هدف الحداثيين من تمييع المقاصد
بقلم الشيخ خوالدية عاطف
إن من يرجع إلى كتابات الحداثيين حول العلوم الشرعية عامة وحول علم المقاصد خاصة، سرعان ما يكشف أن القوم لم تكن لهم نية صادقة لخدمة الشريعة، وترقية علم المقاصد ولا ترشيد فهم الإسلام ولا إلى معالجة علل وأمراض العقل المسلم، بل إن كل القرائن من جهودهم وبحوثهم وكتابهم تشهد أن القصد هو تعطيل الشريعة، وإزاحة الإسلام من ميادين الحياة الحيوية وسجنه بين جدران المساجد وإبعاده عن الساحة السياسة والإقتصادية والإجتماعية وتحويله إلى شأن خاص بين العبد وربه.
ومن أجل تحقيق ما يسعون إليه يسلكون كل مسلك، ويتخذون كل وسيلة بجعل علم المقاصد هو الوسيلة الواسطة لتفكيك الشريعة وفصلها عن الحياة.
وهكذا تتحول المقاصد في معالجات وكتابات الحداثيين إلى معول هدم لا بناء، وكما قيل كلمة حق يراد بها باطل، والمتتبع لكتاباتهم يجد أن أصول فكرهم تحويل الشريعة إلى مادة سلسلة ينزع منها الثابت والمتغير، وتسيب فيها مناهج الفهم وتمييع دلالات النصوص وتأويل الألفاظ وفهمها على غير ما يراد بها وإبعاد اللغة العربية كأساس يعتمد عليه لفهم مقصود الشارع.
ومن ذلك تصبح النصوص الشرعية قابلة لكل قراءة، ويضيع الفهم الراجح والمعنى الظاهر المتبادر، وتحل مكانها الأفهام السقيمة والتأويلات البعيدة اللامتناهية، ومن ثم تغرق الأمة في وحل الجدل السفسطائي الذي لا يبني تصورا ولا ينتج فهما ولا عملا ولا يغير من واقع الأمة، بل يزيدها حيرة وتيها واضطرابا وتخبطا.
ولهذا يقول محمد الطالبي في كتابه عيال الله في معرض حديثه عن القرآن: “الوثيقة مقدسة والتعليق حر” ، ويضيف في نفس السياق: “كل منا يتعامل مع النص بالطريقة التي يراها”.
وهذه النصوص وأمثالها تبين كيف سعى ويسعى المنتمون لهذا التيار إلى القفز والتخلص مما أجمعت عليه الأمة في فهم وتفسير النص الشرعي قرآنا وسنة.
إضافة إلى إلغاء شروط الأهلية العلمية التي وضعها فقهاء الشريعة لمن أراد أن يتصدر الفتوى والفهم والاستنباط، فعليه امتلاك لعلوم القرآن والحديث وإلمامه بعلم الأصول وتمكنه من ناحية اللغة العربية وعلومها نحوا وصرفا وبلاغة واشتقاقا، حتى يكون في مستوى تذوق إعجاز القرآن والبلاغة النبوية كما ظهر للمتتبع لأفكارهم تجاوزهم لتراث الأمة من قواعد الفهم وضوابط التعامل مع النص الشرعي، مما يفسر هجمتهم الشرسة على علم أصول الفقه الذي يعتبر صمام أمان علوم الشريعة، وتحاملم على الإمام الشافعي وعلى كتابه الرسالة.
فهذا محمد الجابري يصف الإمام الشافعي- في سياق نقده لتكوين العقل العربي- بكونه: “المشرع الأكبر للعقل العربي”.
وهذا نصر حامد أبو زيد يصفه بكونه: “مكرس الإيديولوجية العربية” ثم إن الذين يزعمون أن استنجاد القوم بعلم المقاصد لم يكن عن اقتناع بجدواها ولا عن إيمان باهتمامها وفائدتها، ولم يكن بدافع النية الخالصة لخدمة النص الشرعي وتجديد فهمه وعدم الانحباس على سطحيتهم، ولا لترشيد العقل السليم بل كان أساسا لاتخاذها مطية وذريعة وتكأة لضرب علم الأصول والتقليل من شأنه وتجاوزه حتى يسهل التعامل مع النص الشرعي، لأن علم الأصول بالنسبة للحداثيين يعتبر العقبة الكؤود لهم، لذلك لم يستطيعوا أن يتأقلموا مع قواعده عامه وخاصة ومجملة ومحكمة وغير ذلك، فأتعبهم فهما وتنزيلا وعملا وتأويلا وظاهرا وباطنا، وأقلقهم في جعله المرجع الذي يفهم به النصوص فقيد حريتهم في التلاعب بالنصوص، وتجاوز النص إلى الواقع وإعمال العقول بدل من إعمال النقول.
وبذلك يصبح التعامل مع النص الشرعي سهلا وطريقه معبدا ليلجه شاء من شاء دون اعتراض أو رقابة من أحد، وحتى تقع الأمة في فوضى فهم الدين ويختلط فيها الحلال بالحرام ويلتبس فيها الجهل بالعلم، فيكون ذلك مدعاة لتجاوز الكل وإلغائه، بدعوى ما يسمى عندهم بـــــ”أحداث قطعية ابستمولوجية مع التراث” من أجل توفير شروط النهوض وتهيئة مناخ الرقي والتقدم.
المطلب الأول: مفهوم النص عند الحداثيين
وفيه محاولة جعل النص مفتوحا على جميع التأويلات، وتتعدد التأويلات بتعدد القراءات، فما كان مفهوما من النص الشرعي في القرن الأول ليس ملزما ولا ثابتا في هذا الوقت – أي نقد سلطة السلف ونزع القداسة منها- فهم ينظرون للنص من جانبين جانب هرمي أعلى وجانب قاعدي أدنى فيربطه بالعقل والواقع.
ويحاول حسن حنفي إعادة صياغ مفهوم النص بإقحام الواقع فيه فيقول: “النص مفتوح على أعلى نحو العقل ومن أسفل نحو الواقع، وليس نصا مغلقا له كيانه من ذاته، النص ظاهرة حركية حتى وإن بدا على مستوى العبارة واضحا بسيطا”، ويقول في موضع آخر: “النص والواقع واجهتان لشيء واحد”.
فهو يجعل الواقع مكان النص والنص مكان الواقع ويخلط بينهما فيجعل قداسة للواقع أكثر من النص فيقول: “فالواقع أحد جوانب النص، ولا يقل نصية النص،كما أن النص لا يقل واقعية من الواقع”. “لنقدو لا يقل نصيبه النص،كما أن النص لا يقل واقعيه من الواقع قداسة للواقع أكثر من النص فيقول:ئئع.
ا الوقت أي نقد سلطة السلف و نز
النقد: النص له قداسة في الإتكاء عليه لا في الفهم، لأن الفهم يتغير بتغير الزمان والمكان والعادات والنيات والأعراف وغيرها كما قرر علماء الأصول، فنحن نسلم لهم أن النص يدخله الخلاف والاجتهاد، هذا كله يخص النص ظني الدلالة، أما النص قطعي الدلالة وقطعي الثبوت فلا خلاف فيه عند جميع الأصوليين في العمل به، فالفكر الحداثي يريد أن يجعل النص منزوع الروح منزوع القداسة مساويا للواقع بل أقل منه في بعض الأحيان.
فالنص هو المعول عليه بداية مع مراعاة تغير الواقع، ولهذا كان ثلثي القرآن ظني الدلالة ليترك للعقل مجالا وللواقع مكانا لكي لا يضيق على الأجيال اللاحقة التي تغير زمانها وعرفها وعاداتها، فالنص بهذا الفهم يتلائم مع كل زمان ومكان، ولا يضيق ذرعا بالمسلم أن الواقع متغير والنص جامد لا يراعي واقع الحال والمآل.
فنقول للحداثين أن النص رباني ليس جامدا، والذي وضعه هو من خلق الأفهام فلا يليق بالخالق أن يكلف عبده بشيء لا يطيقه أو شيء فات زمانه أو تغير فهمه، ونصوص القرآن مملوءة بهذا التدرج في العمل بالنص والأمثلة في ذلك كثيرة منها: تحريم الخمر وتحريم الربا على مراحله المذكورة عند علماء التفسير.
المطلب الثاني: مفهوم المصلحة عند الحداثيين
حاول الاتجاه الحداثي إبراز مفهوم المصلحة من خلال النقاط التالية:
- أن المصلحة متغيرة مطلقا بحسب الظروف والواقع التي تدور فيه:فيقرر الجابري أن المصلحة متغيرة: “تتلون بلون الظروف والمعطيات الحضارية والتطورات التاريخية” ويقول حسن حنفي عن المصلحة إنها: “أمور إضافية تختلف باختلاف الأفراد والأحوال والظروف، وربما العصور والأزمان”.
- محاولة اختزال مفهوم المصلحة أو تأطيره في المصلحة المادية والاجتماعية والأخلاقية وما تقتضيه عمارة الأرض والنهوض الحضاري، مع التغافل عن المقاصد الإيمانية والتعبدية، يقول حسن حنفي: “المصالح والمفاسد يتعلقان بأمور الدنيا”.
- ترقية دليل المصلحة كأساس وحيد للتشريع، يقول حسن حنفي: “المصلحة أساس التشريع وليست فقط أحد مصادره”.
- استناد المصلحة على الواقع كأصل مستقل، يقول حسن حنفي: “المصلحة والمفسدة يقومان على العادة والشرع أي يستندان إلى الواقع والنص فيتساوى الأصلان”.
المطلب الثالث: مفهوم التجديد عند الحداثيين
وهو أحد المداخل والتوطئات التي تفسح المجال بالإضافة المعرفية، لذلك لم يفوت الخطاب الحداثي رفع شعار التجديد كتوطئة لأطروحته.
فالتجديد عند الجابري هو إيجاد الحلول العملية لما يطرحه علينا العصر الحاضر في قضايا لم يعرفها الماضي.
ويؤكد مفهوم التجديد بقوله: “إعادة بناء منهجية التفكير في الشريعة انطلاقا من مقدمات جديدة ومقاصد معاصرة”.
المطلب الرابع: مفهوم التأويل عند الحداثيين
تحرير التأويل من القيود التراثية، كمطالبة محمد الطالبي بقوله: “الوثيقة مقدسة والتأويل حر حرية التأويل وما يتبعها من خصوصات … ضريبة ضرورية لتقدم التاريخ”.
ويقول: “كل قراءة فكر يتعامل مع نص، فالنص واحد والأفكار متعددة، وهكذا لا مفر من تعدد القراءات بتعدد الأفكار”. و”تعدد القراءات للنص قضية حتمية لكل نص”.
نقد: حرية وتحرر التأويل عواقبها وخيمة على النص، يعني إبعداد الفهم وعقل المجتهد من المحددات والقيود التراثية كالمعهود اللغوي والعرفي، وفهم السلف وأقوال الفقهاء السالفين والمتقدمين.
ومقتضى تحرير التأويل هو تمكين نسبية التأويل وزحزحة ثبات المفاهيم، وتمكين القراءة الحداثية مكان القراءة التراثية.
ربط التأويل بالمتغيرات: يدعو عبد المجيد الشرفي إلى تجاوز التأويل المتردد بين ثنائية اللفظ والسبب إلى المقصد حتى يكون مبحث المقاصد وسيلة لتأويل مفتوح ومتغير.
“والعبرة ليست بخصوص السبب ولا بعموم اللفظ معا، بل في ما وراء السبب الخاص واللفظ المستعمل له فيتعين البحث عن الغاية والقصد وفي هذا البحث مجال لاختلاف التأويل بحسب احتياجات الناس واختلاف بيئاتهم وأزمنتهم وثقافاتهم”.
النقد: هذا الذي يدعو إليه عبد المجيد الشرفي هو زحزحة منظومة المقاصد والأصول عن مستوى الفهم الصحيح، فهو يحرف القاعدة الأصولية العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب ليترك لعقله وفهمه ما يشاء دون التقيد بقيود المصالح والمفاسد، فالنص يفهم في سياقه لكن يبقى صالح لكل زمان ومكان بشرط عدم الانسلاخ عن شروط وقيود العمل بالنص، ونحن لا ننكر تغير الأعراف والعادات والتقاليد، بل نحتكم لقاعدة فقهية كاملة أساسها العرف المقررة في الشريعة الإسلامية: العادة محكمة وغيرها من القواعد المتخرجة من قاعدة العرف على أن يبقى فهم الأولين والسلف واللغة العربية أسس راسخة في فهم مقاصد الشرع.
([1]) محمد الطالبي: ولد في 1921 م بتونس، يعتبر أول عميد لكلية الآداب في جامعة تونس سنة 1955 م، درّس كأستاذ زائر بعدة جامعات عربية وأوروبية، دعا الطالبي إلى قراءة نقدية لمصادر التاريخ الإسلامي مع مراعاة القصد التاريخي للأحكام القرآنية، له عدة مؤلفات منها: “منهجية ابن خلدون التاريخية” و “عيال الله” و “التاريخ السياسي” وغيرها، توفي يوم 1 ماي 2017 م عن عمر يناهز 96 عاماً.
([2]) نصر حامد أبو زيد: ولد سنة 1943 م بمصر، باحث ومتخصص في الدراسات الإسلامية، وفي فقه اللغة العربية والعلوم الإنسانية، مدرس بكلية الآداب، جامعة القاهرة، سنة 1982 م، وأستاذ زائر بجامعة أوساكا للغات الأجنبية باليابان (1985 م – 1989 م)، وأستاذ زائر بجامعة ليدن بهولندا 1995 م، وغادر مصر إلى المنفى في هولندا، ومن بين مؤلفاته:”الاتجاه العقلي في التفسير (دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة” و” فلسفة التأويل (دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي)” و”نقد الخطاب الديني” و”التفكير في زمن التكفير” وغيرها، توفي في 5 جوان 2010 م بمصر.
([3]) تعقيب عبد الكبير حميدي على بحث وائل بن سلطان الحارثي تحت ورقة مقدمة للبحث في مشروع المقاصد بين التهيب والتسب (مجموعة بحث تحرير أحمد الريسوني)، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامية، 2014 م.
([4]) حسن حنفي، من النص إلى الواقع ، (ج 2، ص 493).
([5]) المرجع نفسه، (ج 2، ص 494).
([6]) المرجع نفسه، (ج 2، ص 494).
([7]) محمد عابد الجابري ، وجهة نظر، ص (55).
([8]) حسن حنفي، مرجع سابق، (ج 2، ص 487).
([9]) المرجع نفسه، (ج 2، ص 488).
([10]) المرجع نفسه، (ج 2، ص 494).
([11]) المرجع نفسه، (ج 2، ص 487).
([12]) محمد عابد الجابري، وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، ص (42).
([13]) المرجع نفسه، ص (57).
([14]) محمد الطالبي، عيال الله، ص (79).
([15]) المرجع السابق، ص (100).
([16]) المرجع نفسه، ص (101).
([17]) عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة، ص (154).
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين