بناء العقل المقاصدي في التغيير السِّياسي (01)
لا يخفَى على المستقرئ لواقع المسلمين بعد القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية ذلك الانفصام بين مبادئ الإسلام وأحكامه وبين واقع المسلمين ومآلاته، إذ اتسعت الهوَّة بين الدِّين الإلهي الكامل وبين التديُّن البشري القاصر، وبمقدار تلك الهوَّة بمقدار ما تُفتُضَح القدوة، وهو ما يستدعي ذلك الاجتهاد في رتْقِ ذلك الفتْق، ورَدْم تلك الهوَّة، وسدِّ تلك الفجوة العلمية والعملية من أجل التصالح بين الإسلام والمسلمين، وبين الإسلام والإسلاميين. ولعلَّ من أبرز ما أثَّر في تلك الفجوة ذلك الفهم التقليدي والالتزام الشَّكلي والتديُّن العاطفي والانتماء الوراثي لهذا الدِّين، فكانت جهود العلماء قد انصبَّت على ذلك التجديد في الدِّين، وفق تلك الحتمية النّصية: “إنَّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلِّ مائة سنة مَن يجدّد لها أمر دينها.”، وكان من ذلك التجديد هو: بعث العقل المقاصدي في فهم الوَحي والالتزام به، وذلك ببيان عِلل الأحكام وغايات الإسلام ومقاصد الشريعة وأهداف الدِّين في علاقة الإنسان بالله والكون والحياة، ونقل انشغال العقل المسلم من الجزئيات إلى الكليات، ومن الاهتمام بالأشكال والمباني إلى التركيز على الأسرار والمعاني، ومن الوقوف عند الرُّسوم والوسائل إلى الاستغراق في تحقيق الغايات والمقاصد، ولا يكون ذلك إلاّ إذا أخذنا النّصوص بمقاصدها، وأدخلنا التفسير المصلحي على أحكام الشريعة ومعانيها، للتدقيق في مُراد الشَّارع الحكيم وقصده، وهو ما يسمِّيه “ابن القيم الجوزية” بالفقه الحي، إذْ أنَّ من أسباب الانحطاط في تعطيل الشريعة والعمل بها في حياة النَّاس هو إهمال النَّظر في مقاصدها وأسرارها التشريعية، وهذا النَّوْع من التعطيل للشريعة ليس بالضرورة تعطيلاً سياسيًّا من السلطة، بقدر ما هو تعطيلٌ ميدانيٌّ على مستوى الفرد والمجتمع، بالعجز عن الالتزام بالتديُّن المقاصدي الصحيح. وما كان الاهتمام ببناء العقل المقاصدي، وتطوير الفكر المقاصدي، وبعث الاجتهاد المقاصدي إلاَّ دليلاً على التجديد والإبداع والإحياء والانطلاق للأمَّة، وتفجير قدراتها العقلية والفكرية، واستثمار كنوزها العلمية والمعرفية من أجل الشهود الحضاري وسطوع شمس الحضارة الإسلامية من جديد. وبالرَّغم من الجدلية التاريخية حول أحكام الشريعة بين التعليل والتسليم، وبأنَّ الأصل في العادات والمعاملات هو التعليل، وأنَّ الأصل في العبادات هو التسليم، فإنَّ الجانب التعبُّدي – كذلك – ليس مجالاً مُغلقًا عن التعليل المصلحي، بل كان للتعليل فيه مدخل، عَلِمه مَن علِمه وجَهِلَه مَن جهله، وأنَّ ذلك تتلقَّاه العقول بالقبول أيضًا، وعليه فإنَّ بناء العقل المقاصدي في الإسلام لا يتطلَّب عبقريةً كبيرةً في اكتشافه، إذ أنَّ انسجام العقل مع النَّقل منذ بدايات نزول الوحي واضحة، إذ جاء التأكيد القرآني مِرارًا وتَكرارًا على نفي العبثية في الخلق الرَّباني والأمر الإلهي، فقد نفى القرآن الكريم العبثية في الخلق، فقال تعالى عن مخلوقية كلِّ الكائنات عمومًا: “وما خلقنا السَّموات والأرض وما بينهما لَاعِبِين، ما خلقناهما إلاّ بالحقِّ، ولكنَّ أكثر النَّاس لا يعلمون”(الدخان: 38، 39)، كما نَفَى العبثية في خلق الإنسان خصوصًا، فقال تعالى: “أفَحَسِبتم أنَّما خلقناكم عَبثًا، وأنكم إلينا لا تُرجعون”(المؤمنون: 115)، وعلَّل سبحانه إرسال الرُّسل وإنزال الكتب من أجل الهداية والعدل وتحقيق النِّظام، فقال تعالى: “لقد أرسلنا رُسلَنا وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم النّاس بالقِسْط..”(الحديد: 25)، ولم يقتصر البيان القرآني على نفي العبثية في الخلق فقط، بل امتدَّ إلى نفيه في الأمر التشريعي أيضًا، وهو ما يجعل الإنسان أمام حتمية الإيمان والالتزام بالإسلام عقلاً ونقلاً، إذ ما مِن حُكمٍ من أحكامه إلاّ وتتجلّى فيه الحِكمة الإلهية عاجلاً أم آجلاً، بما يحقّق المصلحة ويدفع المفسدة في الدنيا والآخرة، ولا يترك المسلم ضحيَّة التسليم غير العقلاني لأحكام الشّريعة الإسلامية، إذْ أنَّ لها معنًى مفهومًا، وهي تُقدَّم معلّلة مدلّلة من أجل رعاية مصالح العباد في المَعَاش والمعاد. وبالرَّغم من الفِكر النَّصِّي التقليدي الذي كان سائدًا، بأنَّ هناك مواطن كثيرةً من الشريعة غير معلَّلة ولا مُدلَّلة ولا مفهومة، وهي تتجاوز مدارك المكلَّفين، إلاَّ أنها مسألةٌ ليست على إطلاقها، بما فيها العبادات، فهناك أحكامٌ عمليةٌ تعبُّديةٌ لا تخلو من الأسرار والحِكم التي لا تنتهي، فيقول الله تعالى – مثلاً – عن بعضِ حِكم وأسرار تشريع الصَّلاة: “..وأقِمِ الصّلاة، إنّ الصّلاة تَنهَى عن الفحشاء والمُنكر..” (العنكبوت: 45)، فهناك أبعادٌ سلوكيةٌ واقعية إلى جانب الأبعاد التعبدية الرُّوحية للصَّلاة، فهي متعدِّدة الأبعاد في تقويم سلوك الإنسان وضبط علاقته بالله والحياة، وهي من العِلل والحِكم التي إذا عُرِضت على العقول تلقَّتها بالقبول، وهو ما يعني بأنَّ مقولة: التسليم المطلق لكلِّ الأحكام دون تعليل، وأنها بقيت موقوفة على التعبُّد المحض ليست مُسَلَّمة على إطلاقها، فقد يكون من الحكمة في التعبُّد هو التسليم به كما هو، وهو مقصدٌ في خضوع العقل والقلب لله تعالى، وهو من أجلِّ مظاهر العبودية له سبحانه. وقد جاء في كتاب “الوجيز في أصول الفقه” للدكتور عبد الكريم زيدان قوله: “من المقرَّر عند المحقِّقين من الجمهور أنَّ الأحكام الشَّرعية ما شُرِّعت عبَثًا من غير سببٍ دَعَا إلى تشريعه، ومقاصد يُراد تحقيقها، وإنَّما شُرِّعت لمصلحة العباد في العاجل والآجل..”. إنّ العقل المقاصدي الذي نريده هو الذي يوازن بين ظواهر النصوص الشرعية وبواطنها، ويربط بين الأسباب ومسبِّباتها، وبين العِلَّة والأثر المترتِّب عنها، ويستشرف النتائج والمآلات لها، وبين جوانبها النظرية وأبعادها التطبيقية، وأنَّ المقاصد في الأحكام الشَّرعية من حيث الاستدلال والاستنباط وترتُّب الأثر هو ما يحقِّق صلاحية الشريعة الإسلامية واستمراريتها وحاكميتها وخلودها، وهكذا يجب أن تُقَدَّم هَديةً وهِدايةً ورحمةً للعالمين. إنّ بناء العقل المقاصدي يفرض علينا الانتقال من “استنباط الأحكام” من ألفاظ النُّصوص إلى “استنباط المعاني” من أحكام النُّصوص. إنَّ بناء العقل المقاصدي الذي نقصده هو الذي ينتقل من العقل المقاصدي العقائدي لتصُّورات الإنسان، إلى العقل المقاصدي الفقهي لتعبُّد الإنسان، إلى العقل المقاصدي الأصولي لعقلانية الإنسان، إلى العقل المقاصدي السياسي الإصلاحي والتغييري لحياة الإنسان، والذي يتناول مظاهر الحياة جميعًا، وقد قال الإمام “ابن القيم الجوزية” في كتابه “إعلام الموقِّعين عن ربِّ العالمين”: “الشريعة مبْنَاهَا وأساسُها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، وحِكمةٌ كلُّها، ومصلحةٌ كلُّها، فكلُّ مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرَّحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحِكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإنْ أُدْخِلت فيها بالتأويل”.
يُتبع…
المصدر: موقع حركة مجتمع السلم الجزائرية