مناهج الحداثيين النابغة من معارف العصر وعلومه في فهم النصوص كتابا وسنة
بقلم الشيخ خوالدية عاطف
لم يستح الفكر الحداثي المعاصر من استعمال معارف وعلوم العصر في ممارسة ما يسميه: القراءة الجديدة للنصوص الدينية الإسلامية بدعوى التجديد في الفكر الإسلامي أو ممارسة حق التحديث.
وغدت النصوص الشرعية قرآنا وسنة من قبل هؤلاء المفكرين الحداثيين، حقل تجارب لمختلف المناهج والنظريات التي أفرزتها العلوم الإنسانية المعاصرة على وجه الخصوص، إذ بتتبع واستقراء مختلف كتابات المعاصرين الداعية إلى فهم كتاب اللّه في ضوء المناهج الحديثة لتحليل الخطاب، لا نكاد نجد قاسما مشتركا بين مختلف الكتابات سوى تلك الرغبة الجامحة لإسقاط أي نظرية على النص القرآني، دون مراعاة مدى توافقها معه أو مجافاتها له.
وقد اعتمد الحداثيون على علوم العصر بعض المناهج لقراءة النص الديني قراءة جديدة، وفك أسره من سياج القداسة إلى باب التأويل والإجتهاد واعتمدوا على مناهج منها:
أولا: المنهج الألسني:
ومن مناهج العلوم التي طبقها الفكر الحداثي المعاصر على القرآن الكريم فهماً وشرحاً، المنهج اللساني، الذي نشأ في ظروف تمدد المنهجية الوضعية الغربية وبسط نفوذها على العلوم الإنسانية لإخضاعها لمنطق الحس بالرغم من مفارقتها له.
وممن طبق هذا المنهاج اللساني على القرآن الكريم من الحداثيين المعاصرين: محمد أركون ومحمد أبو القاسم حاج حمد ومحمد شحرور وغيرهم، وسنقف مع أشهر الحداثيين وهو محمد أركون الذي أخذ بعدّة مناهج في قراءة النص القرآني، منها المنهج اللساني والسيمائي وعلم الأناسة والأنثروبولوجيا وأحيانا يخلط بين هذه المناهج كلّها أثناء عملية القراءة.
لقد كان محمد أركون مولعاً بتوظيف مناهج العلوم المعاصرة، التي منها اللسانيات في فهم القرآن وقراءته، وذلك مما جعله يقول: “ننظر أن يتم تناول القرآن من جميع الوجوه، وأن يخضع للقراءة والتأويل من قبل جميع الفاعلين الإجتماعيين، مهما كان مستواهم الثقافي وتوجهاتهم المذهبية، وذلك للإجابة على مختلف الأسئلة العلمية والاكتشافات الجديدة لأنظمة القرآن في اللسانيات والتاريخ والأنثروبولوجيا والعقيدة والفلسفة”.
والهدف الذي يصبُ محمد أركون للوصول إليه من خلال توظيف هذا الفرع من المنهج في عملية فهم القرآن، هو تحقيق رؤية حركة فكرية عربية، تواكب مختلف الخطابات الإسلامية التي تسعى لشرح القرآن وبيان وظائفه ودلالالته، حتى يتسنى ضمان التحكم في فهم القرآن الذي تضاعف استهلاكه إيديولوجيا دون الأخذ بعين الاعتبار ما يطرحه التفكير الحر والنقدي من مشاكل معاصرة، ليس بالنسبة للمسلمين فقط بل بالنسبة لكل فكر منشغل بتجديد فهمنا للظاهرة الدينية. فمحمد أركون دعا إلى منهج واضح لقراءة القرآن الكريم من خلال اللسانيات وغاية ما اقترح في هذا الصدد أن يطرح المنطق اللغوي في فهم النصوص وترك علوم اللسان العربي للمبحث في بنية الكلام القرآني، ودعا إلى إعادة النظر في التراث التفسيري المتراكم، وعدم التعويل فقط على التفاسير التقليدية منوها بالتراث التفسيري الباطني داعيا للاستفادة منه.
وعندما حاول محمد أركون تطبيق المنهج الألسني المقترح في تفسير بعض آيات القرآن الكريم، لم يستقم له ذلك، إذ رام سنة 1974م قراءة سورة الفاتحة، وأعاد سنة 1980 قراءة سورة الكهف، حيث حشر في قراءته لهذه السورة ركاما من أقوال المستشرقين كبلاشير، ووانسبروغ وكوربان وهيكل وماسنيون مما لا تعلق له بفهم آياتها، وأدرج ضمن ذلك نصوصا من تفسير الطبري والفخر الرازي مقطوعه من سياقها.
ثانيا: المنهج العقلاني:
يتبنى هذا النهج مسارا فكريا تمثله مدرسة تسعى إلى التوفيق بين نصوص الشرع وبين الحضارة الغربية والفكر الغربي المعاصر، وذلك بتطويع النصوص وتأويلها تأويلا جديدا يتلاءم مع المفاهيم المستقرة لدى الغربيين.
ويهدف هذا المنهج في القراءة الجديدة للقرآن الكريم إلى رفع عائق الغيبية أي زحزحة الوحي عن مكانته باعتباره مصدر للمعرفة، يتم ذلك عن طريق التعامل مع الآيات بكل ما توفره النظريات والفلسفات الحديثة، يكون ذلك بواسطة نقد علوم القرآن، والتوسل بالمناهج المقررة في علوم الأديان بالغرب وإعطاء العقل سلطة مطلقة في إخضاع الآيات للنقد.
ولقد تولى محمد عابد الجابري في المغرب كبر هذا الإتجاه العقلاني في قراءة النص القرآني، وذلك منذ أن دعا في كتبه إلى استعمال العقلانية والروح النقدية، في التعامل مع التراث العربي.
ولقد عدّ الجابري عملية فهم القرآن الكريم أمرا ضروريا واردا في كل زمان، وأن ذلك يستلزم معرفة جديدة لتجديد فهم النص القرآني، فقال مبنيا ذلك:” فهم القرآن مهمة مطروحة في كل وقت ومطلوبة في كل زمان، وقد يكفي التذكير باقتناعنا بأن القرآن يخاطب أهل كل زمان ومكان، يفرض علينا اكتساب فهم متجدد للقرآن بتجدد الأحوال في كل عصر”.
وبين الجابري كيف يجب أن يكون فهم القرآن الكريم قائلا: “… لقد كنا نطمح إلى أن نوضح كيف أن فهم القرآن ليس هو مجرد نظر في نص ملئت هوامشه وحواشيه بما لا يحصى من التفسيرات والتأويلات، بل هو أيضا فصل هذا النص عن تلك الهوامش والحواشي، ليس من أجل الإلقاء بها في سلة المهملات، بل من أجل ربطها بزمانها ومكانها،كي يتأتى لنا للوصل بيننا نحن في عصرنا وبين النص نفسه كما هو في أصالته الدائمة”.
ولذلك سعى الجابري في كتابه مدخل إلى القرآن الكريم – الذي هو تمهيد لتفسيره – إلى طرح نظرات عقلانية نقدية لقصة كتابه المصحف الشريف معتمدا منهج الشك في المسلمات التي أجمع عليها الأقدمون في علوم القرآن رافضا كل خبر-كخبر انشقاق القمر والإسراء والمعراج – موظفا التأويل الذي ينسجم مع المنهاج العقلي الذي ارتضاه لفهم آيات القرآن، مخترعا ترتيبا جديدا لفهم سور وفق زمن نزولها.
ثالثا: المنهج المادي أو التاريخي:
أو ما يحلو لبعضهم أن ينعته بــــ: التاريخانية وهو مذهب يقر أنّ القوانين الإجتماعية تتفق بالنّسبة التاريخية وأن القانون من نتاج العقل الجمعي، وتعمم ذلك على الشرائع الإلهية أيضا وإذا أخذ بهذا المنهج في تفسير النصوص، كان معنى ذلك أن تبقى النصوص حبيسة تاريخها لا تصلح إلا للزمان الذي قيلت فيه ولا يمكن فصل أي نص عن تاريخه، ولقد طبق هذا المنهج في قراءة القرآن محمد أركون وعبد الله العروي
وكما يرى الجابري إلى امتداد المجتمع العربي مفاهيم النفعية والليبرالية والتاريخانية وجعلها تتركز وتسود على غيرها من المفاهيم.
فعبد الله العروي متشبع بالفكر الماركسي الذي يعده أفضل مدرسة للفكر التاريخي يجدها العرب اليوم “لأنه ينبغي على إسلام ما بعد الغزو الاستعماري…أن يغير نظرته إلى نفسه”.
مبررات فهم القرآن الكريم عند العروي: يبين عبد الله العروي بمبررين حاملين على ممارسة الفهم لكتاب الله:
- غموض الظاهرة القرآنية وتعقيدها: يقول العروي واصفا حال العرب اليوم: “…وإن كان وضع العرب لا يزال غامضا، فظاهرة القرآن أكثر غموضا”، ويقول في موضع آخر: “…تعاقب الأيام لا يزيد كلام الله إلا تعقيدا وغموضا…”.
- ضرورة قراءة القرآن الكريم منفصلا عن التفاسير المسبقة والضوابط المنهجية المقررة عن أهل هذا الشأن:
يقول العروي لقد قرأنا الكتاب قراءة بريئة غير متحفظة، متوقفين عند الأمارات الدّالة، دون اعتبار لما قد تسفر عنه الدراسات الجارية، أكانت تخص اللغة أو البلاغة أو المعاني أو الأحكام، وما فعلناه مع النص المؤسس، لماذا لا نفعل مثله مع ما نسميه السنة، أي الإسلام كما تجسد وتطور في التاريخ بناءاً على وضعنا الحالي وإنطلاقا من معارفنا وحاجاتنا من معتقداتنا وتطلعاتنا.
المطلب الثالث: تقويم مناهج الحداثيين في فهم النص الديني، وبيان آثار تبني الطرح الحداثي في الفهم
كان لتبني الحداثيين منهجا معينا في فهم النص الديني بنوعيه على ضوء معارف العصر وعلومه الحديثة، وعلى ضرورة تغير الفهم القديم الكلاسيكي وتبديله بالفهم الحديث بناء على التفسير والتطور والعصرنة.
فمن معالم النظرة التقويمية لهذا الفهم نتجت أمور طبيعية حتمها الفهم الجديد للحدثيين: فنتج عن هذا المنهج أمور:
أولا: نزع القداسة عن الوحيين: يعتبر التيار الحداثي المعاصر أن القرآن والحديث كلاما من الكلام يمكن دراسته ونقده، وبيان قيمته علوا ونزولا من غير وجل ولا خوف، وهذا أمر متفق عليه بين أصحاب هذا التيار “فالنص القرآني مثلا – عند نصر حامد أبي زيد – نص لغوي لا تمنع طبيعته الإلهية أن يدرس ويحلل بمنهج بشري وإلا تحول إلى نص مستغلق على فهم الإنسان العادي…”
وحسب عبد المجيد الشرفي، لم يعد يحتل نفس المنزلة التي كانت له عند الأجيال القريبة من عهد النبوة، وعن الشعور السائد أنه يعسر مواجهة مشاكل التشريع في المجتمعات العصرية بالرجوع إليه.
ثانيا:تجاوز المناهج الأصلية في فهم الكتاب والسنة: يكاد يجمع أصحاب التيار الحداثي في تناول فهم النص الديني على أنه ينبغي تجاوز المناهج القديمة الضابطة لعملية الفهم ذلك لأن معارفنا -كما يقول محمد أركون- التقليدية غير دقيقة ويجب على هذا الأساس – كما يقول عبد المجيد الشرفي- التعامل المباشر مع النص القرآني.
