مقالاتمقالات مختارة

نظرية أم القرى .. نظرية آتت ثمارها

بقلم أ. محمد فتحي النادي – موقع إسلام أونلاين

تقوم السياسات الخارجية للدول الكبرى والعظمى على فلسفات، ولا تسير في سياساتها على غير هدى. هذه السياسات يقوم عليها الساسة في الحكومات المتعاقبة.

أما الدول الفاشلة فهي التي تعتمد على الأشخاص وقدراتهم ومواهبهم، فيكون حظ السياسة الخارجية على قدر مواهب القائم عليها وقدراته.

فتركيا الأردوغانية قامت على فلسفة كان مهندسها هو داود أحمد أوغلو، والتي كان عنوانها: “تصفير المشاكل مع الجيران”، وقد أودعها في كتابه: “العمق الإستراتيجي لتركيا”.

هذه الفلسفة لم يكتب لها الاستمرار؛ نظرًا لمتغيرات جذرية مرت بالمنطقة. ولكن هناك نظرية أخرى هي نظرية “أم القرى”، والتي قامت عليها السياسة الإيرانية الخارجية على مدار عدة عقود متوالية. فإذا كانت الدولة الإيرانية الحديثة قامت على أيديولوجيا، وأسست لها المؤسسات، فإن السياسة الخارجية قامت على تلك النظرية.

هذه النظرية التي سعت لأن تكون إيران إمبراطورية ممتدة بامتداد البلاد الإسلامية، متغولة عليها، وساعية لنشر فكرها فيها، ومستقطبة هذه البلدان بالترهيب والترغيب، والمال والسلاح.

وهذه النظرية وضعها وصاغها وأطّر لها محمد جواد أردشير لاريجاني، والحاصل على الدكتوراه في الفيزياء، والذي ترأس عدة مؤسسات بحثية لها ثقلها، وعمل نائبًا في البرلمان الإيراني لفترات متوالية، وعمل مساعدًا لوزير الخارجية لعدة سنين في عهد الخميني، وكان عضوًا ومستشارًا في مجلس الأمن القومي الإيراني.

وقد ضمنها كتابه “مقولات في الإستراتيجية الوطنية”، والذي يتم تدريسه في الجامعات الإيرانية.

وقد بدأ إظهار نظريته وتبيينها في العام 1363 هجري شمسي (يعادل 1987م).

وقد قدّمها إلى القارئ العربي د. نبيل العتوم (د. لبيب المنور) في الكتاب الذي أسماه: “إيران والإمبراطورية الشيعية الموعودة”، والذي صدر عن مركز الدراسات العلمية في مكة المكرمة سنة 1429هـ / 2008م.

والملاحظ أنه قد استعار اسم النظرية من الاسم الذي يطلق على مكة المكرمة، قال -تعالى: ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾[الأنعام: 92]، وقد قيل: “إن مكة سميت (أمّ القُرى)؛ لتقدُّمها أمامَ جميعِها، وجَمْعِها ما سواها”([1]).

فهل هو يريد قدسيةً ما لإيران، أم المركزية وتبعية من حولها لها، أم أراد الاثنين معًا؟

أبعاد النظرية

وهذه النظرية لها بعدان:

بُعْد داخلي في الحفاظ على الدولة.

وبُعْد خارجي بصناعة إمبراطورية توسعية لا تعترف بسيادة الدول ولا بحدودها.

1- فبالنسبة للبُعْد الداخلي يقول لاريجاني: “إيران دون أدنى شك أم القرى في العالم الإسلامي”، و”المحافظة على أم القرى معادل للمفهوم العرفي للمحافظة على الدولة”.

2- أما البُعْد الخارجي فيظهر من خلال قوله: “ومما لا شك فيه أن الحفاظ هنا يقصد به المعنى الكامل للكلمة؛ إذ لا يقتصر على الحفاظ على حيز الدولة الجغرافي.

وهذا الأساس -نظرية أم القرى- مؤثر في الكثير من الأمور الهامة والحساسة”.

التقية السياسية

وفي سبيل الوصول لتحقيق نظريته لا بأس ببعض التقية السياسية مع الدول، يقول لاريجاني: “في بعض الوقت من أجل المحافظة على أم القرى يجب أن يكون هناك تصرف معتدل مع بعض الدول على الرغم من فسادها وجورها، لكن من أجل المحافظة على أم القرى يمكن شرب كأس السم”.

وهذه التقية السياسية إلى حين، وليست مستمرة دائمًا، وهذا ما نراه واضحًا جليًّا للعيان، وهو يصف بعض البلدان بالفساد والجور، وإيران من أكثر الدول التي تقوم بإعدام المعارضين.

الترويج للنظرية بشراء الذمم

يرى لاريجاني أن إنفاق المال لنشر هذه النظرية وتدعيمها أمر هين مقابل المكاسب الحاصلة من الإيمان بتلك النظرية، فيقول: “إذا كان هناك تكاليف مالية لأم القرى فليس هذا مهمًّا؛ فهذه التكاليف من مقولة الإسلام نفسه، أليس انتصارنا انتصارًا للإسلام؟

إذن لماذا يجب أن نتحدث أساسًا في المصاريف؟

لذلك يجب أن يطرح الدفاع عن العالم الإسلامي في إستراتيجيتنا الوطنية كركن أساسي، ويجب أن يكون مد نظرنا قيادة العالم الإسلامي”.

هذا العالم الإسلامي الذي يتحدث عنه لاريجاني تصادمه إيران مذهبيًّا؛ إذ لا تقبل هذه الدول السنية أن تقودها إيران الشيعية، والتي تقمع أهل السنة داخل أراضيها، ولا تسمح لهم بأبسط الحقوق.

النظرية تماهي بين الإسلام وإيران

يغالي لاريجاني في نظريته ويجعل إيران هي دار الإسلام، وهذا يفسر إشعال إيران للحروب في المنطقة بأسرها، فيقول: “والواقع أن إيران هي (أم القرى/ دار الإسلام).

انتصار أو هزيمة إيران هما انتصار وهزيمة الإسلام.

ومن ناحية أخرى، إيران هي مهد الإسلام الحقيقي والخالص”.

وهذه كلها مغالطات تروج لها النظرية، ومسوغات للاعتداء على سيادة الدول.

رؤية النظرية للحدود الجغرافية

طالما أن النظرية تؤسس لإمبراطورية توسعية تتغول على سيادة الدول، فلاشك أنها لن تعتبر بالحدود الجغرافية إلا على مضض، حتى يحين الحين لفرض التبعية لها.

فهو يقول: “إننا نقبل بالتقسيمات الحدودية مجبرين؛ لأن رفضها يعني أن حروبًا واسعة ستقوم بين المسلمين والكفار، وأيضًا بين المسلمين أنفسهم.

كما أن إمكانيات الدولة يجب أن تستخدم بشكل منحصر لمصالح شعب هذه الأرض ذات الحدود المعروفة، وإن أي استخدام لها في خارج الحدود يجب أن تكون بصورة مباشرة لمصالح الموجودين داخل الحدود”.

ولاية الفقيه أساس النظرية

يعتبر لاريجاني أن نظريته قائمة على ولاية الفقيه، بل لا تصح قيادة العالم الإسلامي إلا من خلالها، يقول: “تلاحظون أنه من أجل إيجاد أم القرى فليس مطروحًا الموقع الاستراتيجي والسكان والجنس، وأمثال ذلك، بل المعيار هو في الولاية.

بعبارة أخرى: إذا ادعت دولة بأنها (أم القرى) فيجب عليها أن ترفع مستوى قادتها إلى أبعد من حدودها الجغرافية، وأن تجعلها منتخبة لكل الأمة!”.

هذه النظرية الخمينية التي تم فرضها بالقوة، والتي لا تزال تجد لها معارضة بين ملالي إيران، جعلها لاريجاني أساس نظريته، وأنها هي البديل عن كل الأنظمة السياسية القائمة.

النظرية تدعو للولاء لإيران

إن ولاء الشعوب يكون للإسلام، ثم لدولها، لكن هذه النظرية التي مزجت بين الإسلام وإيران تدعو للولاء لإيران؛ فيرى لاريجاني أنه “بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران والقيادة الحقة للإمام الخميني أصبحت إيران أم القرى دار الإسلام، وأصبح عليها واجب أن تقود العالم الإسلامي، وعلى الأمة واجب ولايتها، أي أن إيران أصبحت لها القيادة لكل الأمة”.

والواجب من الأحكام الشرعية التي يأثم تاركها، فأنزل لاريجاني وجوب الولاء لإيران منزل الحكم الشرعي، وهل يصح الولاء لدولة أنزلت نظامها السياسي منزل العقائد؟

الرعاية الرسمية للنظرية

نجحت هذه النظرية وأصبحت التوجه الرسمي للدولة، حتى إن خامنئي وغيره من القيادات الإيرانية يرددونها في خطبهم، وفي خطاب موجه من خامنئي لمحمود شاهرودي قال له: “إن عملكم هذا هو لرفعة شأن إيران، أم القرى الشيعية، التي هي قيادة العالم الإسلامي ولضرب المستكبرين”([2]).

آثار النظرية

لقد رأينا آثار هذه النظرية في ساحاتنا العربية والإسلامية، فأصبح لإيران يد ممتدة في سوريا ولبنان والخليج واليمن والمغرب العربي وإفريقيا وآسيا.

والعيب ليس في إيران، بل في الغيبة عن الواقع الذي نحياه.

وقد خرجت إيران من السرداب ودخلنا نحن في سرداب التيه والغفلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى