها قوائم مفتوحة من المحظورات والممنوعات التي تحرِّم على العلماء والخطباء والوعاظ الرسميين التطرق إليها والتحدث فيها.
يجدر التذكير بأن الشريعة برمتها إنما أتت بمحرمات محدودة ومعدودة، لا يجوز لأحد أن يضيف إليها ما ليس مضمَّنا فيها أو معدودا من جنسها. ولذلك قال ربنا تبارك وتعالى: {قُلْ تَعَالَوا اتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمُ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنِ امْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151].
وقال أيضا: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمُ إِلَيْه} [الأنعام:119].
ولكن وزارات الأوقاف -أو: وزارة الأوقاف (للجنس)- أصبح لها محرماتها الخاصة، التي يتم تحيينها وتوسيعها حسب المناخ السياسي واحتياجاته. وهي محرمات ليست موجهة لعامة الناس، بل لخيرتهم وعلمائهم.
العلماء المنضوون في مؤسسات حكومية والمطوَّقون برواتب وعلاوات حكومية، أصبحوا ملزمين وملتزمين بالتحدث والتحرك في نطاق “دين الدولة”، وفق ما تحدده لهم وتجدده لهم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
وزارة الأوقاف -عندنا وعند عدد من أشقائنا- لها مذهبها السياسي والتشريعي، الذي يترجم السياسة العامة للدولة، وحدودَ استعمالها وطريقةَ استعمالها للدين وللمؤسسات الدينية المرسَّمة.
في نطاق هذه السياسة تفرض الوزارة الوصية على علمائها وخطبائها ومؤسساتها مجموعة من الممنوعات والخطوط الحمراء، التي يتعين عليهم عدم الخوض فيها وعدمُ الاقتراب منها، تحت طائلة التوقيف والحرمان…
ومن هذه المحظورات:
1- الفساد المالي والإداري الذي ينخر كافة مؤسسات الدولة.
2- الاستبداد السياسي وتزييف إرادة الشعوب أو دوسها علانية.
3- انتهاك حقوق الإنسان وكرامتِه، على أيدي الأجهزة الأمنية والعسكرية والاستخباراتية والسجنية.
4- استشراء الرشوة والمحسوبية والاستغلال اللاشرعي للمال العام والملك العمومي.
5- تقديم النصح -ولِمَ لا النقد- للمسؤولين وولاة الأمور بمختلف درجاتهم وتخصصاتهم.
6- الرد على الطاعنين في الإسلام ونبيه وشريعته، وعلى المنادين بحرية الشذوذ والزنى والدعارة، وغيرها من الفواحش.
7- المنكرات المعربِدة في الشوارع والشواطئ والفنادق والساحات العمومية، وبيانُ أحكام الشرع فيها.
8- نقد القوانين والسياسات المخالفة للشرع عموما.
9- حكم تنظيم الانتخابات والاستفتاءات في وقت صلاة الجمعة، وهو ما يحرم مئات الآلاف من أداء فريضة الجمعة.
10- تبذير القناطير المقنطرة من أموال الدولة في احتفالات وولائم عبثية على مدار السنة.
11- تعطيل الزكاة ومنع تنظيمها، وهي ركن من أركان الإسلام الخمسة.
12- مناصرة القضايا الإسلامية العادلة، وفي مقدمتها قضية فلسطين.
13- المناقشة العلمية لقرارات وزارة الأوقاف وسياستها المتعلقة بالشؤون الدينية.
14- التحدث عن الإعلام العمومي وتقييم برامجه ومواده ونقد سلبياته ومفاسده، بميزان العلم والشرع.
15- التناول والمعالجة للاستشراء المدمر للخمور ترويجا واستهلاكا.
16- التناول العلمي للدعوات المتكررة إلى إباحة زراعة الحشيش، بغرض ما سمي بالاستعمالات الطبية له.
17- المنع أو التجميد لكافة جمعيات العلماء ومنعُها من عقد مؤتمراتها وممارسة أنشطتها العلمية.
هذه القضايا الكبرى ذات الأثر البليغ في الدين والدنيا يُمنع على العلماء الرسميين تناولها ومعالجتها وبيان حكم الشرع فيها. ويندرج فيها تفاصيل وأمثلة لا تحصى.
يضاف إلى هذا كله وغيرِه، كونُ عدد من العلماء والخطباء -لشدة “ورعهم” وخوفهم على مواقعهم ومكاسبهم- يحتاطون لأنفسهم، فيُحَرِّمون عليها حتى ما لا تحرمه الوزارة عليهم، بل إن منهم من لم يجرؤوا -على سبيل المثال- حتى على الدعاء لغزة وأهلها في محنتهم مع العدوان الوحشي لبني إسرائيل عليهم.
إن هذه السياسة لن تؤدي في النهاية إلا إلى جعل العلماء والخطباء مجرد “قيمين دينيين”: بعضهم مكلفون بفتح المساجد وإغلاقها حسب الأوقات المحددة، وبعضهم مكلفون بفتح أفواههم وإغلاقها حسب الحالات المحددة.
إنها سياسة تؤدي -بقصد أو بدون قصد- إلى منع ظهور العلماء والمفكرين والمصلحين والمجتهدين تحت المظلة الرسمية، وهذه خسارة عظمى للمجتمع والدولة معا.
ولكنهم سيظهرون حتما خارج النطاق الرسمي، ضدا على سياسة “بوكو حرام”، وتلك خسارةٌ للدولة، لا خدمةٌ لها كما يظن قصار النظر.
وتلافيا لأي تلبيس، فإن ما تقدم لا يتعلق أبدا بتحزيب المساجد أو المؤسسات الدينية العمومية، أو استغلالِها لحساب أي طرف كان. فهذا مرفوض قطعا ومطلقا، حتى لو قامت به الدولة نفسها ووزارة الأوقاف ذاتها.
المصدر: موقع أ. د. أحمد الريسوني