لماذا تعثرت تجربة الإسلاميين في الوصول للحكم أو البقاء فيه؟ (تحليل) (الحلقة الأولى)
سقوط آخر قلاع الإسلاميين في السلطة، يعيد التساؤل حول أسباب تعثر تجربة الأحزاب الإسلامية في الوصول إلى الحكم أو البقاء فيه لمدة طويلة.
خسارة حزب العدالة والتنمية بالمغرب، غالبية مقاعده في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، أغلق قوس الأحزاب الإسلامية التي وصلت إلى الحكم أو الحكومة في الدول العربية، وجرى ذلك عقب أسابيع فقط من تعثر التجربة الديمقراطية في تونس، مهد ثورات الربيع العربي، ما يؤرخ لنهاية حقبة استمرت طيلة عقد كامل.
وسقوط آخر قلاع الإسلاميين في السلطة، يعيد التساؤل حول أسباب تعثر تجربة الأحزاب الإسلامية في الوصول إلى الحكم أو البقاء فيه لمدة طويلة.
فبينما شهدت الدول العربية عدة أنظمة حكم مختلفة؛ من قومية وملكية ومحاصصة طائفية إلى اشتراكية وليبرالية، لم تأخذ التجربة الإسلامية نصيبها في السلطة، بالشكل الذي يُمكن الحكم لها أو عليها.
وينظر الكثير من الإسلاميين في العالم العربي إلى تجربة حزب العدالة والتنمية في الحكم بتركيا، كنموذج يستحق الاسترشاد به.
وهذا ما يفسر أن العديد من الأحزاب الإسلامية في الوطن العربي تحمل أسماء مشابهة؛ كجبهة العدالة والتنمية بالجزائر، وحزب العدالة والبناء في ليبيا، وحزب الحرية والعدالة في مصر (تم حله في 2013)، عدا عن أسبقية التسمي لحزب العدالة والتنمية المغربي.
فالشعوب العربية أكثر ما تحتاج إليه وتطالب به “عدالة” ترفع عنها المظالم، و”تنمية وبناء” لتطوير الاقتصاد وتحسين الظروف المعيشية للناس.
و”العدالة” و”التنمية” أكثر تحديان ركز عليهما الإسلاميون، سواء في المعارضة أو من وصل منهم إلى الحكم أو الحكومة، باعتبارهم من أكثر الفئات تعرضا للظلم والاضطهاد، وانتشار الفساد في كثير من البلدان عطل التنمية وأفقر الشعوب.
لكن أسباب كثيرة كانت وراء تعثر تجربة الإسلاميين في الحكم، رغم الشعبية “الجارفة” التي تمتعوا بها في العديد من الدول العربية، وفي فترات معينة.
جزء من هذه الأسباب راجعة لقوى داخلية وأخرى خارجية، بل أيضا ارتكب الإسلاميون أنفسهم أخطاء كانت بحاجة إلى مراجعة ذاتية عميقة.
1/ صراع العسكر والإسلاميين
شكلت المؤسسة العسكرية في عدة دول عربية حاجزا أمام وصول الإسلاميين إلى الحكم، بل وعملت على تأليب الرأي العام عليهم، ووضع العراقيل أمامهم لإفشال برنامجهم وتشجيع المجتمع المدني والصحفيين على تصيد أخطائهم وتشويههم، تمهيدا للانقلاب عليهم والإطاحة بهم من السلطة، على غرار ما حدث في مصر مع الرئيس محمد مرسي (توفي بالسجن في 17 يونيو/حزيران 2019).
فقادة الجيوش العربية لطالما اعتبروا أنفسهم أوصياء على الدولة والسلطة، سواء بحكم دورهم في حروب التحرير (مثل الجزائر)، أو وصول العديد من كبار الضباط إلى السلطة عبر انقلابات (على غرار مصر وسوريا وليبيا..) وتشبثوا بها لفترات طويلة، خاصة في فترة الستينات والسبعينات.
ولأن فترة الثمانينات شهدت ما سمي بـ”الصحوة الإسلامية” التي تزامنت مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران (1979)، أصبح الإسلاميون يشكلون ثقلا شعبيا متزايدا.
لكن فترة التسعينات شهدت قمعا للتيارات الإسلامية، على غرار ما حدث في الجزائر ومصر، وقبلهم في سوريا في الثمانينات.
2/ تغول مؤسسة الرئاسة
عندما سُئل راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية في 2012، عن سر تفضيله للنظام البرلماني على النظام الرئاسي، رد بأنه لا يريد أن “تتغول مؤسسة الرئاسة”.
وانطلق الغنوشي في تحليله ذاك، لما عانته تونس من تغول مؤسسة الرئاسة في عهد زين العابدين بن علي (1987-2011) وأيضا في عهد سابقه الحبيب بورقبية (1956 -1987).
لكن ما حدث بعد ذلك أن الرئيس قيس سعيد، بصلاحياته المحدودة في نظام برلماني هجين، تمكن من الاستحواذ على جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، رغم أنه ليس من خلفية عسكرية ولا أمنية وغير مدعوم من الدولة العميقة، وليس له حزب قوي يسنده.
ومثال تونس ينطبق على عدة دول عربية، فالعديد من الرؤساء العرب مع استثناءات قليلة سعوا إلى توسيع سلطاتهم وتمديد ولاياتهم الرئاسية مثل الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة (1999- 2019)، أو سعوا إلى توريث الحكم، كما هو الحال في عهد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد (1971 – 2000)، أو الرئيس اليمني علي عبد الله صالح (1990 – 2012)، أو الرئيس المصري السابق حسني مبارك (1981 -2011)، أو الزعيم الليبي معمر القذافي (1969 – 2011).
3/ الدولة العميقة
أدت ثورات الربيع العربي إلى صعود الإسلاميين إلى الحكم في عدة دول مثل تونس ومصر، أو إلى الحكومة مثل المغرب عبر صناديق الاقتراع، بفضل شعبيتهم.
لكن الدولة العميقة المتجذرة داخل المؤسسة العسكرية والأمنية والإعلام والقضاء وطبقة رجال الأعمال كانت تخشى على مصالحها، خاصة أن الكثير منها متورط في قضايا فساد، وانتهاكات لحقوق الإنسان.
فحشدت الدولة العميقة في دول الربيع العربي طاقاتها لوقف هذا المد الجارف، بعد أن اضطرت مرغمة لخفض رؤوسها في ذروة عنفوانه.
فسعت لتشويه الإسلاميين عبر الإعلام وشبكات الذباب الالكتروني، وتمويل التيارات “المدنية” (يسارية كانت أو ليبرالية) المدعومة من العسكر، لمهاجمة الإسلاميين والضغط عليهم عبر المظاهرات والاعتصامات ومحاولات العصيان المدني.
كما تحرك قضاء الدولة العميقة لعرقلة العملية الانتخابية وتعطيل استكمال المسار الانتخابي كما حدث في عهد الرئيس المصري محمد مرسي، ما أجبره إلى إصدار إعلان دستوري مكمل لتحصين المؤسسات السيادية (البرلمان واللجنة التأسيسية) من الحل.
فحجم الأموال التي صرفت لهزيمة الإسلاميين، والحشد الإعلامي وتهييج الشارع، وافتعال الأزمات… كانت فوق طاقة الإسلاميين.
كما أن الدولة العميقة القابضة على دواليب الحكم، سعت إلى توريط الأحزاب الإسلامية المشاركة بالحكومة في قرارات غير شعبية، وفي أحيان أخرى مناقضة لقيمها ومبادئها، ومستفزة لقاعدتها الشعبية، بهدف إفراغها من محتواها والتخلي عنها بعد أن تستنزف شعبيتها، وتُفقدها ثقلها البرلماني، بلا دماء ولا سجون ولا حتى حلها ومسح اسمها من الساحة السياسية.
وحزب العدالة والتنمية المغربي، أحد هذه النماذج، حيث وجد نفسه مجبرا على التطبيع مع إسرائيل، والموافقة على تقنين زراعة المخدرات، وأيضا على فرنسة المنظومة التربوية.. ما عرضه لتصويت عقابي، رغم أن السلطة الفعلية بيد الملك، وأن الحزب الذي قاد الائتلاف الحكومي بعد اندلاع حراك “20 فبراير” في 2011، انتهى دوره (في نظر الدولة العميقة) مع سقوط مهد ثورات الربيع العربي (تونس).
وما حدث في المغرب سبقهم إليه إسلاميو الجزائر، حيث شاركت حركة مجتمع السلم، في الحكومة عام 1997، تحت شعار “إنقاذ الدولة من السقوط”، لكنها وصلت في النهاية إلى قناعة بأنها “مشاركة في الحكومة، وليست شريكة في الحكم”.
وقررت حركة مجتمع السلم في 2012 عدم المشاركة في الحكومة، وتغيير استراتيجيتها، وركوب موجة الربيع العربي، لكنها كانت خسرت جزءا هاما من رصيدها الشعبي خلال 16 سنة في الحكومة.
4/ الثورات المضادة
أدى جزع دول عربية وخاصة الخليجية مثل الإمارات والسعودية من وصول أمواج الربيع العربي لبلدانهم، إلى حشدها لإمكانات مالية وإعلامية ودبلوماسية ضخمة لإجهاضها.
ولأن الربيع العربي أوصل الإسلاميين من السجون والمنافي إلى قصور الحكم، فكانت سهام الثورات المضادة مركزة عليهم أكثر من غيرهم من التيارات السياسية الأخرى، التي خاضت معهم نفس التجربة.
فكانت الدول الراعية للثورات المضادة أول من دعّم الانقلابات على الإسلاميين والأحزاب المتحالفة معهم، وحمت الانقلابيين من الضغوط الغربية والأمريكية بالخصوص، وعملت على شيطنة الإسلاميين وإلصاق كل رذيلة بهم، وجندت لهم جيوش من الذباب الالكتروني من جنسيات مختلفة لحشد رأي عام وهمي ضدهم.
وبفضل أموال النفط، اشترت “دول الثورات المضادة” الذمم من رؤساء أحزاب، ونواب، وقادة رأي.. لتشكيل جبهة لإسقاط الإسلاميين وتأليب الشعوب ضدهم.
وتجلى دور الثورات المضادة بوضوح وبشكل فج في المشهد المصري، عبر شيطنة “الإخوان المسلمين” في قنوات إعلامية عربية مملوكة لدول عربية لم تخفِ يوما عداءها للربيع العربي.
أما في تونس فتوحدت تيارات يسارية مع أخرى ليبرالية، وطيف من أنصار الثورة أصبح يدا بيد مع أنصار النظام السابق، فقط لهزيمة حركة النهضة (إسلامية) وحلفائها، وشكلوا حزب “نداء تونس”، الذي فاز في انتخابات 2014، الرئاسية والبرلمانية، لكنه بعد سنوات قليلة من وصوله إلى السلطة، انشطر إلى أحزاب عديدة بسبب الخلافات العميقة بين مختلف أطيافه.
ووصل بدول الثورات المضادة الأمر إلى تسليح مليشيات وتنظيمات متطرفة مثل مليشيات خليفة حفتر في ليبيا، وتيار السلفيين المدخليين، للقتال إلى جانب العلمانيين وقطاع الطرق والمرتزقة الأفارقة وشركة فاغنر الروسية ضد الحكومة الشرعية في طرابلس.
5/ إسرائيل والغرب
في بداية الربيع العربي لم تعترض الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون على وصول الإخوان المسلمين للسلطة عبر الانتخابات، باعتبارهم بديلا معتدلا للجماعات المتطرفة وعلى رأسها تنظيم القاعدة.
لكن عدوان إسرائيل على قطاع غزة، في 2012 الخاضع لسلطة حركة حماس، أظهر دعما قوية من مصر بقيادة الإخوان المسلمين، وتونس بزعامة حركة النهضة، للفلسطينيين ولحماس، ما أزعج واشنطن الداعمة لتل أبيب.
فالدول الغربية وقعت في تناقض بين دعم الديمقراطية التي جاءت بالإسلاميين إلى السلطة، أو محاصرتهم لتهديدهم مصالحها في المنطقة، وخير مثال اعتبار واشنطن حماس منظمة إرهابية بعد أن فازت في انتخابات 2006.
كما ضغطت اللوبيات الإماراتية والمصرية في الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبية لإدراج جماعة الإخوان منظمة إرهابية.
المصدر: وكالة الأناضول