مقالاتمقالات مختارة

دعوى عناية المحدثين بنقد الحديث سنداً لا متناً (شواهد النقد ودلائل النقص)

دعوى عناية المحدثين بنقد الحديث سنداً لا متناً (شواهد النقد ودلائل النقص)

بقلم د. منصور محمد أحمد يوسف

إنَّ المتأمل في المنهج النَّقدي عند المحَدِّثين يدرك أنه يستمد أصوله من القرآن الكريم، ويضرب بجذوره إلى آياته، وهو من مظاهر الإعجاز لهذا الدِّين، وقد استقى النَّبي صلى الله عليه وسلم  من ذلك المنهج، وعَلَّمَ أصحابه، وسار على ذلك المنهج الصَّحابة الكرام ومَنْ تبعهم من أئمة نقد الحديث.

قال الشَّيخ الـمُعلَّمي اليماني: «أوَّل مَنْ تكلَّم في أحوال الرِّجال القرآن، ثم النَّبي، ثم الصَّحابة»[1].

وقال السَّخاوي: «فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالاً نُقَّاداً تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه، وعلله، ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللِّين»[2].

فالمنهج النَّقدي عند المحَدِّثين يُعَدُّ مفخرةً من مفاخر المسلمين من جهة السَّبق أولاً، ومن جهة الشُّمولية والموضوعية والدِّقة ثانياً، وهذا ما شهد به المنْصِفون من غير المسلمين؛ فقد قال مرجليوث: «ليفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم»[3]. وقديماً قيل: «والفضل ما شهدت به الأعداء».

وقال الدكتور محمد بهاء الدين: «فالطَّريقة التي سلكها العلماء في التثبت من صحة الحديث سنداً ومتناً، وما ابتدعوا لأجل ذلك من علوم كعلم أصول الحديث وعلم الجرح والتعديل، وغيرهما من العلوم؛ طريقةٌ أشاد بها كثير من الغربيين في تحقيق الراوية أمثال: باسورث سميث (عضو كلية التثليث في أكسفورد)، وكارليل، وبرناردشو، والدكتور سبرنكركان… فقد أعلن هؤلاء إعجابهم بالطريقة التي تم بها جَمْع الأحاديث النبوية، وبالعلم الخاص بذلك عند علماء المسلمين، وهو علم الجرح والتعديل»[4].

كما نشأ نقد المتون في مرحلة متقدمة في عهد الصَّحابة رضوان الله عليهم، وقد اشتهر بذلك المكْثِرون منهم وعلى رأسـهِم السَّيدة عائشـة رضي الله عنها التي هيَّأها الله عز وجل لأن تجمع كثيراً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فقد استدركت السَّيدة عائشة رضي الله عنها عَلَى بعض الصحابة بعض الأحاديث التي جمعها بدر الدين الزَّرْكشي[5] في جزء سمَّاه (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة عَلَى الصَّحابة)[6]، وهو كتاب فريد في بابه؛ لأن موضوعه استدراكات السَّيدة عائشة عَلَى الصَّحابة، وهو يؤسس من خلالها لقواعد توثيق الحديث النَّبوي الشَّريف.

فقد عرضت السَّيدة عائشة رضي الله عنها ما رواه الصَّحابة على الأصول الثابتة والمشاهَدة من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فظهر من خلال ذلك مَنْ أدَّى منهم الحديث أداءً مُتْقَـناً كما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهر من اعترى روايتَه بعضُ الخطأ أو الوهم، أو عارض روايتَه ما شاهدتْه أو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن هنا نشأت قواعد النَّقد الخارجي والدَّاخلي للحديث النَّبوي الشَّريف.

ففي مجال النَّقد الدَّاخلي عرضتْ الحديث الشَّريف على القرآن الكريم، وعلى السُّنَّة النَّبوية المعروفة والمشاهَدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى الأصول الإسلامية. وفي مجال النَّقد الخارجي بيَّنتْ خطأ بعض الرواة بما أسهم في اشتراط الضَّبط في تلقِّي الحديث الشَّريف وأدائه.

ولا يَظُن ظانٌّ أنَّ ما أبدته السَّيدة عائشة رضي الله عنها من استدراكات كان غير قابل للمناقشة، أو أنَّها أتتْ فيه بالقول الفَصْل؛ بل كثير منه اجتهادات تقابلها وجهات نظر أخرى تُقِرُّ ما عليه الآخرون، أو تكون الرِّوايات المسْتَدْرِكة مَنْسُوخة، وصَدَرَ ناسخُها دون علم بعض الصَّحابة الذين يروونها بهذا النَّاسخ، أو يكون هذا وذاك من باب العام والخاصِّ، أو المطلـق والمقيَّد، بحيث يمكن الجمع بين هذه الروايات التي تبدو متعارضة وهي في الحقيقة ليست كذلك.

لكن المفيد غاية الفائدة أنَّ السَّيدة عائشة رضي الله عنها بهذه الاستدراكات قد أرست قواعد في النَّقد الخارجي والدَّاخلي للحديث النَّبوي الشَّريف، وأصبحت تلك القواعد – فيما بَعْدُ – أدواتٍ لتوثيق السُّنَّة المشرَّفة، وساعدت في إبعاد التَّحريف والزَّيف والخطأ عنها.

ولم تكن السَّيدة عائشة رضي الله عنها الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق وحدها في هذا المجال؛ وإنما كان هناك من الصَّحابة من حَذَا حذوها[7]. وممِنْ نُقِلَ عنه من الصَّحابة رضي الله عنهم أنَّه نقد المتون أيضاً عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وابن عباس، وعَلَيٌّ رضي الله عنهم أجمعين.

ثم كانت هذه الطَّريقة هي طريقة مَنْ بعدهم مِنَ التَّابعين، قال الرَّبِيْعُ بنُ خُثَيْم[8]: «إنَّ من الحديث حديثاً له ضوء كضوء النهار نعرفه به، وإنَّ من الحديث حديثاً له ظُلْمة كظُلْمة الليل نعرفه بها»[9].

وقد استخدم بعض المحَدِّثين هذه الطَّريقة في نقد الأخبار دون النَّظر إلى أسانيدها، منهم الخطيبُ البغدادي؛ ففي عصره كان رئيس الرؤساء قد تقدَّم إلى الخطباء والوعاظ أن لا يرووا حديثاً حتى يعرضوه عَلَى الخطيب، فما صَحَّحَهُ أَوْرَدُوهُ، وما رَدَّه لم يذكروه، وأظهر بعض اليهود كتاباً ادَّعى أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة الصَّحابة، وذكروا أن خطَّ عَلَيٍّ رضي الله عنه فيه، وحُمِل الكتاب إلى رئيس الرُّؤساء، فعرضه عَلَى الخَطيب، فتأمله، وقال: هذا مزوَّرٌ، قيل: من أين قلت؟ قال: فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان وهو أسلم عام الفتح، وفُتحت خيبر سنة سبع، وفيه شهادة سعد بن معاذ ومات يوم بني قريظة قبل خيبر بسنتين[10]. وقد أفاض ابن قيَّم الجوزية في بيان وجوه كَذِب ذلك الكتاب[11].

ومع كلِّ ما سبق بيانه فقد وجدنا في عصرنا الحاضر من ادَّعى أن المحَدِّثين اهتمـوا بنقد سند الحديث وأهملـوا نقد المتن؛ فمن هؤلاء الكاتب أحمد أمين[12] في كتبه (فجر الإسلام)، و (ضُحى الإسلام)، و (ظهر الإسلام) حيث قال: «وقد وضع العلماء للجرح والتعديل قواعد ليس هنا محل ذكرها، ولكنهم – والحق يقال – عُنوا بنقد الإسناد أكثر مما عُنوا بنقد المتن، فقلَّ أن تظفر بنقد من ناحية أن ما نُسِب إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم  لا يتفق والظُّروف التي قيلت فيه، أو أنَّ الحوادث التَّاريخية الثَّابتة تُناقضه، أو أنَّ عبارة الحديث نوع من التَّعبير الفلسفي يُخالـف المألوف في تعبير النَّبي، أو أنَّ الحديث أشبه في شروطه وقيوده بمتون الفقه وهكذا، ولم نظفر منهم في هذا الباب بعُشْر معشار ما عُنوا به من جرح الرجال وتعديلهم»[13].

وقال أيضاً: «وفي الحقِّ، إنَّ المحَدِّثين عُنوا عناية بالنَّقد الخارجي، ولم يُعنوا هذه العناية بالنَّقد الدَّاخلي، فقد بلغوا الغاية في نقد الحديث من ناحية رواته جَرْحاً وتعديلاً… ولكنَّهم لم يتوسعوا كثيراً في النَّقد الدَّاخلي، فلم يعرِضوا لمتن الحديث: هل ينطبق على الواقع أم لا؟»[14].

وقال أيضاً في معرض حديثه عن المحَدِّثين: «كما يُؤخذ عليهم أنَّهم عُنُوا بالسَّند أكثر من عنايتهم بالمتن: فقد يكون السَّند مُدَلَّساً تدليساً مُتْقَناً فيقبلونه، مع أنَّ العقل والواقع يَأبيانه… بل قد يَعُدُّه بعض المحَدِّثين صحيحاً؛ لأنهم لم يجدوا فيه جَرْحاً، ولم يسلم البخاري، ولا مسلم من ذلك، وربما لو امتحن الحديث بمحكِّ أصول الإسلام، لم يتفق معها، وإن صحَّ سنده»[15].

وفي الحقيقة: فإنَّ دعوى أحمد أمين لم تكن جديدةً بل سبقه بعض المستشرقين، منهم: شاخت، وجولد زيهر، وكاتياني، وغاستون ويت، وتلك الدعوى فيها ظلمٌ بيِّنٌ للمُحَدِّثين، وبُعْدٌ عن الحقيقة؛ لأن مَنْ دَرَسَ مناهج المحَدِّثين وعرف طريقتهـم علـم أنَّهم عُنوا بالأسانيد والمتون على حدٍّ سواء.

ومن جانب آخر، فإنَّ عملية النَّقد – في أهدافها وفي جملتها – إنَّما تهدف لخدمة المتون والأسانيد، وهي في النهاية خدمةٌ للمتون خاصة، وما الأسانيد إلَّا وسيلة.

ويمكن الرَّدِّ عَلَى دعوى أحمد أمين ومَنْ سبقه مِن المستشرقين في نقاط ثلاث:

أولاً: اهتمام علم مصطلح الحديث بالرَّاوي والمروي.

ثانياً: لا تلازم بين صحة الإسناد وصحة المتن.

ثالثاً: اعتناء المحَدِّثين بالإسناد ليس لذاته بل لخدمة المتن.

أولاً: اهتمام علم مصطلح الحديث بالرَّاوي والمروي:

باستعراض مباحث مصطلح الحديث يتبين لنـا: أنَّ العلماء عُنوا بالأسانيد كما عُنوا بالمتون؛ ولذلك قالوا: إنَّ مصطلح الحديث إنما هو بحثٌ في الأصول والقواعد التي تُبَيِّن حال الراوي والمـَرْوي (والمـَـرْوي هي المتون)، وهكذا كان لعملية النَّقد شِقَّان، وإن كان الهدف – كما سبق – في النِّهاية هو المتن.

ويظهر لنا جليّاً أنَّ اهتمام المحَدِّثين مُوَّزعٌ بدرجةٍ تكاد تكون متساوية بين الأسانيد وبين المتون؛ فمباحث علم مصطلح الحديث تدور حول الإسناد والمتن من حيث القبولُ والرَّدُّ؛ ففي حالة القبول يدرسون الصحيح والحسن، وفي حالة الرَّدِّ يدرسون الضعيف والموضوع، ونكاد نلمح في جميع مصطلحاتهم تقسيماً ثنائيّاً مُؤَلَّفاً من السَّند والمتن، وأهم ما في هذا الشَّأن: أنَّ المتن يُذْكر من تقسيمهم كالسَّند.

ففي بحث الصَّحيح والحسن قضيةٌ مشتركةٌ خلاصتها: أن الصِّحة قد تتناول السَّند والمتن معاً، أو السَّند دون المتن، أو المتن دون السَّند، ومثلها الحَسَن في ذلك، فلا يُحكم بصحة حديث ولا حُسْنِه إطلاقاً، بل يُبَيَّنُ نوع صحته أو حسنه؛ هل وقع في الإسناد أو المتن؟ فما كلُّ ما صحَّ سنداً صحَّ متناً.

والحَسَن لذاته حين يرقى إلى درجة الصَّحيح لغيره لا يُنظر فيه إلى كثرة طرقه وأسانيده فقط، بل يلاحظ فيه – منذ الخطوة الأولى – أنَّه كالصَّحيح لذاته مِنْ تجرده مِنْ كلِّ شُذوذٍ وعلةٍ، وفي الشُّذوذ تفردٌّ ومخالفةٌ كثيراً ما يكـونان في المتن؛ لذلك قالوا: «لا يجيئك بالحديثِ الشاذِّ إلا الرجل الشَّاذ»؛ ولذلك كرهوا روايةَ المناكير، وفي العلة ضربٌ من النَّقد الذَّاتي يتناول المتون بالتَّضعيف من خلال توهين الرُّواة المدرك بنوع من الإلهام والتَّعمق في الفهم لا بحفظ الأسماء والأسانيد.

وفي أكثر أنواع الضَّعيف تتَّضِحُ هذه الثُّنائية، يستوي فيها ما كان خالصاً للضعف، وما كان مُشْتركاً بين الصَّحيح والحسن والضعيف. فمرسَل الصَّحابة مقبولٌ رغم انقطاع السَّند؛ لأن المتن الذي يحكيه الصَّحابة لا يُعقل أن يكون مُخْترعاً، فإذا كان هؤلاء الصَّحابة ممن يتلقون الإسرائيليات تشدَّد العلماء؛ لأن متونهم قد تخالف متون الأحاديث النَّبـوية، ومن هنا تَحَفَّظَ النُّقادُ في تفسير الصَّحابة، فلم يُطْلقوا القول بأنَّ له حكم المرفوع؛ مخافة تأثر بعضهم بمُسْلِمَةِ أهل الكتاب[16].

ومع اعترافهم بأنَّ التَّعليل أكثر ما يتطرَّق إلى الإسناد لم ينفوا تعليل المتن، فقالوا: لا يُطْلقُ الحكم بصحة حديثٍ مَّا لجواز أن يكون فيه علة في متنه، ومع أنَّ الاضطراب أكثر ما يقع في الإسناد، لم يَفُتِ النُّقاد أن يُنَبِّهوا على وقوعه في المتن أيضاً، وجاؤوا على ذلك بشواهد، وقَسَّموا المقلوب إلى قسمين: مقلوب متناً، ومقلوب إسناداً.

وتشددهم في أداء الحديث باللفظ أكثر ما يتَّجه إلى المتون، حتى لا يكذب النَّاسُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولا سيما إذا لحن الرَّاوي زاعماً أن خطأه من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد عدُّوه مُتعمداً للكذب، جديراً بأن يتبوأ مقعده من النار.

هذا، وبعض مباحث القسم المشترك بين الصَّحيح والحسن والضعيف كالموقوف والمرفوع إنما يُنظر فيها إلى حال المتن كالمرفوع مثلاً، فإنَّ للمرفوع إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم  نوراً كنور النَّهار يعرفه الذَّوق السَّليم، فلا يخفى على أحدٍ شيءٌ ممَّا يحمل عليه أو يوضع فيه؛ لأنَّ للموضوع المختلَق ظلمةٌ كظلمة الليل تُنكره البصيرة النَّــيِّرة.

وكثير من مباحث هذا القسم المشترك يتناول المتون بالدَّرجة الأولى، وإن كانت له صور في الأسانيد، كالمدْرَج مثلاً، فإنَّ مُدْرَج الإسناد يرجع في الحقيقة إلى المتن وكالمصُحَّف أيضاً، فإنَّه أكثـر ما يقع في المتون، ومصطلحا الفَرْد والغـريب يُخَيَّل إلى الباحث أنَّهما ليسا أكثر من بحثين خالصين للإسناد، يجمعهما رابط مشترك هو التَّفَرُّد، ولكن النَّظرة الفاحصة المـدَقِّقة ترى القضيةَ ألصقَ بالمتن منها بالسَّند، فكما أنكروا روايةَ الشَّواذِّ والمناكيرِ أنكروا الولوع بالأفراد والغرائب، وفَرُّوا من حُسْن هذه الغرائب؛ لمخالفتها متون الرِّوايات العزيزة والمشهورة والمستفيضة.

أمَّا هذه الأنواع  الثلاث الأخيرة – أي: الرِّوايات العزيزة والمشهورة والمستفيضة – فلم تكن غايةُ النُّقاد من مباحثها سوى تقوية الأحاديث الأفراد والغرائب بمتون تشهد لها وتُتابعها، وليس تقويتها بأسانيد متعددة ورجال كثيرين، فكانت مقاييسهم فيها قِيَمِيَّة؛ يعني: تُبيِّنُ قيمة المتن لا كِمِّية عددية؛ أي: تُبَيِّن تعدد الأسانيد.

ولعلنا – على هذا الأسـاس من العناية الخاصة بالمتون – نفهم تشـدد المحَدِّثين في الأصول أكثر من تَشَدُّدهم في المتابعات والشَّواهد؛ فالأصول ينبغي لها من الثِّقة بمتونها أكثر مما ينبغي للفروع المقوية للفظها أو المعزِّزة لمعناها، ونفهم أيضاً سرَّ رفضهم متروكَ الحديث عند الاعتبـار؛ لأنَّ من صفات المتروك عدم الضَّبط، فحفظ المتون لا يُواتِيه مهما يبذل من الجهد فيه، فكان أن فرَّقوا بين ما هو صالح الاعتبار وما هو غير صالح.

وإذا تذكرنا أنَّ الشَّاهد عندهم قسمان: لفظيٌّ ومعنويٌّ، وأنَّ اللفظي يتناول متن الحديث نصّـاً، وأنَّ المعنوي يُرَدُّ إليه؛ لأنَّه تقويةٌ للمتن نفسه بما يقارب لفظه. وأضفنا إلى ذلك أنَّ في المتابعة أيضاً مُقاربةٌ للفظ: أدركنا ما للمتن من قيمة في جميع هذه المصطلحات.

على أنَّه ما يزال بعض المستشرقين وتلامذتهم المخدوعين بعلمهم (الغزير) يرتكبون حماقةً كُلَّمَا عرضوا للحديث النَّبوي؛ إذ يفصلون بين السَّند والمتن مثلما يُفْصَلُ بين خصمين لا يلتقيان، أو ضُرَّتين لا تجتمعان.

فمقاييس المحَدِّثين في السَّند لا تُفْصَلُ عن مقاييسهم في المتن إلا على سبيل التَّوضيح والتَّبويب والتَّقسيم، وإلا فالغالب على السَّند الصَّحيح أن ينتهي بالمتن الصَّحيح، والغالب على المتن المعقول المنطقي الذي لا يخالف الحِسَّ أن يرد عن طريق سند صحيح، وإذن فكلُّ أبحاث النُّقاد في رجال الإسناد، وفي شروط الرُّواة، إنَّما تُؤدِّي بكل بساطة إلى النَّتيجة التي لا مَفَرَّ منها: وهي نقد متون الحديث؛ لمعرفة درجتها من الصِّحة والحُسن والضعف[17].

ثانياً: لا تلازم بين صحة الإسناد وصحة المتن:

إنما تثبت هذه الدَّعوى لو كان المحَدِّثون إذا حكموا بصحة الإسناد حكموا بصحة المتن تبعاً لذلك، وليس الأمر عندهم كذلك؛ فقد ثبت عنهم قديماً وحديثاً أن صحة الإسناد لا يترتب عليها صحة المتن، فقد يصحُّ الإسناد ولا يصحُّ المتن؛ لذا قعَّد المحَدِّثون: «ليس كلُّ ما صَحَّ سَنَدُه صَحَّ متنه»، وأكَّدوا عليها وعملوا بها في نقد الحديث من جهة متنه، فلم يُلْههم عن صحة الإسناد غرابة المتن أو شذوذه ونكارته[18].

وهذه طائفة من أقوالهم تؤكد على تلك القاعدة: قال ابن الصَّلاح: «قد يُقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولا يصحُّ؛ لكونه شاذّاً أو مُعَلَّلا»[19].

وقال النَّووي: «لأنَّه قد يصحُّ أو يَحْسُنُ الإسناد دون المتن لشذوذٍ أو علةٍ»[20].

وقال ابن القيِّم: «وقد عُلِم أنَّ صحة الإسناد شرطٌ من شروط صحة الحديث، وليست مُوجِبَة لصحته، فإنَّ الحديث إنما يصحُّ بمجمـوع أمور منها: صحة سنده، وانتفاء علته، وعدم شذوذه ونكارته، وأن لا يكون راويه قد خالف الثِّقات أو شذَّ عنهم»[21].

وقال ابن كثير: «والحكم بالصحة أو الحُسن على الإسناد لا يلزم منه الحكم بذلك على المتن؛ إذ قد يكون شاذّاً أو مُعَلَّلا»[22].

وقال العراقي في ألفيته:

الحُكْمُ لِلإسْنَادِ بِالصِّحَّةِ أوْ

بِالْحُسْنِ دُوْنَ الحُكْمِ لِلمَتْنِ رَأَوْا[23]

وقال السَّخاوي: «إذ قد يصحُّ السَّند أو يَحْسُن لاستجماع شروطه من الاتصال، والعدالة، والضَّبط دون المتن لشذوذٍ أو علةٍ»[24].

وقال السُّيوطي: «قد يصحُّ أو يَحْسُن الإسناد لثقة رجاله، دون المتن لشذوذٍ أو علةٍ»[25].

وقال الصَّنعاني: «اعلم أنَّ من أساليب أهل الحديث أن يحكموا بالصِّحة والحُسن والضَّعف على الإسناد دون متن الحديث، فيقولون: إسنادٌ صحيحٌ، دون حديث صحيح، ونحو ذلك؛ أي: حسن أو ضعيف، لأنَّه قد يصحُّ الإسناد لثقة رجاله، ولا يصحُّ الحديث لشذوذٍ أو علةٍ.

والحاصل أنَّه لا تلازم بين الإسناد والمتن؛ إذ قد يصحُّ السَّند أو يَحْسُن لاستجماع شرائطهما، ولا يصحُّ المتن لشذوذٍ أو علةٍ، وقد لا يصحُّ السَّند ويصحُّ المتن من طريق أخرى»[26].

وقال ابن الجوزي: «وقد يكون الإسناد كلُّه ثقات، ويكون الحديث موضوعاً أو مقلـوباً، أو قد جرى فيه تدليسٌ، وهذا أصعبُ الأحوال ولا يعرف ذلك إلا النُّقاد»[27].

ثالثاً: اعتناء المحَدِّثين بالإسناد ليس لذاته بل لخدمة المتن:

عندما يفحص المحَدِّثون السَّند ويتأكَّدون من صحته، وأنَّ رواته ثقات أثبات، فيكون هذا أدْعى للاطمئنان لصحة ما نقلوه، والوثوق به أكثر، وهذا أمر مُرَكَّبٌ في طباع البشر أن يقع الخبر (الذي ينقله الصَّادق) من أنفسهم موقعاً حسناً، وما ينقله الكاذب موقع الشَّكِّ والرَّيبة، وبناءً على ذلك، فإنَّ اعتناء المحَدِّثين بالإسناد هو من صميم اعتنائهم بالمتن[28].

فإذا ما وَصَلَنا خبر مُعيَّن فإنَّنا ننظر أولاً في حال الرَّاوي الذي سمعنا منه الخبر؛ هل هو ممَّن يُعَوَّلُ على روايته أم لا؟ ثم ننظر في حال مَنْ روى عنه هذا الرَّاوي، وهكذا إلى أن نصل إلى الرَّاوي الأعلى، ثم نتحقَّق هل الراوي الأعلى كان حاضراً أثناء الواقعة أم لا؟ ثم ننظر في الخبر المرْوي، هل يلائم أحوال الرَّاوي الذي نُسِبَ إليه، وهل يمكن وقوعه في ذلك العصر والمحيط أم لا؟

فلا يعتبر المحَدِّثون أنَّ الرَّاوي مقبول الرِّواية لمجرد العدالة والضَّبط فحسب، بل لا بدَّ من نقد المتن، وذلك بعرض روايات الرَّاوي على ما رواه الثِّقات الضَّابطون؛ للتَّأكُّد من كون الرِّواية مقبولة أم لا؟

[1] أهمية علم الرِّجال، ص 9.

[2] فتح المغيث بشرح ألفية الحديث: 1/236.

[3] مقدمة الجرح والتعديل (ص/ب) وأحال على المقالات العلمية، ص 234 – 253.

[4] المستشرقون والحديث النبوي، ص30.

[5] هو: محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، أبو عبد الله، عالم بفقه الشافعية والأصول، تركي الأصل، مصري المولد والوفاة،  له تصانيف كثيرة في عدة فنون، منها: الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصَّحابة، والبحر المحيط في أصول الفقه، وإعلام السَّاجد بأحكام المساجد، وغيرها. توفي سنة 794هـ. طبقات الشَّافعية لابن قاضي شهبة: 3/167.

[6] طبع أكثر من طبعة أفضلها طبعة أستاذنا أ .د رفعت فوزي عبد المطلب، وقد اختصره الإمام جلال الدين السُّيوطي ورتَّبه على الأبواب الفقهية، في مؤلَّف سمَّاه: (عين الإصابة في استدراك عائشة على الصحابة).

[7] ينظر: مقدمة  أستاذنا أ .د رفعت فوزي عبد المطلب لكتاب الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، ص 3 – 5.

[8] هو: الربيع بن خثيم بن عائذ، أبو يزيد الثوري الكوفي، أحد الأعلام، أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، وأرسل عنه. وكان يُعَدُّ من عقلاء الرجال. توفي سنة إحدى وستين، وقيل: ثلاث وستين. سير أعلام النبلاء، 4/258. ومشاهير علماء الأمصار لابن حبان، ص 160.

[9] معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري، ص 106.

[10] البداية والنهاية لابن كثير: 12/124، وقال: «وقد سـبق الخطيب إلى هذا النقل، سـبقه محمد بن جرير كما ذكرت في مصنف مفـرد»، وينظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/280.

[11] ينظر: المنار المنيف في الصحيح والضعيف ص90 – 94، وأحكام أهل الذمة لابن القيم: 1/91 – 94.

[12] هو: أحمد أمين ابن الشيخ إبراهيم الطباخ: عالم بالأدب، غزير الاطلاع على التاريخ، من كبار الكتاب، اشتهر باسمه (أحمد أمين) وضاعت نسبته إلى (الطباخ). مولده سنة 1295هـ بالقاهرة، تولى القضاء ببعض المحاكم الشرعية، ثم عُيِّن مدرساً بكلية الآداب بالجامعة المصرية، وانتخب عميداً لها 1939م، وعُيِّن مديراً للإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية 1947م، واستمر فيها إلى أن تُوفي، وكان من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق ومجمع اللغة بالقاهرة، والمجمع العلمي العراقي ببغداد، ومنحته جامعة القاهرة 1948م لقب (دكتور) فخري، وهو من أكثر كتاب مصر تصنيفاً وإفاضة، توفي بالقاهرة. 1373هـ، الأعلام للزركلي: 1/101 – 102، ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة: 1/168.

[13] فجر الإسلام، ص 238.

[14] ضحى الإسلام: 2/130.

[15] ظهر الإسلام: 2/301.

[16] ينظر: علوم الحديث ومصطلحه د. صبحي الصالح، ص 278 – 279.

[17] ينظر: المصدر السابق، ص 280 – 283 بتصرف.

[18] ينظر: مقاييس نقد متون السنة للدكتور مسفر غرم الله الدميني، 247 – 248 بتصرف.

[19] مقدمة ابن الصلاح، ص20.

[20] التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث، ص 6.

[21] الفروسية لابن القيم ص 246.

[22] اختصار علوم الحديث ص 36 مع الباعث الحثيث للشيخ أحمد شاكر.

[23] ألفية العراقي (التبصرة والتذكرة) مع فتح المغيث للسخاوي: 1/119.

[24] فتح المغيث للسخاوي: 1/119.

[25] تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي للسيوطي: 1/161.

[26] توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار للصنعاني: 1/211.

[27] الموضوعات لابن الجوزي: 1/100.

[28] ينظر: مقاييس نقد متون السنة، ص 245  -246 بتصرف.

المصدر: مجلة البيان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى