في أثناء حقبة سقوط الاتحاد السوفيتي شهدت المنطقة بروز المدِّ الإسلامي، وانتشاره بشكل لافت، بحيث بات قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى السلطة. وقد مثلت تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر مؤشرا قويا لما بلغته الصحوة الإسلامية في بلد رضخ لاستعمار دام أكثر من 130 عاما، وعزل عن هويته بعد الاستقلال لقرابة 40 عاما. فقد نادت الجبهة بالعودة إلى الإسلام باعتباره السبيل الوحيد للإصلاح، والقادر على إنقاذ الجزائر مما تعانيه من أزمات اجتماعية، واقتصادية، واستعمار فكري وثقافي، والمؤهل للحفاظ على شخصية الشعب الجزائري المسلم.
ولم يكن لجبهة الإنقاذ أن تظهر لولا جهود سابقة من الدعوة والتعليم والعمل التربوي في أوساط المجتمع بكل فئاته وشرائحه. كانت هذه الجهود قد انتظمت في مؤسسات وجمعيات وهيئات مختلفة في المدن الرئيسية وفي الأرياف. كما أن العمل الخيري والاجتماعي كان حاضرا بقوة في عقد التسعينات (1980م- 1990م). وهذا ما أكسب الجبهة في الانتخابات البلدية -عام 1990م- فوزًا كبيرًا. فقد فازت في 856 بلدية.
لم يتخيل قادة السلطة في الجزائر –من الحزب الحاكم الذي تمثله “جبهة التحرير”- أن يبلغ الحال بالإسلاميين هذا المبلغ، فشعرت بالخطر، وبدأت حكومة الجزائر تضع العراقيل في طريق تقدم الجبهة. فأصدرت نظامًا جديدًا للانتخابات في محاولة لاستباق الانتخابات البرلمانية، غير أنها فوجئت بفوز جبهة الإنقاذ مجددا بأغلبية مقاعد البرلمان!
تحولت الجزائر من “عرس ديمقراطي”، كما يحلو للبعض تسميته، حيث شارك الشعب في انتخاب ممثليه في البلديات وفي البرلمان بصورة قانونية ودون تجاوزات، وبعيدا عن الانقلابات العسكرية والعنف الدموي، إلى “مأتم انقلابي”. فقد استقال رئيس الجزائر فجأة وتسلم الجيش مقاليد السلطة وأعلنت الأحكام العرفية، وفتحت السجون والمعتقلات والانتهاكات، بعد أن أبطلت النتائج ورفض العمل بالدستور!
لم يكن ما جرى في الجزائر مستقلا عن القرار الغربي، وفي فرنسا تحديدا. فقد مثل نجاح جبهة الإنقاذ بداية للخروج من التبعية والاستعمار غير المباشر. لكن هذا كلَّف الجزائر صراعا داخليا مريرا، سعت فيه السلطة العسكرية لاصطناع “الإرهاب” وشيطنة التيار الإسلامي من خلال سياسة التوحش التي انتهجت في معاملته. وذهب ضحية هذا الإجرام مئات الآلاف من الأبرياء والمدنيين، قضى معظمهم في مجازر نسبت إلى الإسلاميين أو في مواجهات مع العسكر تحت ذريعة مواجهة “الإرهاب”!
وقد جاء كتاب “الحرب القذرة”، لحبيب سويدية[1]، الضابط السابق في القوات الخاصة بالجيش الجزائري (1992م- 2000م)، وكتاب “الإسلاميون والعسكر.. سنوات الدم في الجزائر”، لمحمد سمراوي[2]، الضابط السابق في المخابرات الجزائرية، وكتاب “جزائر الجنرالات”، لإلياس العريبي[3]، لتكشف الغطاء عن “القتلة الحقيقيين”، من جنرالات العسكر والأمن، الذين أسسوا حركات مسلحة في الجزائر تحت صيغة إسلامية لأجل صناعة العنف، وإبقاء فوضى الاقتتال، لتتيح لهم سلطة الاستبداد وإدارة الدولة بدون مساءلة من أحد. وتحكي هذه الكتب عن دور المخابرات الجزائرية في القتل وصناعة أمراء الموت من خلال ضباط تسربوا إلى الجماعات المسلحة وقادوها لتنفيذ عمليات العنف والقتل ضد الأبرياء، وأحيانا لتصفية المعارضين السياسيين للسلطة والناشطين من إعلاميين وحقوقيين ورجال فكر وثقافة!
هذا “الإرهاب” المصطنع والمفتعل هو اليوم ما تسعى أنظمة مختلفة عربية وإقليمية لإيجاده لتمسك بخيوط المؤامرة بيدها، فتفرض وجودها داخليا وعلى صعيد التعامل الدولي، وتقضي على مخالفيها ومعارضيها بيد من حديد تحت غطاء “محاربة الإرهاب”.
لقد قادت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا عقب أحداث 11 سبتمبر 2001م حربا كونية ضد من وصفتهم القيادة الأمريكية بـ”الإرهابيين”، دون أدنى حكم قضائي أو تخويل أممي، وإنما لمجرد وقوع حادث أمني ذهب ضحيته بحسب الإدارة الأمريكية قرابة (4000) مواطن أمريكي. وعوضا عن أن تستقيل قيادات الأجهزة الأمنية وحكومة البيت الأبيض على سبيل الاعتذار عن هذا الاختراق الأمني ذهبت في حرب خارجية ذهب ضحيتها في أفغانستان ملايين البشر! وما زال القضاء الأمريكي لم يقل كلمته، كما أن كثيرا من الخبراء والمهتمين بدأوا بعد أكثر من 15 عاما يشككون في الرواية الرسمية لأحداث 11 سبتمبر!
إذن فـ”الإرهاب” مبرر مناسب لخوض حرب واسعة ترتفع فيها التكاليف ويظل فيها الخصم شبحا غير محدود المعالم. ويكون من المبرر حينها استخدام القوة بل الإفراط في استخدامها، وممارسة القتل والتعذيب دون أي مساءلة قانونية، ورفع نفقات التسلح والأمن على حساب النفقات المدنية، وابتزاز الحلفاء ومكايدة الخصوم برفع عصى غليظة على رؤوسهم.
لقد ادعت الإدارة الأمريكية أن نظام صدام حسين في العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، فانتهى العراق لدولة مدمرة بشكل شامل، ولم يثبت حتى الآن أن نظام صدام كان يمتلك أسلحة دمار شامل، بل ما ثبت هو أن ما جرى كان كذبة كبرى!
إذن ستبقى الحرب القذرة التي تتذرع بالكذب، وتختلق الوقائع، وتصنع الإجرام لتجد مبرر الإجرام المقابل، هي أبرز سمات المرحلة المعاصرة من التاريخ. وسيذكر التاريخ أن بلدانا عربية كالجزائر والعراق وسوريا واليمن -وربما بلدانا أخرى قادمة- دُمِّرت تحت يافطة “محاربة الإرهاب”! وأن الأنظمة العربية دمغت شعوبها بهذه الصفة، وتركت للاستعمار الأجنبي الباب مفتوحا للدخول، وانتهاك سيادة دولها، واحتلال بلدانها، لتبقى هي!
[1] ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق- سوريا، ط1/2003م.
[2] تنوير للنشر والإعلام، القاهرة- مصر، ط1/1436هـ- 2015م.
[3] دار ماكسميولو، فرنسا، ط1/2007م.
(المصدر: مركز تأصيل للدراسات والبحوث)