مقالاتمقالات مختارة

العلامة القرضاوي.. 95 عاما من العطاء

العلامة القرضاوي.. 95 عاما من العطاء

بقلم عصام تليمة

اليوم، التاسع من أيلول (سبتمبر) 2021م يتم شيخنا العلامة يوسف القرضاوي عامه الخامس والتسعين، فقد ولد في 9/9/1926م، وبالتاريخ الهجري ينهي عامه الثامن والتسعين، ويقترب من المائة الهجرية، أو القرن الهجري، نسأل الله تعالى له العمر المديد في الطاعة، مشمولا بالصحة والعافية.

ويبدو أن القرضاوي وأسرته لها مع شهر أيلول (سبتمبر) موافقات عدة، فقد ولد له ابن في أيلول (سبتمر)، وهو عبد الرحمن الشاعر والثائر المعروف، وبنتان من بناته أيضا، وهما: الدكتورة إلهام، والدكتورة سهام، وبعض أحفاده كذلك ولدوا في شهر أيلول (سبتمبر)، وقد كان الأستاذ أنيس منصور يفاخر بأنه من مواليد شهر أيلول (سبتمبر)، ويقول عنه: شهر العظماء.

شرفت بصحبة شيخنا القرضاوي، والتتلمذ على يده ما يقرب من ربع قرن، ورأيت وشاهدت مواقف مهمة في حياة الرجل، كلما جاءت مناسبة لذكر موقف منها، ألح الحاضرون في تدوين ذلك، حيث أن الحرب عليه لا تهدأ، وهذا قدره، فالقرضاوي يعد أكثر علماء الأمة شدة على الظالمين والمستبدين، ونصرة للمستضعفين والمقهورين في كل مكان، ولذا فهو أكثر من تشن الأنظمة الظالمة وأذنابها الحرب عليه.

وفي السنوات الأخيرة، حينما كان يأتي لزيارة اسطنبول، كنت أزوره، ويدور النقاش حول ما يريده في هذا العمر، فكان يقول لي: ادع الله لي بأربعة أشياء: الصحة، والإخلاص، والبركة، والقبول، وقال لي مرة أخرى، إضافة لما مضى: التوفيق، أن يرزقه الله التوفيق فيما يعمل، ولهذه المطالب أو الأمنيات للقرضاوي، لمن يتأمل حياته، سيجد معظمها محققا وملموسا، وبعضها مما نرجو من الله تحقيقه.

أما الصحة، فبلا شك يعاني القرضاوي من أمراض سنه، وهو أمر طبيعي، ولعل أكثر المشايخ الذين يشاع خبر وفاتهم في هذا الزمن هو القرضاوي، فكل شهر، وكل مناسبة، تجد شائعة وفاته، وعندما يتصل بي الناس للسؤال، وأنفي، يلح البعض في أن أتصل لأسأله في اتصال هاتفي، وكنت كلما  اتصلت به يكون قد بلغه الخبر، وأذكر آخر مرة خرجت هذه الشائعة، وأنا أهاتفه، فقال لي: إن الموت حق على الجميع، وعندما يأتيني أجلي سألقى الله، لن يستطيع أحد أن يرد قدر الله عني، لا تقديما ولا تأخيرا، ولا أدري لماذا يشيع بعض الناس عني خبرا كهذا، وهل في وفاتي ما يفرحهم، أو ما تسر به قلوبهم؟! إن الموت لا فرحة فيه ولا شماتة، فلماذا يتمنون ذلك؟! ورغم ما يشاع عنه، فإن قلوب المحبين له، تلهج بالدعاء لله سبحانه وتعالى، أن يمتعه بالصحة والعافية، كلما أشاعوا ذلك، فيحسن له خصومه من حيث أرادوا الإساءة والقلق.

وأما الإخلاص، فكلنا ندعو الله له أن يرزقه الإخلاص في القول والعمل، ولا نملك أن نحكم على عمله بذلك، فهو أمر موكول إلى الله عز وجل، ولكنه كان يحرص في طلب الدعاء له به، لأنه يعلم أن عملا بلا إخلاص فهو شكل بلا جوهر أو ورح، وهو مردود غير مقبول، فما قيمة أن تعمل أعمالا عظيمة تخلو من الروح، وهو الإخلاص.

وأما البركة، فقد رزق القرضاوي بركة في العمر، وبركة في الوقت، وبركة في الإنجاز، أما بركة العمر، فقد بلغ خمسا وتسعين عاما، فقد مد الله في عمره، مع حسن عمل، نشهد بذلك ولا نزكي على الله أحدا.

وأما بركة الوقت، فقد رأيت القرضاوي يكتب ويقرأ في كل مكان يذهب إليه، وعندي أوراق بخط يده لكتب ومقالات وفتاوى كتبها على أوراق فنادق، ومطاعم، وأحيانا (المينيو) قائمة الطعام يجد خلفها فراغا فيكتب عليه، وأوراق بنوك ومصارف إسلامية، ومؤتمرات، ووزارات، يعطون المشارك فيها دفتر أوراق، عليها اسم المكان، فتجمع عندي عدد من الأوراق تدل على دول، ومطارات، وفنادق، وقاعات مؤتمرات، زارها الشيخ، تشعرك بأنه طاف معظم بلاد العالم.

كل كيان أسسه القرضاوي، قامت أنظمة وأجهزة مخابرات في دول عربية، بمحاكاة ما قام به، ومحاولة تأسيس كيان ضرار يقضي على كيانه، لكن سبحان الله، تبقى مؤسسات القرضاوي مباركا فيها، ومكتوبا لها القبول بين الناس، وتظل الكيانات المضادة باهتة، بلا طعم ولا لون، إلا التطبيل للسلطة التي أقامتها،

فالقرضاوي يكتب في كل مكان يذهب إليه، حتى في الطائرة، كنت مسافرا معه مرة، فنمت طوال الرحلة، بينما ظل مستيقظا، وكنت أقوم بين الفينة والأخرى، فأراه يكتب، أستمر في نومي، ويستمر هو في كتابته، وعندما وصلنا، سلمني مبحثا في كتاب لأقوم بكتابته على الكمبيوتر، وترك مساحات في بعض المواضع، لأنقل من كتب من التراث، حدد لي موضعها، وتخريجا لبعض الأحاديث، وأما الآيات فكتب أمامها أسماء السور، وترك رقم الآية، لأقوم بالترقيم من المصحف، وهذا ديدن القرضاوي في كل حله وترحاله.

أما بركة الإنجاز، فقد رزقه الله البركة أيضا، فكتب ما لم يكتبه عالم معاصر في عدد الكتب التي تجاوزت المائتي كتاب، في شتى مجالات البحث الديني، ومعظمها مراجع مهمة في موضوعها، ومنها كتب صارت علما توسع فيه من جاءوا بعده، مثل: فقه الأولويات، وغيره.

هذا من حيث الإنجاز في الكتب، وقل من يجمع بين إنجاز القرضاوي في العلم، وإنجازه في العمل، ففي المؤسسات التي أنشأها وشاهدت الأمة أثرها خير دليل، بداية من الهيئة الخيرية الإسلامية في الكويت، والتي أنشأها ردا على شعار: ادفع دولارا تنصِّر مسلما، وجعله: ادفع دولارا تنقذ مسلما، وقامت المؤسسة بالفعل، ولا تزال بدور كبير في هذا الجانب.

وموقع: إسلام أون لاين. نت، والذي وصل لمرحلة كبرى في التأثير في القارئ بالعربية والإنجليزية، ثم أغلق لأسباب غير معلنة حتى الآن، ولم يقم موقع ـ إلى الآن ـ بدوره، ولا سد فراغه الذي تركه.

ثم تأسيسه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهو اتحاد جمع العلماء في كيان شعبي لا يتبع دولة، ولا نظاما، يعبر عن الشعوب، ويتواصل مع الأنظمة من باب النصح والحوار بالحسنى، والمواجهة بقول الحق إن تطلب الأمر، مع الأنظمة الجائرة الظالمة.

والعجيب أن كل كيان أسسه القرضاوي، قامت أنظمة وأجهزة مخابرات في دول عربية، بمحاكاة ما قام به، ومحاولة تأسيس كيان ضرار يقضي على كيانه، لكن سبحان الله، تبقى مؤسسات القرضاوي مباركا فيها، ومكتوبا لها القبول بين الناس، وتظل الكيانات المضادة باهتة، بلا طعم ولا لون، إلا التطبيل للسلطة التي أقامتها، بينما مؤسساته بوركت وتقبلها الجم الغفير من الناس.

وهذا هو مطلب القرضاوي الرابع: القبول، أن يكتب الله له القبول في العمل، وهذا أيضا لا نملك الحكم عليه، لكننا نملك الحكم على كتابة الله له القبول بين شريحة كبرى من الناس، سواء لكتبه، أو أعماله، أو شخصه.

فكتبه شرقت وغربت، وترجمت للغات عدة من لغات العالم المختلفة، وطبعات كتبه بلغ بعضها الطبعة الخمسين، وأكثر، وبرامجه التي كانت على كبرى الفضائيات، كانت تشاهد بالملايين.

وكنت أتسلم البريد الذي يصل لمكتبه، وقليل من الناس من يعرف عنوانه جيدا، فقط يكتبون على البريد: دولة قطر، يصل ليد د. يوسف القرضاوي، فكان يصل لمكتبه بالجامعة، كنت أفتح الرسائل، لأجد أول ما يكتب الراسل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، شيخنا الجليل: نحبك في الله، وسؤالي كذا، أو طلبي منك كذا، وتأتيه الأسئلة في البرامج والندوات، ويبدأ السائل أولا بنفس الجملة.

وكثيرا ما كان يحدثني ويقول: إن أعظم نعمة أنعم الله علي، هي حب الناس لي، ولو سجدت لله على الجمر، ما وفيت الله عز وجل حقه على هذه النعمة، وقد منحني الله إياها من غير حول لي ولا قوة، بل منَّ الله علي بها.

تلك مطالب القرضاوي الأربعة، التي طلب مني، ومن محبين له أن ندعو الله عز وجل أن يمنحه إياها، والله نسأل وقد بلغ الخامسة والتسعين، أن يبارك له في ما حقق، وأن يهب له ما لم يتحقق، ويبارك لنا في عمره وعلمه.

المصدر: عربي21

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى