لماذا تُتهم طالبان بالتشدد مع التزامها بمرجعية الفقه الحنفي؟
إعداد بسام ناصر
يتردد كثيرا في وسائل الإعلام المختلفة وصف حركة طالبان بـ”المتشددة”، مع أن الحركة في منشوراتها وتصريحات المتحدثين باسمها تعلن عن التزامها بالمقرر في المذهب الحنفي في تطبيقاتها للأحكام الفقهية، وهو أحد المذاهب الأربعة الفقهية المعتمدة عند أهل السنة، التي تُشكل بمجموعها المرجعية الفقهية المعتبرة، منذ ظهور المذاهب إلى يومنا هذا.
وأعلنت الحركة الأسبوع الفائت تشكيل حكومة تصريف الأعمال، وقالت في بيانها الأربعاء الماضي إن “أعضاء الحكومة الجديدة التي ستباشر مهامها عاجلا سيبذلون قصارى جهودهم في تطبيق الأحكام الشرعية، والقوانين الوضعية في البلاد”.
وأعلنت الحركة في وقت سابق من الشهر الماضي عن قيام إمارة أفغانستان الإسلامية، وقال المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد، في تغريدة على “تويتر”: “إن إعلان طالبان إنشاء الإمارة يأتي تزامنا مع مرور 102 عام على استقلال أفغانستان”.
من الواضح أن الحركة حددت نظام حكمها بالإمارة الإسلامية، وأعلنت أن حكومة تصريف الأعمال التي شكلتها ستسعى إلى تطبيق الأحكام الشرعية، وفق ما هو معروف عن الحركة من التزامها بالمذهب الحنفي، فإذا كانت طالبان تستند في فهمها وتطبيقاتها للأحكام الشرعية إلى مقررات المذهب الحنفي، فلماذا تُوصف على نطاق واسع بالمتشددة؟
نعت الحركة بالمتشددة بات يثير أسئلة حول مواقف الآخرين من تطبيق الأحكام الشرعية إن خالفت مألوفات الناس وعاداتهم وتقاليدهم، ما يحملهم على وصف أي تجربة في هذا السياق بالمتشددة، مع أن التقيد بالمذاهب الفقهية الأربعة بوصفها المرجعية الفقهية المعتبرة يقتضي وقاية الملتزمين بها من تهم التشدد والتطرف وفق باحثين شرعيين.
كما أن إطلاق وصف التشدد على تطبيق الأحكام الشرعية يكتنفه قدر كبير من الالتباس والغموض، بحسب أستاذ الفقه الإسلامي في جامعة جرش الأهلية بالأردن، الدكتور حسن شموط، الذي تساءل: “ما المقصود بالتشدد؟ وهل يعتبر تطبيق شرع الله وأحكامه تشددا.. أم إن الانغلاق على أي وسيلة من وسائل الحوار وقبول الآخر هو التشدد؟”.
حسن شموط.. أستاذ الفقه الإسلامي
وأضاف: “من الذي يحدد ما إن كان ما تقوم به طالبان يعتبر تشددا أم لا؟ وهل المقياس يخضع لقواعد وضوابط شرعية عُرضت على متخصصين في الشريعة فاعتبروا ذلك تشددا.. أم إن ذلك يخضع للهوى والانفلات والبعد عن الدين الذي تعود عليه البعض؟ ويظهر ذلك أنهم حينما يؤمرون بالخضوع لأحكام الشريعة اعتبروه تشددا”.
وواصل شموط حديثه لـ“عربي21” بالقول: “إن تطبيق شرع الله لا يعتبر تشددا في أي حال من الأحوال، بل غاية ما في الأمر أنه يحتاج أحيانا إلى سياسة شرعية، ومعرفة بقواعد وأصول الدعوة إلى الله، فلا يكفي أن ندعو إلى تطبيق شرع الله دون أن نعرف القواعد والضوابط الناظمة لذلك، إضافة إلى العمل بروح التشريع”.
وأوضح أنه “لا بد من التفريق بين أمرين أساسيين، أولهما يتعلق بالنظام العام، والقوانين التي تنظم شؤون الدولة، فالدولة لا بد لها أن تختار قانونا، وتختار من المذاهب ما تراه مناسبا للتطبيق، ويجبر الناس عليه، ولا يعتبر ذلك من التشدد، أما في ما يتعلق بالأمور الشخصية التي لا تتعلق بالأمور العامة، فهذه تعتبر تشددا إذا أجبر الناس عليها، كذلك في ما يتعلق بالعبادة فالأمر يُترك للأفراد ليتعبدوا لله وفق مذهبهم الذي اختاروه”.
وأكدّ أستاذ الفقه الإسلامي، شموط أن “المتتبع للتاريخ الإسلامي يعلم كل العلم أن المذاهب الفقهية الأربعة لم تدعُ في يوم من الأيام إلى التشدد أو نبذ الآخر، بل إن أئمة تلك المذاهب، رحمهم الله قد ضربوا لنا أروع الأمثلة في السماحة والتيسير، كيف لا وهي مذاهب إسلامية تطبق أحكام القرآن الكريم، وتتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والإسلام في أحكامه دين الرحمة والتيسير على الناس”.
وعن الحالات التي توصف بالتشدد، لفت شموط إلى “أنها أخطاء فردية، لا يجوز نسبتها للمذاهب، والمذهب الحنفي كان مذهبا رسميا معتمدا للدول الإسلامية على مر العصور منذ الدولة العباسية وحتى يومنا هذا، وكان تطبيقه مثالا حيا للتعايش بين المسلمين وغيرهم، وما زالت كثير من القوانين في معظم البلاد الإسلامية مستمدة منه كالقانون المدني، وقانون الأحوال الشخصية من حيث الجملة، لذا فإنه إن ظهر من طالبان أو غيرهم ممن يتمسكون بالمذهبية الفقهية بعض التشدد، فيكون الخطأ في التطبيق، لا في أصل التمسك بالمذهب”.
من جهته قال أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في دار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا بالمغرب، الدكتور الناجي لمين: “حركة طالبان تتبع في أحكام الشريعة المذهب الحنفي، الذي هو ثقافة مخالفة للحداثة ومنافسة لها، وكان يتبعه نصف المسلمين، وكانت تسير به الخلافة العثمانية التي كانت العدو رقم (1) للغرب”.
الناجي لمين.. أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في دار الحديث الحسنية
وأردف قائلا: “فلا غرو أن يصفوا حركة طالبان بالمتشددة، لأن الحداثة لا تطيق الخلاف، ومتبعو المذاهب أبعد الناس عن التطرف والغلو، فالقتل عندهم (وكل عقوبة) خاصة بولاة الأمور، ولا يحملون السلاح بدون إذن الحاكم إلا إذا داهم العدو أرضهم، ولذلك لن تجد أبدا ضمن الحركات التي تسمي نفسها (جهادية) حنفيا أو شافعيا أو مالكيا أو حنبليا”.
وتابع لمين لـ“عربي21”: “والغرب يعرف ذلك جيدا، لسبب بسيط غير مركب، وهو أن المذاهب كانت تسير بها دول، وبُنيت بها حضارة لا يوجد مثلها في تاريخ البشرية”، متسائلا: “فكيف تكون المذاهب متشددة ثم تبنى بها حضارة في رقعة أرضية كانت لا تغرب عنها الشمس إلا قليلا؟”.
بدوره أوضح الأكاديمي المغربي، الباحث في الفكر الإسلامي، الدكتور حفيظ هاروس أن “التشدد في الدين عادة ما يتم تعريفه بأنه الغلو في إيقاع الأحكام الشرعية بالزيادة على الحد المشروع، لكن هذا التعريف يغفل أيضا عن كون التشبث بالتطبيق الحرفي للأحكام دون مراعات المقاصد والسياقات والمآلات هو نوع من التشدد أيضا”.
وأضاف: “ولا شك أن الالتزام بالمذاهب الفقهية يعصم من التشدد بنوعيه، لأنه يقي الملتزم بأحكامها من الإعمال الحرفي والظاهري للنصوص مثلما نجد ذلك واضحا عند بعض التيارات التي تزعم التفلت من قيود التمذهب، وذلك لأن أصول المذاهب الفقهية ومداركها الاجتهادية تبذل الوسع في حفّ النصوص بجملة من القواعد والضوابط لفهم النص، كما أنها تعمل على مراعاة الواقع والأحوال والعوائد عند تنزيله”.
وتابع: “لهذا ففقهاء المذاهب عبر العصور لم يكتفوا فقط بالمدونات الفقهية التي تقرر الأحكام العامة، وإنما عُنوا أيضا عناية شديد بالنوازل والفتاوى الفقهية التي تهتم اهتماما بالغا بالظروف الخاصة، والقرائن المشخِّصة”.
وردا على سؤال “عربي21” حول نعت حركة طالبان بالتشدد رغم استنادها إلى مرجعية فقهية واضحة هي المذهب الحنفي، قال هاروس: “الحقيقة هي أن الصورة الشائعة عن الحركة تعود بالدرجة الأولى إلى تجربتها الأولى في الحكم، وهي تجربة اتسمت بتشدد واضح في فهم وتطبيق ما تسميه بأحكام الشريعة، رغم أن الكثير من هذه الأحكام اجتهادي، بل إن منها ما هو تخريجات فقهية شاذة”.
وذكر أهم مظاهر هذا التشدد في تلك التجربة، كالإلزام بالأحكام الفقهية المذهبية التفصيلية التي هي مثار اختلاف، مثل تحريم التصوير والموسيقى، “وهو أمر لا يؤكد فقط التعصب المقيت لمذهب فقهي معين، ولكنه أيضا مخالفة صريحة لبعض القواعد العامة، مثل عدم الإنكار في المسائل الاجتهادية، ومراعاة الاختلاف”.
ومنها كذلك، كما يقول هاروس: “اعتماد الدولة وسيلة لهذا الإلزام، ولهذا كانت أبرز الوزارات في تجربة طالبان الأولى في الحكم هي وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أنيط بها مراقبة الالتزام بالسلوك الإسلامي في البلاد كما تفهمه الحركة، وهو ما أضفى على هذا التطبيق بعدا أيديولوجيا رام صبغ المجتمع بصبغة محددة بما فيها المظاهر العامة واللباس (لحية لكل مواطن، و(تشادري) لكل مواطنة) على حد قول بعضهم”.
كما أن من أهم مظاهر هذا التشدد في تجربة طالبان الأولى، حسب هاروس “عدم مراعاة المصالح وتحقيق المناطات والمآلات عند تنزيل الأحكام، لهذا أصرت الحركة على هدم تماثيل بوذا استنادا على الحكم الفقهي العام مع غفلة شديدة سواء عن التطبيقات التاريخية المختلفة لهذا الحكم التي تجلت في مظاهر التسامح مع وجود هذه التماثيل إبان الفتوحات الأولى، أو المآلات السيئة لهذا التطبيق الحرفي للحكم على صورة الإسلام والمسلمين اليوم، وكذلك الأقليات المسلمة في بعض البلدان التي تقدس تلك التماثيل”.
وطبقا للأكاديمي والباحث المغربي هاروس فإن “لمظاهر التشدد عند الحركة تفسيرات عديدة أهمها اثنان؛ أولهما: الخلفية الدراسية التي تظهر في إرث المدرسة الديوبندية التي درس بها أغلب كوادر الحركة، حيث نجد أن أغلب هذه المدارس تسير على نهج تقليدي جامد في المناهج والبرامج وطرق التدريس، والتوجس من العلوم الحديثة، كما بين ذلك مولوي حفيظ الله حقاني في كتابه عن الحركة، وثانيهما الخلفية البيئية التي لعبت فيها قساوة الطبيعة وغلظتها دورا كبيرا في إنتاج الشخصية الأفغانية المحافظة، والشديدة التدين”.
وختم حديثه بالإشارة إلى أن “الإشكال ليس في التزام مذهب فقهي معين، ولكن الإشكال يكمن في طريقة فهم وإعمال ذلك المذهب، لهذا نأمل أن تستفيد الحركة من تجربتها الأولى وتقوم بتصحيح أغلاطها، خصوصا أننا نرى في تصريحات قادتها قدرا من النضج والتقدم”.
المصدر: عربي21