مقالاتمقالات المنتدى

حقيقة السجود الذي أُمرت به الملائكة لآدم (عليه السَّلام)

حقيقة السجود الذي أُمرت به الملائكة لآدم (عليه السَّلام)

بقلم د. علي محمد الصلابي

السجود في لغة العرب التذلل والخضوع، وقد يكون معه انحناء. وحقيقته في الشرع وضع الجبهة على الأرض، وقد اختلف أهل العلم في نوعية هذا السجود، والصحيح الذي عليه الجمهور أنه كان بوضع الجباه على الأرض؛ لأن السجود إذا أُطلق انصرف إلى السجود المعروف في الشرع، ولو أريد غيره لقُيّد بما يفيد ذلك (قصة آدم، ص 116) وهذا سجود تكريمٍ لا سجود عبادةٍ، فهو شبيه بقوله تعالى في شأن يوسف: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [سورة يوسف: 100].

وقد اتّفق علماء الإسلام أن العبادة لا تكون إلا لله، والسجود على وجه العبادة لا يكون لملكٍ مقرَّبٍ ولا نبيٍّ مرسلٍ؛ هو لله وحدَه.

  • هل كان آدم قِبلة لهم في السجود؟

لو كان كذلك لكان الأنسب أن يُقال: اسجدوا إلى آدم، فالسياق استعمل لفظ “اسجدوا لآدم” في جميع المواضع التي وردت فيها القصة.

  • هل كان آدم إماماً لهم وهم يسجدون وراءه؟

هذا لا يساعد عليه السياق، وهو قول متكلّف.

  • هل كان السجود بمعنى الانحناء؟

يُشكل على هذا قوله: ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [سورة الحجر: 29]، والوقوع ظاهره الخرور إلى الأرض.

وهل السجود تعبير عن توكيل الملائكة بشأن آدم والقيام على أمره وأمر ذرّيّته وحياتهم ومماتهم؟

في التنزيل بيان تكليف الملائكة بأمر نفخ الروح، ونزع الروح، وأمور الرحمة، وأمور العذاب، وما شاء الله من أمر كتابة الأعمال والأحوال والحسنات والسيئات، وتكليف الملائكة بذلك حق ثابت، ولكن لا يحسن قصر معنى السجود عليه، فثمَّ موقف غيبي أُمر الملائكة فيه بالسجود لآدم ففعلوا وامتنع إبليس، وهو سجود حقيقي يناسب خلق الملائكة وما جُبلوا عليه مما يعلمه الله ولا نعلمه نحن ولا نستطيع تكييفه. (علمني أبي، العودة، ص 145) فللسجود أوضاع وهيئات تتفاوت بتفاوت المخلوقات:

– ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [سورة الرحمن: 6].

– ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ﴾ [سورة الحج: 18].

– ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ﴾ [سورة النحل: 49].

وفي السُّنّة سجود الشمس تحت العرش لا ينكر الناس من أمرها شيئاً.

قال القرطبي: وقال قوم لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم بوضع الجبهة على الأرض، ولكنه مُبقىً على أصل اللغة؛ فهو من التذلّل والانقياد، أي: اخضعوا لآدم وأقرّوا له بالفضل. (تفسير القرطبي، 1/293)

والأقرب أن ما أُمروا به هو فعل زائد عن مجرد الخضوع والإقرار بالفضل، مناسب للمقام ولهم، أُمروا بأدائه إظهاراً لفضل آدم وذريته، وإعلاناً لحقبة جديدة يكون له ولعقبه فيها الخلافة في الأرض.

واللائق بأمور الغيب إمضاؤها على ظاهرها دون إيغالٍ في تصويرها أو تصوّرها، أو تفصيلها أو تأويلها؛ رعايةً لحرمة النصوص، وتقديراً لطبيعة “تعميم” العقل البشري الذي يبدع في الكشف والابتكار، وينجح في ميدان المادة، ويحقق حين يتحرك فيما وراء الطبيعة، وهو سرُّ تفوق آدم وعلو مقامه.

والسجود لآدم طاعة للذي خلقه وفضّله، وهو عبادة لله الذي أمر به، مثله مثل الطواف بالكعبة وتقبيل الحجر الأسود. (علمني أبي، ص 146)

يقول الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود: وهذه القصة التي نمرّ عليها فلا نكاد نُعيرها التفاتاً جديرةٌ بالتأمل والاعتبار، والقضايا التي نريد أن نذكرها عظة واعتباراً، وهي في نفس الوقت ذات دلالات عميقة، هي ما يأتي:

– لقد صدر أمر إلهي بالسجود فاستجابت له طائفة، فنعموا برضوان الله، وشذّ فريق، فطُرد من رحمته سبحانه.

– أنه طُرد لأنه لم يستجب للأمر الإلهي مع علمه بأنه أمر إلهي.

– كان عدم استجابته ناشئاً عن كبرياء في نفسه، وعن تمرّد في فطرته.

– لم تلغِ عبادته كبرياءه، فهي إذن لم تكن عبادة بالمعنى الصحيح؛ لأن العبادة والكبرياء لا يجتمعان.

– هذه الكبرياء كما تمثلت في مخالفة الأمر الإلهي تمثلت في المحاولة التي أراد هذا المتمرّد أن يبرز بها موقفه مستنجداً بمنطقه وعقله، قائلاً: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [سورة الأعراف: 12].

ولم يكن هذا إلا منطق الهوى ومنطق الكبرياء، فسجوده لآدم ليس عبادة له وإنما هو عبادة لله؛ لأنه خضوع لأمر الله وحسب.

– والمغزى لما سبق، وهو ما يرشد إليه روح القصة، بل وتعبيرها، أنه عند الأمر الإلهي يجب أن تكون الاستجابة فورية، وربما كان هذا هو ما ترشدنا إليه كلمة “إذْ” في قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [سورة الأعراف: 12]، وهذه الفورية طبعاً هي كل أمر بما يناسب وضعه الزماني والمكاني.

والقضية التي نختم بها هذه القضايا، أو هذه المفاهيم المستَنتجة من القصة، هي أن الله إذا كان قد أمر الملائكة والجن بالسجود للإنسان الأول فليس معنى ذلك إلا التصريح الصريح بأن طبيعة الإنسان فيها الاستعداد الكافي للرقيّ في مدارج السمو الروحي درجةً فدرجةً حتى تسمو على الملائكة والجن، ولا معنى إذن بعد هذا الأمر الإلهي للملائكة والجن بالسجود للإنسان لأن يختلف علماء الإسلام في المفاضلة بين الإنسان والملك؛ فإن الفيوضات الإلهية على الإنسان لا تنتهي إلى حدٍّ (ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن).

وباب الفيوضات الإلهية مفتوح على مصراعيه، والقرب منه ميسور، وإذا سجد الإنسان لله رفعه الله إليه، وقرّبه منه، وغمره برضوانه. (قصص الأنبياء في رحاب الكون، ص 45)

 

المصدر: علي محمد الصلابي، قصة بدء الخلق وخلق آدم عليه السّلام، ص 447- 453.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى