مقالاتمقالات مختارة

العلوم الإنسانية وأهمية تضمينها في فضائنا الفقهي

العلوم الإنسانية وأهمية تضمينها في فضائنا الفقهي

بقلم أحمد التلاوي

للعلَّامة محمد بين الحسن الثعالبي الفاسي، كتابٌ على أكبر قدرٍ من الأهمية في محور هذا الموضِع من الحديث، وهو كتاب “التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين”.

يُعتبر هذا الكتاب من العلامات المهمة لفترة الصحوة الإسلامية التي تأسست في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ حيث عاش العلَّامة الثعالبي.

ومن بين أهمِّ المقولات المأخوذة عن الثعالبي في كتابه: “إن الإسلامَ دينٌ معقولٌ تأتلف عقائده بالعقل وتستند إلى المعقولات، والمستحيل عند العقل مستحيل في الإسلام، والعلم لا ينافي الدين كما أن العقل لا ينافيه”.

وفي إطار محاولاته لعقد علاقة متينة بين الدين والعلم، في ظل الظروف التي كانت الأمة الإسلامية تمرُّ بها في تلك الفترة، التي كانت فيها الأمة في مرحلة النزول أو الانحطاط الحضاري؛ أكد الثعالبي أنَّ الدين هو أساس أيُّ علمٍ.

وكانت أفكاره، وسائر الأفكار التي ظهرت في هذه المرحلة، استجابةً للكثير مِن الأحوال التي ظهرت في ذلك الوقت بفعل الثورة الصناعية وحركة الكشوف الجغرافية، والتي نهضت على أساس العلم التجريبي.

والعلم التجريبي، بُنِيَ بدوره على تراثٍ هائلٍ خلَّفه العلماء المسلمون، قبل أنْ تحدث الانتكاسة الحضارية التي أدت إلى امتداد الاستعمار الغربي المباشِر إلى مختلف أرجاء الأمة، وتفكيك بنيتها الاجتماعية والجيوسياسية الواحدة.

إذًا، كان العلم المادي التجريبي، هو أساس هذه الحالة التي تعرَّضت لها الأمة؛ حيث كان له أهم الأدوار في إسناد حركة التطور المعرفي، سواء على المستوى الفكري، أو التطبيقي، الذي مثَّلت مجالات التقنيات العسكرية والأنشطة الاقتصادية، الإنتاجية والتجارية، قلبه الأساسي، وكلتاهما؛ السلاح والاقتصاد؛ كانا عاملَيْ إخضاع الأمم الأخرى للأوروبيين.

ولسنا هنا بصدد مناقشة أهمية العلم في الإسلام، ولن نقول إنَّ القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية فيهما أدلَّة كذا وكذا؛ حيث إنَّ هذا مِن مفروغ القول، ويكفي هنا أنَّ التاريخ يؤكد أنَّ ما قامت عليه النهضة الغربية المبنية على المنهج العلمي في جانبَيْه العقلي والتجريبي؛ إنَّما كانت مُنتجات الحضارة الإسلامية، هو أساسه المتين الذي يعترفون به حتى الآن.

ولكننا هنا بصدد مناقشة قضية دمج العلوم الإنسانية في آليات العلوم الفقهية، أو بمعنىً أدقَّ، في منهجية تفكير الفقيه.

إذ إنَّ الحالة المعاصِرة للحضارة الإنسانية؛ شهدت تنوعًا كبيرًا في المُستَجدَّات التي تتطلَّب رأيًا فقهيًّا، بصورة تخرج عن مجرد إصدار الأحكام الشرعية المُرَجَّحة في مسألةٍ ما، إلى تغيير البنية المفاهيمية للحالة المعروضة على الفقيه، وتطوير آليات تفكيره فيها، وتصنيفه، وبالتالي توصيفه لها، ومِن ثَم؛ إصدار الحكم فيها.

هنا تظهر أهمية مجالات معرفية مثل فلسفة العلم، وعلوم الاجتماع والعمران، بل والأنثروبولوجي الثقافي الذي يفهم الظواهر من زاوية طبائع المجتمعات؛ حيث يتباين تصنيف وتوصيف الظاهرة الواحدة مِن مجتمعٍ لآخر بحسب هويته وطبيعته.

وفي ظل ظروف الراهن التي نحياها؛ فإنَّ الفقيه باتَ ملزمًا شرعًا بالبحثِ في هذه الأمور، والمدهش أنَّ الأئمة المتقدِّمين كانوا أكثر جرأةً في هذه الناحية، ونرى ذلك حاضرًا عند الإمام الشافعي الذي أصدر الكثير من الأحكام بين العراق ومصر تبعًا لاختلاف طبيعة مجتمعِ كلٍّ منها.

وفي ذلك، يقول الدكتور محماد رفيع، وهو أستاذ في جامعة سيدي محمد بن عبد الله، بفاس المغربية، إنَّ هناك ضرورةً للتكامُل المعرفي بين علوم الفقه وعلوم الإنسان، بل ويقول إنًّه في الأصل، تقوم فلسفة علوم الفقه على أساس مقاصد الشريعة الخمس – أو السِّتِّ وفق بعض المدارس الفقهية – المعروفة، على أساس يطابق فلسفة علوم الاجتماع والعمران، من مُراعاةٍ لأحوال الإنسان ومصالحه ومتطلبات عَيشِه السَّويِّ.

وهو يدعو في ذلك إلى تغيير المرتكزات الأساسية الموروثة من عصر ما بعد غلق باب الاجتهاد، والتي حتى في النماذج التي تستند إليها في استنباط الأحكام؛ لا تخرج عن واقع مرحلة زمنية بعينها [“المسلم المعاصر”، العدد (168)، يناير – مارس 2021م، ص.ص 256، 257].

وهو يرى أنَّ هناك في علوم الفقه، وفي الأصول، الكثير مِن المجالات التي يمكن لعلوم الاجتماع والعمران أنْ تكون عونًا فيها، ويضع في هذا –مثلاً– ضمن مجال الفروض الكفائية، الأمورَ المتعلقة بالمصالح العامة للمجتمع، مثل التعليم والصحة والتنمية.

كما يجد في الأحكام الوضعية، التي تستند إلى قراءة في أسبابِ نزولِ الحكمِ الشرعيِّ وعلَّةِ تطبيقه، مجالاً واسعًا للاستفادة مما تمنحه العلوم الإنسانية من أدوات؛ في قراءة أحوال المجتمعات المتباينة فيما بينها، والمُتغيِّرة على مستوى التحولات التي يفرضها الزمن، والموازنة بين المصالح والمفاسد، ومتابعة الآثار الاجتماعية والاقتصادية للتطبيقات المختلفة للأحكام.

وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ تحقيق ذلك، هو مِن أهمِّ الأمور التي باتت فيه مصطلحات مثل “المواطن العالمي” و”القرية العالمية الصغيرة”، حقيقةً واقعةً، وصار هناك مئات الملايين من المسلمين يعيشون في مجتمعات غير مسلمةٍ، وهناك موجات عظيمة التأثير تأتي من مختلف بقاع الأرض على مختلف بقاع الأرض الأخرى، والمسلمون ليسوا بعيدين عن ذلك.

ولكن هذا ليس بالأمر السهل، في ظل هيمنة المناهج والمدارس التقليدية على المساحات الخاصة بالمجال الفقي، والعمل الإسلامي بشكلٍ عامٍّ؛ حيث نجد مدارس أفغانستان/ السعودية/ مصر/ العراق.. إلخ الفقهية، تحكم نظرة الفقيه فيما يخص أحوال المسلمين في المجتمع الكندي/ الأمريكي/ الألماني/ الصيني.. إلخ.

وهذا خطأ، ولا يتعلق الأمر بالمُطلق بالحكم بأفضلية نمطِ عيشِ على نمطِ عيشٍ آخر، ولكن الخطأ يكمن في عدم مراعاة الاختلاف، وهذا الاختلاف، تُعتبر أدوات علوم الاجتماع والأنثروبولوجي الثقافي، هي الأنسب لفهمه، ثم تطبيقه على المجال الفقهي.

ومِن ثَمَّ؛ فإنَّ التطوير الأهم المطلوب في هذا الصدد، هو تطوير المدارس والمحاضن الفقيه والتربوية التي تنتِجَ لنا الفقيه، ومِن دون ذلك؛ سوف تظلَّ رؤانا قاصرةً، وبالتالي ينصرف الناس عنا عندما لا يجدون إجابات أسئلتهم الكبرى لدينا!

المصدر: موقع بصائر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى