قواعد النظام السياسي الإسلامي.. الفرائض الغائبة
بقلم د. حسان عبدالله حسان
إن النسق القيمي الإسلامي متشابك ومترابط لا يقبل التجزئة أو التفتيت في أنظمته الاجتماعية، والنظام السياسي في الإسلام إحدى حلقات هذا النسق المترابط والمتعاضد مع أنظمته الأخرى العقدية والاجتماعية والتربوية.. وغيرها.
وقد افتقد النظام السياسي في المجتمعات الإسلامية منطلقات قيامه ووجوده وفرائض أركانه بما أسميناها هنا «الفرائض الغائبة»، فإذا كانت النظم العلمانية تستند إلى مرجعية القانون الوضعي في القيام والحكم والاستمرار والنشاط، فإن النظام السياسي في الإسلام يستند إلى متصلَيْن رئيسَيْن يوزن بهما، هما: الله تعالى (مصدر القيم العليا لكل النظم الإسلامية)، والناس (مجال تحقق القيم العليا).
نتناول في هذه المقالة أهم قواعد النظام السياسي الإسلامي، الذي يعتمد في تأسيسه على مفهوم السياسة الذي يعني إصلاح الناس وإصلاح الواقع، وإصلاح الأمر كله.
أحكام المنهج الإسلامي جاءت تقرر العدل كفريضة إلهية وتحرّم الظلم لأنه سبيل لانهيار المجتمع
القاعدة الأولى: العدل
العدل هو غاية الحكم في الرسالة الإسلامية، والعدل –بصفة عامة– كما وضحه وعرفه الفقهاء والمفسرون هو: تنفيذ حكم الله؛ أي أن يحكم الناس وفقاً لما جاءت به الشرائع السماوية الحقة، كما أوحى بها الله إلى أنبيائه ورسله، وإذا كانت الشريعة الإسلامية جماع هذه الشرائع وتكملة لها، فإن العمل لها هو إذن –كما قال كل علماء الإسلام– تحقيق للعدل الذي أمر الله به(1)، كما أن هناك معاني أخرى للعدل –بالمعنى الخاص– مثل العدل في المعاملة، والعدل في القضاء، والعدل في الحقوق، والعدل في الأموال، والعدل في العمران، والعدل للأقليات الدينية.
والعدل في العرف الإسلامي ضد الجور والظلم، وهو يعني جماع مزاج الإسلام وخاصية حاضرته أي الوسطية والتوازن المدرك بالبصيرة الذي يحقق الإنصاف بإعطاء كل إنسان ما له وأخذ ما عليه منه.
وإذا كان العدل هو الحق، فإن مجاوزة الحق هي الظلم والجور، وإذا وقع هذا الظلم في علاقة الإنسان بعقيدة الألوهية كان كفراً أو شركاً أو نفاقاً(2)، لهذا جاءت أحكام وأوامر المنهج الإسلامي تقرر العدل كفريضة إلهية وتحرم الظلم بين البشر؛ لأنه سبيل لانهيار المجتمع الإنساني عامة، يقول تعالى في تلك الفريضة: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90)، (كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) (النساء: 135)، (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) (النساء: 58)، (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8)، يذكر الرازي في تفسير هذه الآية قوله: «أي لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا أو تجوروا عليهم وتجاوزوا الحد فيهم، بل اعدلوا فيهم، وإن أساؤوا إليكم، وأحسنوا إليهم وإن بالغوا في إيحاشكم»(3)؛ فالعدل في الرؤية الإسلامية كما ورد في الآيات السابقة(4):
أ- إعطاء كل ذي حق حقه حتى في حالات الاختلاف والبغض.
ب- ميزان المجتمع واستقراره.
جـ- مقابل للفحشاء والمنكر والبغي.
د- العدل صنو التقوى ويقرب إليها.
القاعدة الثانية: الشورى
من القواعد الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي قاعدة «الشورى» في بُعدها السياسي؛ أي بين الحاكم والأمة، جاءت «الشورى» في البيئة القرآنية في موضعين فيما يتعلق بالعلاقة بين النبي (كرسول وحاكم للأمة) والمسلمين، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159)، (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38).
إن الشورى من صفات الجماعة المسلمة، وهي وإن كانت من ضرورات النظام السياسي فإنها أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاماً سياسياً للدولة، فهو طابع أساسي للجماعة كلها، يقوم عليها أمرها كجماعة، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة بوصفها إفرازاً طبيعياً للجماعة.
يقول القرطبي: الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشر أهل العلم والدين فعزله واجب، وهذا ما لا خلاف عليه(5).
يذكر الفخر الرازي في تفسير (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ): ظاهر الأمر للوجوب فقوله «وشاورهم» يقتضي الوجوب(6).
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم دائم التشاور مع أصحابه، كما في “بدر” و”فتح مكة” وغيرهما(7).
تقوم الشورى في النظام الإسلامي على اختيار الحاكم ومناقشته ومراجعته ونقده ومراقبة أعماله إلى حد عزله إن لم يقم بواجباته، وقد اختلف أسلوب التشاور من عهد إلى عهد، “ففي العهد النبوي كان أهل الشورى هم وجوه المهاجرين والأنصار، وفي عهد الخلفاء الراشدين كان وجوه الصحابة يجتمعون في المسجد بالمدينة للتشاور، الأمر الذي كان يتيح لأي شخص الحضور والاشتراك في الرأي، وبعد تفرق الصحابة في الأمصار –بعد الخليفة عمر– تعذر جمعهم، فاكتفى بمن يوجد منهم في المدينة، وفي العهد الأموي كان هناك مجلس من البارزين من الأسرة الأموية، وفي العصر العباسي نظمت الشورى، فقد أنشأ الخليفة المأمون مجلساً للشورى، يضم ممثلين عن طوائف المجتمع لإبداء الرأي فيما يعرضه عليهم من أمور، وحذا حذوهم الخلفاء العباسيون، كما أحاط أمراء الولايات الذين استقلوا بها أنفسهم بمجالس شورى على غرار مجلس الخليفة، وفي العصر العثماني أُنشئ الديوان الهمايوني الذي يضم كبار رجال الدولة من مدنيين وعسكريين وبعض العلماء وبعض الأعيان، وكان بمثابة مجلس استشاري للسلطان، وعلى غراره أنشئ ديوان الوالي في الولايات المختلفة”(8).
الشورى إذن تقوم بعدة وظائف في النظام السياسي الإسلامي، أهمها: توجيه وإرشاد الحاكم نحو خير المجتمع وخير الأمة بما يتطلب وجود أهل شورى “اختصاص” في كافة مجالات الدولة، كما أنها تقوم بوظيفة النقد ومراجعة الحاكم أن يأخذ بهذه الشورى التي تهدف إلى تحقيق أهداف الشرع الإسلامي، والشورى ليست فقط لأهل الحل والعقد، وإنما لكل فرد داخل المجتمع أن يبدي رأيه فيما يرى فيه المصلحة أو إزالة المفسدة، حيث إن كل مسلم مطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشورى تعني أيضاً وجود فكر مخالف لرأي الإمام أو الحاكم أو ما يسمى في الفكر السياسي المعاصر “المعارضة السياسية”، غير أن هذه المعارضة مقيدة بحدود القرآن والسُّنة ومصالح الأمة.
إن الشريعة الإسلامية –كما تقدم– لم تضع شكلاً محدداً لممارسة الشورى، ولكنها تركت شكل تنظيمها بتغير الزمان والمكان والعقول والأفهام في ضوء الالتزام بجوهرها العقدي، “ويبدو لنا أن ما يوافق العصر الحاضر ولا يخرج عن الالتزام العقدي أن تقوم الأمة بانتخاب أهل الشورى الذين يشاورهم رئيس الدولة، ويعتبرون في الوقت نفسه أهل العقد والحل، على أن يكون لرئيس الدولة الحق في مشاورة أهل الاختصاص في موضوع اختصاصهم، وأن يكون له الحق في استفتاء الأمة في المسائل المهمة والخطيرة، وأن يوضع نظام مفصل لكل هذه المسائل وغيرها مما له علاقة في موضوع الشورى في ضوء قواعد الشريعة ومبادئها وأحكامها في ظل نظام الحكم”(9).
الفكر الإسلامي يسمح بالأحزاب لكنه يقيّدها بعدم الخروج على المقومات الأساسية للمجتمع كما حددها القرآن والسُّنة
القاعدة الثالثة: التعددية
التعددية في المجال السياسي هي «أداة لتنظيم الحياة العامة على أسس مشتركة، مع احترام مختلف الاتجاهات الفكرية كشرط أساسي لممارسة الديمقراطية التي توفر لفئات المجتمع إمكانات المشاركة في المصير الواحد»(10).
التعددية بهذا المعنى لا يمكن نسبتها على الإطلاق للديمقراطية الليبرالية الغربية ومؤسساتها السياسية، فالفكر الإسلامي يقيم كل تشريعاته وتصوراته على “حالة الاختلاف والتنوع” بين البشر، هذه الحالة التي تبدأ بالاختلاف الجنسي إلى الاختلاف الفكري والثقافي والديني، وهذه الحالة أيضاً من التصورات الأساسية للفكر الإسلامي حول الإنسان وطبيعته البشرية، يقول تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود: 118).
إن الله سبحانه وتعالى شاء أن يكون البشر مختلفين في الفهم والمواهب والعلم والجسم.. إلخ، غير أن التعددية التي ظهرت في الفكر الإسلامي تختلف عن التعددية السياسية في الديمقراطية الغربية، «فالشريعة الإسلامية بأوامرها ونواهيها موجهة إلى الحاكم والمحكوم على السواء، فليس بها أحكام للقانون العام وأخرى للقانون الخاص، كما هو الشأن في التشريع الوضعي، فالسلطة العليا في الإسلام تتقيد بما يتقيد به الأفراد في أعمالهم إلى حد كبير، ومن ثم فإن ذلك التصور الغربي لمصطلح المعارضة (أو التعددية) الذي يقوم على انقسام الحياة السياسية بين طرفين أحدهما يقوم بدور الحكومة والآخر بدور المعارضة، يواجهه التصور الإسلامي الذي يصير فيه الفرد حاكماً ومحكوماً في آن واحد؛ حيث إن كل فرد «راع» وكل فرد «مسؤول عن رعيته»، ومن ثم فإن المعارضة ليست دوراً أساسياً بقدر ما هي موقف يتخذه الفرد بغض النظر عن كونه حاكماً أو محكوماً، متى ظهرت دواعيه الشرعية الممثلة أساساً في القيام بالشورى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(11).
كما أن تقدير الفكر الإسلامي للرأي الآخر بدأ مبكراً، وكان هذا التقدير من جانب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المعلم الأول لهذه الأمة وواضع الأسس الأولى للفكر الإسلامي، وظهر ذلك في مواقف متعددة تزخر بها السيرة النبوية(12).
إن الذي يجب أخذه في الاعتبار في فكرة التعددية السياسية والمعارضة “أن الفكر الإسلامي يسمح بتكوين الأحزاب السياسية، ولكنه يقيّده بعدم الخروج على المقومات الأساسية للمجتمع كما حددها القرآن والسُّنة، فلا يجوز إقامة حزب علماني يخلي مسؤولية السلطة الحاكمة عن مسؤولية رعاية الدين، ولا يسمح بقيام حزب ينادي بمبادئ تخالف الأحكام القطعية في الكتاب والسُّنة، وهذا أيضاً ما يوجد في النظم الديمقراطية الغربية، التي تختلف فيما بينها بخصوص حرية تكوين الأحزاب، فبعضها يستلزم قيام حزب سياسي للحصول على موافقة الدولة.. كما أن بعض الدول تشترط عدم خروج الأحزاب على بعض المبادئ الأساسية في المجتمع، فلا تسمح بقيام حزب جمهوري في بلد ملكي، والعكس بالعكس، ولا تسمح بقيام حزب فاشي أو نازي في بلد ليبرالي وهكذا”(13).
تقوم التعددية السياسية في الفكر الإسلامي بعملية التقويم الدائم والمستمر للأجهزة التنفيذية داخل الدولة، ومعيارها في هذا التقويم هو النموذج الإسلامي، لذلك فإن مهام هذه التعددية هو التصدي للانحراف عن هذا النموذج الإسلامي، ويكون ذلك عن طريق مراقبته رقابة جيدة، في ظل وجود مبادئ أساسية: العدل، الحرية، الشورى، والمساواة، التي تتيح عمل هذه التعددية بلا تزييف في بيانات أو معلومات يمكن أن تضللها، فالكل في الجسد الإسلامي له وظيفة يؤديها، وأي خطر يهدد جزءاً من هذا الكيان الإسلامي لا بد من التصدي له.
“وبذلك نستطيع أن نفهم كيف يقود الفرد في الإسلام المعارضة عن سلطة وولاية مباشرة بما يمكن أن نسميه تمثيلاً لحق المجتمع يقوم به الفرد، فالمسلم ولي المسلمين ونائبهم وممثلهم جميعاً في كل ما يتعلق بتطبيق الشريعة بما له من ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وهكذا فإن المعارضة ترجمتها السلوكية تتمثل فيما يملكه الفرد المسلم من رفع دعوى الحسبة دون أن يقال له: لا مصلحة شخصية لك، بعكس الدعوى في النظم الديمقراطية الوضعية حيث لا مصلحة، لا دعوى”(14).
هذا، والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________________________
(1) محمد ضياء الدين الريس: النظريات السياسية الإسلامية، ص 283.
(2) محمد عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان، ص 55.
(3) الفخر الرازي: مفاتيح الغيب، مج6، ص 184.
(4) حامد عبدالماجد قويسي: الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية، ص 138.
(5) القرطبي: الجامع لإحكام القرآن، ج4، مرجع سابق، ص 161.
(6) الرازي، مفاتيح الغيب، مج5، مرجع سابق، ص 70.
(7) انظر صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم، ص 228، وما بعدها.
(8) المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية: الإسلام والقرن الحادي والعشرون، سلسلة قضايا إسلامية، العدد 42.
(9) عبدالكريم زيدان: أصول الدعوة، ص 225.
(10) أحمد ثابت: التعددية السياسية، القاهرة، ص 17.
(11) نيفين عبد الخالق مصطفى: المعارضة في الفكر السياسي الإسلامي، ص 30.
(12) انظر: صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم، ص 248.
(13) صوفي أبو طالب: «التعددية الحزبية في الفكر الإسلامي»، مجلة المنار الجديد، العدد 6، ص 22.
(14) نيفين عبدالخالق: المعارضة في الفكر السياسي الإسلامي، ص 31.
المصدر: مجلة المجتمع