ثالثا: ظهور تصور ومفهوم جديدين للقرآن والسنة: توصل التيار الحداثي إلى نزع المفاهيم القديمة من الأذهان لفهم القرآن والسنة واستبدالها بمفاهيم جديدة عصرية حسب ظنهم، فالقرآن انتقل من القداسة والتنزيه إلى تجربة فردية قام بها محمد صلى الله عليه وسلم في إطار زمن ومكان محددين، أدى فيه التاريخ دورا مهما في توجيه الفرد.
([1]) عبد الرزاق هرماس، القرآن الكريم ومناهج تحليل الخطاب، ص(23).
([2]) محمد محمود كالوا، القراءات المعاصرة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير، ص (84، 85).
([3]) محمد أبو القاسم حاج حمد: ولد بالسودان سنة 1942 م، عمل مستشارا علميا للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن سنة 1990م، من بين مؤلفاته: ” العالمية الإسلامية الثانية – جدلية الغيب والإنسان”منهجية القرآن المعرفية – أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية و”أبستمولوجية المعرفة الكونية – إسلامية المعرفة والمنهج ” ، توفي سنة 2004م.
([4]) محمد شحرور: من مواليد دمشق 1938، أحد أساتذة الهندسة المدنية في جامعة دمشق، من بين مؤلفاته:”الكتاب والقرآن قراءة معاصرة “و” الدولة والمجتمع” و” الإسلام والإيمان منظومة القيم” و”والسلطة قراءة معاصرة للحاكمية”،توفي سنة 2019، انظر: الموقع الرسمي للدكتور محمد شحرور.
([5]) محمد أركون، الإسلام أصالة ومعاصرة، ص (29).
([6]) عبد الرزاق هرماس، مرجع سابق، ص (31).
([7]) محمد أركون ، قراءات في القرآن، ص (17، 18، 19).
([8]) عبد الرزاق هرماس، مرجع سابق، ص (34).
([9]) محمد أركون، قراءات في القرآن ، ص (17، 18، 19).
([10]) عبد الرزاق، قضية قراءة النص القرآني، ص (108).
([11]) محمد عبد الرزاق أسود، الاتجاهات المعاصرة في دراسة السنة النبوية في مصر وبلاد الشام، ص (464).
([12]) محمد عابد الجابري، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، ص (31، 35).
([13]) محمد عابد الجابري، فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، القسم الأول، ص (6).
([14]) محمد عابد الجابري، المرجع نفسه، ص (7).
([15]) محمد عابد الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم، ص (217).
([16]) محمد عابد الجابري، المرجع نفسه، ص (245).
([17]) أحمد محمد الفاضل، الاتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن، دراسة ونقد، ص (237).
([18]) عبد الله العروي: ولد في المغرب سنة 1993 م، وهو مؤرخ ومفكر مغربي، حصل عام 1976 م على دكتوراه الدولة من السربون، من بين مؤلفاته:” الإيديولوجيا العربية المعاصرة”و “العرب والفكر التاريخ”و” أصول الوطنية المغربية” و” مفهوم العقل”وغيرها كثير، انظر ترجمته في: أوراق سيرة ذاتية، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1998 م.
([19]) الليبرالية: هي عبارة عن حركة تهدف للوصول إلى تحقيق العدل والإحساس بالحرية في إتخاذ جميع القرارات، وتميز بمنح معتنقيها الديمقراطية المطلقة، ولا تجبر أي فرد على إعتناق دين أو مذهب معين.
([20]) محمد عابد الجابري، مساهمة في النقد الإيديولوجي ضمن كتاب محاورة فكر عبد الله العروي، ص (186).
([21]) عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص (107).
([22]) عبد الله العروي، السنة والإصلاح، ص (89).
([23]) عبد الله العروي، المرجع نفسه، ص (157).
([24])عبد الله العروي، المرجع السابق، ص (129).
([25]) نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، ص (12).
([26]) عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة، ص (154).
([27]) محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص (44).
([28]) عبد المجيد الشرفي، الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص (64).
([29]) الجيلاني مفتاح، مرجع سابق، ص (71)، بتصرف يسير.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين