“لاكاسا دي بابيل” .. كيف أقنعنا مُسلسل السرقة بالتعاطُف معه؟
بقلم عبد المنعم أديب
احتلَّ المسلسلُ المُعنوَنُ بالبيت الورقيّ، أو “لاكاسا دي بابيل” الشاشات، ومقاطع الهواتف، وصفحات الجرائد، والمواقع، واستخدُمتْ موسيقاه أنغامًا تنبيهيَّةً للمُحادثات. وباختصار استطاع هذا المُسلسل أنْ يمثِّلَ غزوًا لا للعرب وحسب، بل للعالَم كلِّه. وليس كلُّ مُشتَهَرٍ نافعًا؛ فهذا المسلسل الذي نرى مُغامرة مثيرة تمثِّل عملًا فنيًّا، في حقيقة الأمر جهادٌ مُنظَّمٌ لإقناعنا بالكثير من الأفكار.
وفي السطور القادمة سأعرِّف بالمسلسل بصورة عامَّة، وسأقسِّمه هنا إلى مسلسلَيْنِ: الأوَّل ويضمُّ الجزءينِ الأوَّلَيْنِ، والآخر وهو بقيَّة الأجزاء. ثمَّ أصوغ في أخصر صورة السلبيَّات البشعة التي انطوى عليها من الناحيتَيْنِ الفكريَّة والأخلاقيَّة. علمًا بأنَّ الجوانب الفنيَّة لن أتطرَّق إليها إلا بطريق الإشارة العابرة إذا اقتضى الأمر.
ما هو مسلسل “لاكاسا دي بابيل”؟
هو مسلسل إسبانيّ، ينتمي لتصنيفات الجريمة والمغامرة والإثارة والتشويق. لكنَّ العنصر الأساس في هذا العمل هو الدراما التي حقَّقتْ هدف الصانعين له؛ فإنَّ هدف تقديم هذا المسلسل المُرتكز على “جريمة” هي بذل أقصى تعاطُف من المشاهدين تجاه هذه “الجريمة”، لا التفاعُل مع أحداث مُثيرة كغالب أعمال هذه التصنيفات. يتكوَّن المسلسل من عدَّة مواسم، أفرِّق بينها على جُزءيْنِ:
– الأوَّل: أنتجته شركة محليَّة إسبانيَّة في عدد محدود من الحلقات ليكون مُسلسلًا مُتلفَزًا -أيْ معروضًا في قناة على التلفاز-. ثُمَّ قامت شركة البثّ التدفُّقيّ “نتفلكس” بشرائه من الشركة المحليَّة لتعرضه في خدمتها المبثوثة؛ أيْ ليكون مُسلسلًا مَبثوثًا غيرَ مُختصٍّ بالتلفاز، أيُّ شخص يمتلك الخدمة من حقِّه رؤيته. عُرض المسلسل في مايو 2017م. والمسلسل الأوَّل -كما قسَّمتْه “نتفلكس”- مُكوَّن من تسع عشرة حلقة.
–الآخر: هو المسلسل بعد أنْ استحوذت “نتفلكس” عليه، وصنعته هي نفسها. لا كما الأوَّل الذي اشترته فقط. وهو مُكوَّن من عدد من الأجزاء ظهر منها حتى الآن: الثالث والرابع والخامس؛ الذي تمَّ تقسيمُه إلى جزئيْنِ، عُرض الأوَّل منهما في سبتمبر 2021م، وفي انتظار جُزئه الآخر المُتوقَّع عرضُه في شهر ديسمبر من العام نفسِه.
المُسلسل يدور حول مجموعة من الأفراد مُختلفي المِهَن والأعمار -بل الجنسيَّات والأصول-، لكنَّهم جميعًا من المُجرمين المُحترفين. يجمعهم شاب يُدعَى “البروفيسور”، ويقنعهم بمشروع العُمر؛ حيث يتفِّقون على تحقيق أكبر سرقة في التاريخ، سرقة دار سكِّ العُملة العموميَّة في إسبانيا. وليس الهدف من السرقة هي النقود المطبوعة هناك، بل طبع كميَّة ضخمة من النقود الجديدة للخروج بها بعد أيَّام من الاستيلاء على الدار. وهي بالقطع دار حصينة جدًّا، والعبء الأكبر في المهمة هو كيف سيستولون على الدار؟ وكيف سيُديرون تلك العمليَّة طويلة الأمد؟ وكيف سيناورون الشرطة وأجهزتها؟ وكيف سيتعاملون مع الرهائن الذين تمَّ احتجازهم فيها؟
مكان الأحداث هو إسبانيا، والزمان هو وقتنا الحاليّ. والشخوص هُم: البروفيسور، طوكيو، برلين، دنفر، موسكو، ريو، هلسنكي، نيروبي، أوسلو. وكما نرى أسماؤهم اختاروها من أسماء العواصم والمُدُن؛ حيث الأصل أنْ يبقوا دون علاقات بينهم لضمان استمرار العمل بنجاح. وقد اشتهروا بلباسهم “البذلات الحمراء الكاملة”، وبقناع دالي الذي انتشر في العالَم انتشارًا واسعًا بعد المسلسل. وتمضي الأحداث في تعقيدات وراء تعقيدات، لنرى كيف نجح هؤلاء الشرذمة القليلون في هذه المهمة التي تبدو مستحيلة. علمًا بأنَّ جميع أفرادهم داخل دار العُملة، ويبقى “البروفيسور” وحده يُدير الوضع من الخارج، ويتفاوض مع الشرطة ومُحقِّقتها التي ستتعاون معهم فيما بعد.
المسلسل تحت إنتاج “نتفلكس”
أمَّا ما أسميتُه المسلسل الآخر؛ فهو من الجزء الثالث إلى ما بعده. ويعتمد في أحداثه على تتبُّع رحلة الأبطال بعد انتهاء السرقة الأولى، وتتحرَّك أحداثُه عندما يُقبض على “ريو” أصغر المُشاركين. لتشتعل الدراما التي أرادتها الشركة، ويبدأ “البروفيسور” في الردّ على قبض الشرطة على أحد الأعضاء بجمع البقيَّة والتحضير لسرقة جديدة ينفذها في البنك المركزيّ الإسبانيّ. والتي تمثِّل تحديًا أعظم وأشدّ من السرقة الأولى، ويتابع المسلسل أحداث هذه السرقة بتفاصيلها.
لقد تحوَّل المسلسل بشكل حاسم عندما صار مُنتَجًا من مُنتجات شركة “نتفلكس”؛ فصار مسلسلًا أيديولوجيًّا بامتياز، صار بحقٍّ أفكارًا تظهر منها أحداثٌ. وكلُّها لمْ تخرج عن دائرة الأفكار التي تُصرِّح الشركة بتبنِّيها لها. ولمْ يدفع الشركةَ إلى مُفاجئة الجمهور بإنتاج هذا الجزء الجديد من مسلسل من الصعب إنتاج جزء جديد له؛ لأنَّه من المسلسلات المُغلقة أيْ المُنتهية نهاية لا زيادة عليها. إلا أنَّ الشركة فاجأتنا -أو ذكَّرتنا- بأنَّ النقود تحيي الدراما وتأتي بالمِداد العفن الذي سيُكتب به الجزء الجديد المُشين.
لكنَّ الذي أودُّ التنبيه عليه هو الشقّ التِّجاريّ الذي أصرَّتْ عليه “نتفلكس”؛ فهي أوَّلًا وأخيرًا شركة تِجاريَّة تسعى إلى تحقيق أقصى ربح من المُنتَج الذي تصنعه. لذلك فقد عمدتْ إلى الاتفاق مع صُنَّاع العمل على إطالته إلى أقصى حدّ مُمكن. فهذا المسلسل الذي استطاع بإيقاع مُتوازن أنْ يقدِّم قصَّةً، عليه أنْ يقدِّم قصَّةً شبيهةً في حيِّز أطول، مع ضرورة كونه مُقسَّمًا على أجزاء؛ لضمان أنْ تبيع المنتج نفسه أربعَ مرَّاتٍ بدلَ أنْ تبيعه مرَّةً واحدةً.
إنَّ “نتفلكس” قد استفادتْ من الشُّهرة الضخمة الذي غزت العالَم لتسطو عليها وتستخدمها في أغراضها. فقد حشتْ المسلسل حتى أتخمتْه بالأفكار الأشدّ سُميَّة. لدرجة كان فارق إيقاع الأحداث بين المُسلسلَيْنِ هكذا: لحظة دخول دار العُملة كانت في الدقائق الأولى للحلقة الأولى من الجزء الأوَّل، أمَّا في المسلسل الآخر فمُحاولات السيطرة الأوليَّة على بنك إسبانيا امتدتْ للحلقة الخامسة! فانظر إلى فارق الإيقاعَيْنِ. وسبب ذلك كمّ الأفكار الذي أُفرِغَ له الكثير من المَشاهد وطُوِّع له العملُ كاملًا.
لقد صار المسلسل أسوأ في كافة عناصره الدراميَّة والفنيَّة. وكلُّ المحاولات التي ضُخَّتْ فيه لجذب الانتباه للحالة نفسها التي صنعها المسلسل الأوَّل كانت ضعيفةً جدًّا؛ كمُنشِّطات لعواطف الاستقبال عند المُشاهدين. بل إنَّ المُمثلين أنفسهم بذلوا جهودًا ضخمةً لإيهام المُشاهدين وإدخالهم في الحالة نفسها؛ لكنْ مَن قال إنَّ الطلقة تُسمَعُ مرَّتَيْن؟! .. لذا بدا المسلسل تائهًا في حقيقة الأمر؛ وتحوَّل من عمل دراميّ إلى إعلان للأفكار مبذول فيه الأموال الجمَّة.
كيف ضمِنَ المسلسل تعاطُفنا؟
تعدَّدتْ الوسائل التي بثَّها التأليف في العمل لضمان تعاطُف المُشاهدين مع المسلسل. فإنَّ بناية هذا المسلسل -كما أسلفتُ- على التعاطُف، فهو أهمُّ عنصر شعوريّ فيه، بتصريح “البروفيسور” نفسه مرَّاتٍ كثيرةْ. إنَّهم يُمرِّرون لنا ما يريدون دون ستار كعادة “العمل الفنّيّ”، بل يصرِّحون به تصريحًا على ألسنتهم. ولا ننسى أنَّ المسلسل يريد إيجادك دومًا أمام شاشته ليربح لا ليقدِّم لك معنى أو فلسفة فقط، فهذه قواعد عالَم المال.
أوَّل وسائل ضمان التعاطُف هو الارتكاز حول شعور نبيل هو “المقاومة”. فقد أصرَّ المسلسل أنْ ينزع عن أبطاله صفة “اللصوص” ليُلبسهم رداء “المُقاومين” لظُلم الحكومات والنظام البنكيّ وظروف المجتمع. تقول “طوكيو”: ارتكزت حياة البروفسير حول محور واحد؛ هو “المقاومة”. ومَن شاهَدَ المسلسل يذكر هذا المشهد الشعوريّ بين شخصيتَيْ “البروفيسور” و”برلين” في نهاية الجزء الأول؛ حيث أُدخلتْ الأغنية الشهيرة “بيلَّا تشاو” للمرَّة الأولى بالكلمات لا باللَّحن. والمشهد قادر حقًّا على تحريك هذا الشعور، وإلباسهم هذا الرداء.
ومن خلال تقديم أبطال في حقيقة الأمر مجرمون في حقّ المجتمع، على أنَّهم من ضحايا المجتمع. وكذلك تقديم أبطال يشبهون الناس؛ خاصةً فئة الشباب في مَلبسهم ومَظهرهم، يُظهِرون الأحلام البريئة الحمقاء نفسها التي تلاطف أذهان الشباب دومًا عن امتلاك النقود وتأمين المستقبل والعيش في حياة الرفاه. وهذه المخاطبة للجزء الأهوج في النفس البشرية الذي في الغالب يصاحب النفوس التي لمْ تنضج -ولم أقلْ الشباب؛ فكَمْ من شابٍ ناضج، وكَمْ من شيخ لمْ يُزايل سذاجة الطفولة- تثير شهوة الكثيرين.
صناعة ظروف صعبة لأبطاله مثل ظروف المرض القهريّ لشخصية “برلين” -أحد ألمع الشخوص وأكثرهم جاذبيَّةً، خاصةً في المسلسل الأصليّ-. ومثل قصَّة “البروفيسور” نفسها الذي يُمجِّد أباه عن طريق تنفيذ مشروع عُمره في السرقة، وظروف نشأة “البروفيسور” طفلًا مريضًا.
هذه التمهيدات تضافرت مع الكثير جدًّا من العلاقات الدراميَّة بين الأبطال؛ من الجانب الواحد (لصوص-لصوص، شرطة-شرطة)، أو من تلاقي الجانبَيْن (شرطة-لصوص).
الارتكاز حول مواقف تُؤجِّج شعور الإثارة، وتصنع التشويق في نفوس المتابعين؛ مثل العمليَّة الكُلِّيَّة نفسها -عمليَّة السرقة الضخمة في كِلا المسلسلَيْنِ-، والكثير من المواقف الجانبيَّة والجُزئيَّة (انحناءات الأحداث بالتعبير الفنيّ). وهذه المواقف الجزئيَّة تضمن مُتابعة المُشاهِد المُكثَّفة، في ظلِّ حوارات تضمن تمرير الأفكار له. ومن هذه الأحداث الجزئيَّة تحوُّل مواقف قيادة العصابة بين “طوكيو” وبين “برلين” في المسلسل الأوَّل.
كذلك هذا الشعور أو إشعار المُشاهد في حقيقة الأمر بأنَّه أمام أسطورة تنجح دومًا “البروفيسور”، وأنَّ كلَّ التهديدات الصريحة المُباشرة التي تتعرَّض لها العصابة، والتي تتطوَّر أمامنا، ونشعر فيها مع كلّ مَشهد إضافيّ بأنَّ الحلقة قد ضاقت على أبطالنا كلَّ الضيق وأنَّهم لا بُدَّ مُحطَّمون مَهزومون. ثُمَّ نكتشف في النهاية أنَّها تدبير منه وأنَّ العصابة كانت مكتشفة الأمر بل وصاحبة تدبيره. هذا هو عنصر جذب أكيد يضمن إعجاب المُشاهدين ورضاهم. رغم أنَّ المسلسل استخدم هذا إلى درجة من الابتذال والتزيُّد الشديد.
كلُّ هذه الأمور كانتْ ضمانات للتعاطُف معنويَّة ودراميَّة؛ وكلاهُما قريب من بعضهما جدًّا. وهناك عوامل كثيرة ليس مكانها هنا هي الضمانات الفنيَّة والتقنيَّة لصناعة هذا التعاطُف، والتي تتلخَّص في الصورة وصناعتها، والموسيقى، وصوت الراوي المُصاحِب “طوكيو”. وهي أمور فنيَّة يهمُّنا هنا معرفة مدى تأثيرها، أمَّا الكلام عن تفصيل تأثيرها فسيَحيد بنا عن هدف المقال.
دعم أبطاله للكيان الصُّهيونيّ
قبل الدخول في المعاني التي تضمنها المسلسل؛ أنبِّه إلى أنَّ مُمثِّلي هذا المسلسل قد استضافتهم إحدى قنوات “الكيان الصُّهيونيّ“، وأشادوا في اللقاء بالكيان وببعض أعماله الدراميَّة. ولعلَّ أحدًا يدَّعي أنَّ هذا تصرُّف شخصيّ لا ندخله في المسلسل. والردُّ لا يحتاج إلى جُهد: العمل الفنيّ عمل فكريّ وقِيَميّ، ولا ينفكُّ أبدًا عن صانعيه، بل الأصل في العمل الفنيّ أنَّه يُعبِّر عن صانعه. ومن هنا نسأل: هل يجوز أنْ نلقي وعينا في بئر كهذه البئر المُعتمة بالتحالُف مع أعدى أعدائنا؟! وهل ما زال فكرة “المسلسل المُسلِّي” مطروحةً في هذا الوضع الشائن؟!
ليس هذا وحسب الذي جاء عنَّا صراحةً؛ بل جاء ذكر المسلمين صراحةً في المسلسل تحت اسم “الجهاديِّين” على لسان “برلين” في المسلسل الأوَّل أثناء اتفاقهم على مَن يمثِّل العصابة أثناء لقاء تلفازيّ، وبالقطع كان يقصد به الازدراء. وفي المسلسل الآخر قالتْ “نيروبي”: “لقد ساويتَ بيننا وبين مُجرمي طالبان”! مُوجِّهةً اللوم إلى “باليرمو” عندما هاجم شرطيًّا بالعصا.. فيا للقلوب الرقيقة لعصابتنا!
بعض ما يطلعنا عليه المسلسل
وخروجًا من السياق كلّه؛ أرى أنَّ المسلسل قد أرانا بعضًا من الصورة الزائفة التي ترسَّختْ لدينا نحو الغرب. منها ما عُرضَ في الحلقة الأولى من المسلسل الأوَّل في شأن مشكلة طالما سمعناها لدينا، بل يُعاني غالبُنا منها؛ وهي ضعف الرواتب وانخفاض مستوى المعيشة. فتقول “طوكيو” عن دوريَّة الشرطة التي تحرس سيَّارة أوراق العُملة، والتي دخلوا الدار من خلالها: “لا تتوقَّعْ أنَّ شرطيًّا سيُضحِّي بحياته مُقابل ألف وسِتِّمائة يورو يتقاضاها، ولو كانت في هذه العربات بناتهُم لما فتحوها مهما كان الثمن”. يأتي هذا في الوقت الذي -من عقود طويلة- يُضحك على الشباب العربيّ بأنَّ الغرب يعيش في النعيم، وأنَّ سبيل النَّجاة أنْ يعيش هناك.
الأمر الثاني هو الانتهاكات بالغة الضراوة للشرطة هناك، والتاريخ القذر والبشع الذي ترسَّبَ من مُمارساتها تجاه المواطنين؛ خاصَّةً أجهزة المُخابرات -وبعض الأجهزة التي تقابل “أمن الدولة” في دولنا- حيث كانت على مستوى الانحطاط نفسه الذي نراه بل أفظع. وهذا على عكس ما يُروَّج دومًا من أنَّ الغرب مهد حقوق الإنسان، بل تمَّ الاعتماد في المسلسل الآخر على فكرة فضائح الأنظمة الأوربيَّة التي حصل عليها السارقون عندما اقتحموا خزنة بنك إسبانيا الحصين.
الأمر الثالث هو التفاضُل بين الرهائن الذي ظهر في المسلسل الأوَّل؛ حيث كان همُّ الشرطة والأجهزة كافَّةً إنقاذَ الفتاة ابنة سفير “المملكة المُتحدة”. وكما يحدث في بلادنا بدقَّة رأيناه هناك؛ فالجميع مُستعدٌّ وقابل أنْ يُقتَل الإسبانيّ لكنَّهم يرفضون أنْ تموت البريطانيَّة خاصةً ولها مقام رفيع. كما تطالعنا ظاهرة حفاظ السلطات على صورتها أوَّلًا وأخيرًا؛ فليس الأهمُّ هو أداء الواجب، بل الأهمُّ هو الظهور بمظهر أداء الواجب، والتقاط صورة الانتصار، حتى إذا كان زائفًا بل محضَ حُلم.
الأمر الرابع هو الفساد الضخم الذي ينخر في بنية الحكومات الأوربيَّة؛ تلك التي يتشدَّق بها مُثقَّفونا ليلَ نهارَ، ضاربينَ بها الأمثال في النجاح والطهارة والشفافيَّة. ولعلَّ بنية المُسلسلَيْنِ اعتمدتْ في أساسها على هذه الفكرة؛ سواءً في مسألة طبع النقود بغضّ النظر عن الغطاء الذهبيّ، واتهام الحكومات بالخداع السافر، بل بنقض فكرة “العقد الاجتماعيّ” الذي قامت عليه بينها وبين المواطنين. أو في مسألة إخفاء الحقائق عن الشعوب في المسلسل الآخر.
يُتبَع..
المصدر: موقع تبيان