لولا الإيمان بقول الله ﷻ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[1] لكان من بعض القلوب أنها قد أعلنت براءتها من الصبر.
ومَن تَكُن العَلياءُ هِمَّةَ نَفسِهِ * فكُل الذي يلقَاهُ فيها مُحبَّبُ [2]
لذلك فأنه متى ما كان الإيمان والثقة بموعود الله ﷻ راسخة ومُتَجذِرة في قلوب المسلمين فأن ذلك يؤدي إلى العزة والكرامة في الدنيا قبل الآخرة، ومن الأمثلة على هذه العزة بَطلٌ من أبطال الإسلام وليثٌ من ليوث الإقدام القائد الهمام موسى بن أبي غسان، الرجل الذي ابهر الأسبان برجولته وأقدامه على الموت في سبيل الله ﷻ وعزة المسلمين ولسان حاله يقول:
أكرُ على الكتيبةِ لا أبالي * أحتفي كان فيها أم سِواها
أن رفعة المسلم وعزته لن تتأتى إلا بلزوم ما كان عليه أهل القرون المفضلة:
مزجنا دماءً بالدُّموعِ السَّواجمِ * فَلَمْ يَبْقَ مِنَّا عَرْصَة ٌ لِلَمراحِمِ
وشَرُّ سِلاحِ المَرْءِ دَمْعٌ يُفيِضُهُ * إذا الحَرْبُ شُبَّت نارُها بِالصَّوامِ [3]
إن شخصية موسى بن أبي غسان هي شخصية مجهولة عند كثير من المسلمين والعرب خاصة، بينما على العكس فقد كانت هذه الشخصية محل اهتمام النصارى والإسبان خصوصا. تعتبر غرناطة مسقط رأسه إذ عاش فيها وكان ينتمي إلى عائلة عربية تتصل جذورها إلى قبيلة الغساسنة وهي قبيلة عربية عريقة وكانت الأسرة التي ينتمي إليها موسى بن أبي غسان قد أشتهر عنها بفروسيتها والغيرة على دين الله ﷻ وكان لهذه العائلة الدور الكبير في النهضة التي شهدتها غرناطة.
لسنا وإن أحسابنا كرمت * أبدا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا * تبني ونفعل مثلما فعلوا
وفي ظل هذه المعطيات والأجواء التي ترعرع فيها موسى إذ كانت هذه الأجواء لها أثر كبير على شخصيته فكان بذلك فارسًا مبارزاً شجاعاً، فأصبح بذلك ذو مكانه اجتماعية وسياسية، فضلاً عن سمو هيبته إذ كان من الذين يساهمون مع الملك في إدارة شؤون الإمارة ويرجع إلى رأيهم في أحلك الظروف، إذ أنه كان قائداً لفرسان غرناطة ومتزعما لعشيرته، فكان بذلك ذو مكانة قريبة من الملك أبي عبد الله الصغير فكان له دور في صنع القرارات والتأثير فيها بجانب إيجابي.
وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيْئاً * كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ
عندما تهاوت حصون المسلمين في أرض الأندلس ولم يبقَ إلا غرناطة آخر الحواضر الإسلامية، والمعقل الأخير حيث أُطبِق الحصار من قبل النصارى على هذه المدينة سنة (896هـ) برز أسم القائد موسى بن أبي غسان على الساحة إذ بدأ يوقد جذوة الجهاد في نفوس المسلمين، ويبث روح الحماسة والفداء في نفوس المسلمين فكان بذلك فارسا شجاعا بليغا، فبدأ اسمه يلمع على ارض القتال حيث كانت له صولات على حصون النصارى وعندما بعث فرناندو الخامس طلبا إلى حاكم غرناطة يطالبه بالتسليم والاستسلام كان رد فعل القائد الهمام موسى على هذا الطلب إذ قال:
(ليعلم ملك النصارى إن العربي لم يولد إلا لصهوة الحصان والسيف والرمح ونصرة الإسلام و لقبر تحت أسوار غرناطة أموت فوقه مدافعا خير لي من أفخم قصورها أعيش فيه خاضعا).[4]
فكانت هذه الكلمات المليئة بالشجاعة والإقدام قد حركت مشاعر المسلمين فأستجاب له المسلمون وتحركوا للدفاع عن معقلهم الأخير حيث قد أطبق النصارى الحصار على هذه المدينة فمضت سبعة أشهر يصدون الحملة تلو الحملة ولكن الشجاعة وحدها لم تكن كافية، إذ كان المسلمون في المدينة مطبق عليهم الحصار فقل الطعام واشتد الجوع والبلاء على كثير من الناس ودخل اليأس قلوب الجنود والمسلمين؛ وظنوا أنه لم يكن أمامهم ألا خيار التسليم والهدنة فكانت ردة فعل القائد موسى بن أبي غسان هو الاعتراض وبشدة حيث ارتفع صوته بالاعتراض وبدأ يبث كلماته الحماسية الملتهبة إذ قال للمجتمعين :
لم تنضب كل مواردنا بعد، فما زال لنا مورد هائل للقوة كثيراً ما أدى المعجزات: ذلك هو يأسنا، فلنعمل على إثارة الشعب، ولنضع السلاح في يده، ولنقاتل العدو حتى آخر نسمة، وإنه لخير لي أن أحصى بين الذين ماتوا دفاعاً عن غرناطة، من أن أحصى بين الذين شهدوا تسليمها.[5]
وقال أيضا “لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم، إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهْبُ مدننا، وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق هذا ما سوف نعاني، أما أنا فوالله لن أراه”.[6]
فكانت هذه أخر الكلمات التي قالها القائد موسى بن أبي غسان.
قَلْبِي عَلَى ثِقَة ٍ وَنَفْسِيَ حُرَّة ٌ * تَأْبَى الدَّنِيَّ وَصَارِمِي ذَلاَّقُ
فَعلامَ يَخشى المرءُ فرقةَ روحِه؟ * أَوَ لَيْسَ عَاقِبَة َ الْحَيَاة ِ فِرَاقُ؟[7]
يقول الأستاذ أحمد سلامة عن القائد الهمام موسى بن أبي غسان (ثبات ومقاومة في زمن قل فيه النصير وحلت فيه الهزيمة، وفاء في زمن الخيانة، بطولة في زمن أشباه الرجال ولا رجال، تضحية في زمان تملكت فيه الدنيا من القلوب، جهاد في زمان الاستسلام).
كان قلب القائد موسى يتفطر وهو يرى هذا الذل والتخاذل عند قلوب العامة و تسليم غرناطة المسلمة إلى النصارى وعندما اجتمع القادة ليوقعوا وثيقة التسليم لم يملك بعضهم نفسه من البكاء فقال لهم: (اتركوا العويل للنساء والأطفال فنحن رجال لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع ولكن لتقطر الدماء، وإني لأرى أن روح الشعب قد خبت حتى ليستحيل علينا أن ننقذ غرناطة، ولكن ما زال ثمة بديل للنفوس النبيلة ذلك هو موت مجيد، فلنمت دفاعًا عن حرياتنا وانتقامًا لمصائب غرناطة، وسوف تحتضن أمنا الغبراء أبناءها أحرارًا من أغلال الفاتح وعسفه، ولئن لم يظفر أحدنا بقبر يستر رفاته فإنه لن يعدم سماء تغطيه وحاشا لله أن يقال إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعًا عنها). ولكن هذه الكلمات لم يكن لها آذان صاغية وبدأ التوقيع على وثيقة والهدنة والتسليم.
فغادر المجلس ولسان حاله يقول:
فلأصبرنّ على الزمان وجوره * صبر امرئٍ متجمّلٍ لم يخضعِ
وذهب إلى داره وغطى نفسه بالسلاح وامتطي جواده وذهب فقابل سرية من سرايا النصارى مكونه من خمسة عشر رجلا من النصارى فقتل بعضهم ثم قتل في سبيل الله.
المصادر
[1] آل عمران 142
[2] [البارودي]
[3] [الأبيوردي]
[4] [دولة الإسلام في الأندلس]
[5] [دولة الإسلام في الأندلس]
[6] [دولة الإسلام في الأندلس]
[7] [البارودي]
(المصدر: أمة بوست)