مقالاتمقالات مختارة

خانة الديانة.. هل هي المشكلة؟

خانة الديانة.. هل هي المشكلة؟

بقلم سعيد السني

على خلفية حديث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في 11 سبتمبر/أيلول الجاري، عن احترامه لحرية الاعتقاد، وما دار من مُداخلات في سياق فعاليات “حفل إطلاق استراتيجية حقوق الإنسان المصري”، اشتعل الجدل مجدد حول “خانة الديانة” ضمن بيانات بطاقة الهوية الوطنية، وما إذا كان يتعين استمرارها أو حذفها من البطاقة.

وقد تصدى وزير العدل المصري المستشار عمر مروان لمداخلات الداعين لإزالة خانة الديانة من البطاقة، معتبرا أنها وسيلة فعالة لحفظ الحقوق في مسائل الزواج والطلاق والميراث.

من اللافت، اهتمام الأذرع الإعلامية المصرية بالتركيز على قضية “خانة الديانة” باعتبارها أم المشاكل، وأن وجودها يُعد تمييزا دينيا وعائقا أمام مدنية الدولة وينال من المواطنة، وهو ما فتح الباب واسعا لاشتعال الجدل، وانقسام قطاع من المصريين حول الموقف من هذه الخانة، وما إذا كانت تبقى بوثائق الهوية أم يتعين حذفها، فيما اكتفى غيرهم بموقف المتفرج.

المؤيدون لاستمرار خانة الديانة، وأكثريتهم من المسلمين، يرونها حتمية لأمور الزواج والمواريث وما شابه، وأن ذكر الديانة يسهم في تحديد هوية الفرد كما أنها لا تنال من المواطنة، وأن حذفها يخالف “دستور 2014″، إذ يراها مسلمون كُثر خطوة مخالفة للشرع، في ظل المادة الثانية منه، التي تجعل الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.

المعارضون بدورهم، وأغلبهم مسيحيون وليبراليون ويساريون، لا يرون في حذفها تعارضا مع “الدستور”، بل مجاراة للمادة الأولى منه، التي تجعل المواطنة أساسا للدولة، والمادة 53 منه التي تشدد على المساواة بين المواطنين وتمنع التمييز بينهم، كما أن غياب هذه الخانة من وثيقة الهوية يدعم فكرة مدنية الدولة. أما بشأن الزواج والطلاق فيدفعون بالرجوع فيها إلى شهادة الميلاد، والقيد العائلي، ويشيرون إلى أن ديانة الفرد مدونة على قاعدة البيانات، سواء ظهرت أو لم تظهر في بطاقة الهوية.

 الدولة المدنية والتدين الشكلي

بعيدا عن هذا الجدال والاستقطاب، فإن بقاء خانة الديانة بوثيقة الهوية أو حذفها لا يغير شيئا من الواقع، فالحذف بذاته لن يتحول بالبلاد لتكون “دولة مدنية” بالمعنى المتعارف عليه دوليا، كونها دولة ديمقراطية أساسها سيادة القانون والمواطنة، وتقوم على فصل الدين عن السياسة وتضمن لكل مواطن حقوقه ويؤدي واجباته، وتقف على مسافة واحدة من كل المواطنين بدون تمييز وتتعامل معهم بالمساواة والعدل، أيا كانت ديانة الفرد أو جنسه أو عرقه أو لونه أو طائفته أو إقليمه.

فالدولة المدنية بهذا المعنى تحتاج إطارا تشريعيا متوفرا بالفعل في “الدستور”، وإن تخالفه بعض القوانين، وأحزاب ومنظمات للمجتمع المدني هي حاضرة نظريا، لكنها غائبة في الواقع المُعاش، ومؤسسات “فاعلة” تقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، وتؤدي دورها المرسوم دستوريا، وتسهر على تأصيل الديمقراطية وسيادة القانون وتحمي قيم الدولة المدنية، ومثل هذه المؤسسات -وإن كانت حاضرة هيكليا- فهي غائبة عمليا أو تفتقد الفعالية اللازمة، ويلزم لهذا كله وغيره -في الحالة المصرية- والعربية بالعموم “إرادة سياسية” دافعة، وهو أمر يبدو بعيد المنال.

يبقى للدولة المدنية -بعد هذا- أن تستظل بـ”ثقافة التعايش مع الآخر” والانفتاح وقبول التعددية، ونبذ التمييز، وإكساب أفرادها للقيم المدنية بالعموم، ليكون كل هذا عاصما للمجتمع وأفراده من الانقسام والتمييز بأنواعه، والظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، هذه القيم وبناء ثقافة التعايش يلزمها حتما جهود تربوية وتثقيفية مخططة ومنظمة طويلة المدى، بينما الواقع يشي بتوفر النيات الحسنة وهي لا تكفي بديلا عن الجهد المُخطط.

إن المتمعن فيما هو ظاهر حاليا بالمجتمع المصري، يلاحظ أن ذكر ديانة الفرد بوثيقة هويته لم ولا يمنع وجود إشارات أو علامات كاشفة عن الديانة لدى كثيرين، ومنها الأسماء، سواء للمسلم أو للمسيحي، واللحى لبعض المسلمين ومنهم معتنقي الفكر السلفي وغيرهم، والصلبان للمسيحيين، وهناك لدى أكثرية المصريين من الديانتين اهتمام يصل إلى حد الشغف بإظهار الهوية الدينية، وأحيانا المبالغة فيما يُسمى بـ”التدين الشكلي”.

العهد الملكي والجواسيس وميلاد الخانة

 إذا عدنا للوراء، فلم يكن لـ”خانة الديانة” وجود في العهد الملكي -قبل ثورة يوليو 1952- إذ كانت وزارة الشؤون الاجتماعية آنذاك تصدر بطاقة ورقية للهوية، مدوّن فيها اسم الفرد ولونه والطول ولون العينين الشعر، وصورة شخصية، دون ذكر الديانة.

على أن عام 1958، شهد انتقال مهمة إصدار البطاقات إلى وزارة الداخلية، لتكون بداية تسجيل ديانة الفرد في البطاقة، مع الاسم و تاريخ الميلاد ومحل الإقامة والحالة الإجتماعية وفصيلة الدم، وكانت أول بطاقة على هذا النحو، للرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

وحتى هذا الوقت من نهاية الخمسينيات، لم تكن مصر تعرف التعصب والتشدد، وظل المصريون نموذجاً للسماحة والاعتدال والتعايش مع الآخر المختلف، إذ عاش بينهم كثير من الأفراد ذوي ثقافات مختلفة من كل جنس ولون وعرق ودين، بما في ذلك الديانة اليهودية التي كان يدين بها بعض المصريين، رغم هذه التعددية العرقية والدينية التي كانت كثيفة بالإسكندرية ومناطق أخرى، وما يلازمها من تمايز، فلم تكن تحدث أي مشكلة على الإطلاق.

وجاءت حرب 1956، أو ما يُعرف بالعدوان الثلاثي (انجلترا وفرنسا وإسرائيل) ضد مصر، على خلفية قرار الرئيس عبد الناصر تأميم قناة السويسن وقبل هذه الحرب، تورط جهاز الموساد الإسرائيلي في أعمال تفجير بوساطة يهود مصريين، استهدفت مكتبات أمريكية ودور للسينما بالقاهرة والإسكندرية، لتخريب العلاقات المصرية مع الولايات المتحدة وغيرها، فيما سُمي وقتها بـ”فضيحة لافون”. لاحقا، وفي عام 1960، سقطت خمس شبكات تجسس أخرى لحساب الموساد، فيما اشتهر بعملية سمير الإسكندراني (الفنان المعروف فبراير/شباط 1938- أغسطس/آب 2020 )

هكذا تصاعدت المتاعب لـ”اليهود المصريين”، وصار النظر إليهم بعين الريبة، هو الغالب، وافتراض تحول ولائهم وعواطفهم نحو إسرائيل، ومن ثم هجرتهم أو طردهم تباعا حتى أوائل الستينيات.  

 الرئيس المؤمن واليسار والإسلام السياسي

مع تولي الراحل أنور السادات رئاسة مصر عام 1970، عقب وفاة عبد الناصر، فإنه سعى لتهميش وضرب اليسار كونه  الحارس للسياسات الناصرية التي أراد السادات تغييرها، وأدخل النص -لأول مرة- في المادة الثانية بدستور 1971، على أن تكون مبادئ الشريعة الإسلامية “مصدر” رئيسي للتشريع، وفي تعديلات عام 1980 للدستور عدلها السادات لتصير الشريعة الإسلامية هي “المصدر الرئيسي للتشريع”.

وبادر السادات، منذ فجر ولايته، بإطلاق العنان لجماعات الإسلام السياسي للسيطرة على الحركة الطلابية بالجامعات والنقابات والمجتمع عموما بطرق شتى، وأطلق على نفسه “الرئيس المؤمن”، وغيرها من الأوصاف التي تضفي عليه مسحة دينية.

وقبل أن يغتال تنظيم الجهاد الإسلامي السادات، في أكتوبر/تشرين الأول 1981، كانت جماعات الإسلام السلفي والسياسي قد توغلت واكتسبت أنصارا كُثر، وبدأت احتكاكات ذات طابع طائفي بين مسلمين ومسحيين، وكان أولها أحداث الفتنة الطائفية في الخانكة عام 1972، وتكررت بدرجات متفاوتة حتى يومنا، في ظل سيل من الفتاوى ينال من الاقباط، ويُحرم تهنئتهم في أعيادهم، ما أسفر عن تراجع قيم السماحة والتعايش مع الآخر بدرجة ما.

تأكيدا، فإن جود خانة الديانة من عدمه في البطاقة لا يغير شيئا من الواقع الفعلي المُعاش، ولا ينال من هوية الفرد الدينية التي هي علاقة خاصة تربطه مع ربه.

كما أن “فكرة إلغاء خانة الديانة” من وثيقة الهوية ليست سيئة ولا شرا لكنها تأكيد، ولا تحقق آمال وطموحات دعاة الإلغاء التي يرددونها سندا لدعوتهم، فالمواطنة وعدم التمييز والدولة المدينة تستلزم بالضرورة -وعلى المدي المتوسط والبعيد- نشر قيم المحبة والتسامح والتعاون والوئام وقبول الآخر المختلف جنسا وعرقا ودينا ونوعا ولونا وغيره، لضمان سلامة المجتمع وأمانه وشيوع السلام الاجتماعي فيه دوما، وهذه مهمة تثقيقية وتربوية لها تفصيل، لا يتسع المجال له الآن.

المصدر : الجزيرة مباشر

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى