مقالاتمقالات المنتدى

حقائق غائبة حول استشهاد الحسين وأحداث كربلاء (7)

حقائق غائبة حول استشهاد الحسين وأحداث كربلاء (7)

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

بالغ الشيعة في تعظيم مراقد الأئمة ومنحوها من القداسة والشرف ما لم تحظ به الكعبة المشرفة والمدينة المنورة، فقد نسبوا زوراً وبهتاناً إلى علي بن الحسين أنه قال: اتخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة، ويتخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام، وقدسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق مقدسة مباركة، ولا تزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض الجنة، وأفضل منزل ومسكن يسكن فيه أولياؤه في الجنة.

 

 

 

ثالثاً: تقديس أضرحة الأئمة وزيارة قبر الحسين – رضي الله عنه – عند الشيعة:

بالغ الشيعة في تعظيم مراقد الأئمة ومنحوها من القداسة والشرف ما لم تحظ به الكعبة المشرفة والمدينة المنورة، فقد نسبوا زوراً وبهتاناً إلى علي بن الحسين أنه قال: اتخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة، ويتخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام، وقدسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق مقدسة مباركة، ولا تزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض الجنة، وأفضل منزل ومسكن يسكن فيه أولياؤه في الجنة. كما نسبوا إلى جعفر الصادق -وهو بريء مما نسبوا إليه-: أن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بُني بيت الله على ظهري يأتيني الناس من كل فج عميق، وجعلت حرم الله وأمنه، فأوحى الله إليها: أن كُفِّي وقرِّي، ما فَضُلُ ما فُضِّلتِ به فيما أعطيت أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غرست في البحر، فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا ما تضمنته أرض كربلاء ما خلقتك، ولا خلقت البيت الذي به افتخرت، فقرِّي واستقرِّي وكوني ذنَباً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم.

وهذه البقعة بالطبع لم تنل ما نالت إلا بكونها في معتقدهم مدفن الحسين – رضي الله عنه -: وقد جرت على ألسنة الشعراء وأقلام الكتاب من بعد الواقعة وإلى يومنا هذا المقارنة بينها وبين الكعبة، وتفننوا بمختلف أساليب النثر والنظم في إثبات فضلها وقداستها وشرفها واستطالة أرضها على جميع الأقطار بالفضل والشرف، وهذه الأرض المباركة لم تنل هذا الشرف العظيم في الإسلام إلا بالحسين – رضي الله عنه – كما نص عليه الحديث: وزادها في تواضعها وشكرها لله بالحسين (ع) وأصحابه، وبناء على غلوهم واعتقادهم في الأئمة – والتي قد مرَّ بيان معتقدهم في ذلك في كتابي عن أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه -،- ولأجل ربط الناس بأضرحتهم ومشاهدهم، وضعوا الفضائل الكبيرة والأجور الكثيرة لمن زار تلك المشاهد، ومع الكثرة الكاثرة من النصوص في هذا الجانب والتي تتفاوت فيها الأجور والمقارنة بين زيارة كربلاء والحج والعمرة لبيت الله الحرام، فإنني سأقتصر على نصين فقط؛ لاحتوائهما على معظم تلك النصوص وتصوير مدى الكذب والافتراء عند القوم واستخفافهم بعقول أتباعهم وجرأتهم على الله – عز وجل – فيما نسبوه إلى أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين – عليه السلام – من الفضل لماتوا شوقاً وانقطعت أنفسهم عليه حسرات قلت: وما فيه؟ قال: من زاره تشوقاً إليه كتب الله له ألف حجة متقبلة، وألف عمرة مبرورة، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر، وأجر ألف صائم، وثواب ألف صدقة مقبولة، وثواب ألف نسخة أريد بها وجه الله، ولم يزل محفوظاً سَنَتَه من كل آفة أهونها الشيطان، ووكِّل به ملك كريم يحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وفوق رأسه وتحت قدمه، فإن مات من سنته حضرته ملائكة الرحمن يحضرون غسله وأكفانه والاستغفار له، ويشيعونه إلى قبره بالاستغفار، ويفسح له في قبره مد بصره، ويؤمنه الله من ضغطة القبر، ومن منكر ونكير يروعانه، ويفتح له باب إلى الجنة، ويعطى كتابه بيمينه، ويعطى له يوم القيامة نور يضيء لنوره ما بين المشرق والمغرب، وينادي منادٍ: هذا من زوار الحسين شوقاً إليه، فلا يبقى أحد يوم القيامة إلا تمنى يومئذ أنه كان من زوار الحسين – عليه السلام -.

وقد سوَّغ هذه المبالغات أحد أئمتهم بذكر فضائلهم وما أعطوا من صفات فوق مستوى البشر فقال: إن هذا ليس بكثير على من جعله الله إماماً للمؤمنين، وله خلق السماوات والأرضين، وجعله صراطه وسبيله وعينه ودليله وبابه الذي يؤتى منه، وجعله المتصل بينه وبين عباده من رسل وأنبياء وحجج وأولياء.

هذا مع أن مقابرهم – رضي الله عنهم – فيها –أيضاً- إنفاق أموال، ورجاء آمال وأشخاص وأبدان، وهجران أوطان، وتحمل مشاق، وتجديد ميثاق، وشهود شعائر، وحضور مشاعر.

ومبالغة في تقديس تلك القبور جعلوا لها مناسك خاصة بها، وهذه المناسك ليست خاصة بقبر الحسين فقط، بل إنها عامة بجميع مشاهد أئمتهم، وقد قال آغا بزرك الطهراني -أحد شيوخ الشيعة- أن ما صنفه شيوخهم في المزار، ومناسكه قد بلغ ستين كتاباً، وإليك منسكاً من تلك المناسك التي يؤدونها عند المشاهد باختصار: قال الصادق – عليه السلام -: إذا أردت المسير إلى قبر الحسين – عليه السلام – فصُم يوم الأربعاء والخميس والجمعة، فإذا أردت الخروج فاجمع أهلك وولدك وادع بدعاء السفر، واغتسل قبل خروجك، وقل حين تغتسل كذا، وكذا، فإذا خرجت فقل كذا وكذا، ولا تدَّهن، ولا تكتحل، حتى تأتي الفرات، وأقِل من الكلام والمزاح، وأكثر من ذكر الله – تعالى -، وإياك والمزاح والخصومة، فإذا كنت راكباً أو ماشياً، فإذا خفت شيئاً فقل:…، فإذا أتيت الفرات فقل قبل أن تعبره:… ثم اعبر الفرات، ثم تفصيل إلى أن يقول واصنع هذه المناسك:… ثم ضع خدك على القبر -قبر علي بن الحسين- وقل:… ثم تدور من خلف الحسين – عليه السلام – إلى عند رأسه وصلِّ عند رأسه ركعتين… ثم تنكب على القبر وتقول:… ثم تخرج من السقيفة، وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومئ إليهم أجمعين… إلى غير ذلك من تفاصيل لبعض ما يفعلون عند المشاهد من طواف بها واستقبال لها حال الصلاة، وغير ذلك آثرت تركها؛ اختصاراً، وانظر بعضها في أصول مذهب الشيعة، كما أن الشيعة تعتقد أن بناء الأضرحة والقباب على مراقد الأنبياء والأئمة والشخصيات الإسلامية من أفضل القربات لله – سبحانه وتعالى -، وإليك الرد على كل من:

 1-قدسية كربلاء:

لا يوجد نص في كتاب الله، ولا صح شيء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخلفائه الراشدين أو علماء الأمة في خير القرون يدل على قدسية كربلاء، أو الفضائل المزعومة لها وغيرها كالنجف وما يسمى بالعتبات المقدسة، وأما الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله من قدسية وفضائل فهي المسجد الحرام، والمشاعر المقدسة داخل المسجد الحرام وخارجه، كالكعبة، ومقام إبراهيم، وبئر زمزم، والصفا والمروة، ومنى، ورحاب عرفات، ورحاب مزدلفة والمسجد النبوي وفضل الصلاة فيه، وفضل ما بين بيت الرسول ومنبره، وجواز شد الرحال إليه، وإلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وفضائل المدينة، وفضائل مسجد قباء، ودعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – بالبركة للمدينة، ووجود البركة في صاع أهل المدينة والبقاء بها، وتحريم الرسول – صلى الله عليه وسلم – المدينة وتحريم صيدها وشجرها، وفضل وادي العقيق وبركته، وفضائل المسجد الأقصى وبركاته، وفضل الصلاة فيه، وجواز شد الرحال إليه، ووجود البركة حوله، وأنه ثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام، والإسراء بالرسول – صلى الله عليه وسلم -، وجاءت الآيات والأحاديث في فضل سائر المساجد وبيوت الله – عز وجل -، فبين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كون المساجد بيوت الله في الأرض، وفضل السعي إلى المساجد وملازمتها وفضل بنائها.. إلخ، أما ما نسب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في قدسية كربلاء وفضائلها فإنه لا يصح في ذلك، وهذا يجري حكمه على البلاد والمقابر والقبور والأضرحة مما يزعم الشيعة أو جهّال السنة.

2- هدي الإسلام في زيارة القبور:

كما هو في سائر شرائع الإسلام أنها تكون في غاية من الاعتدال والسماحة، وصادرة عن حكمة بالغة تضمن لمن عمل بها على بصيرة الفوزَ والنجاحَ، والسعادة، دون أن يتعرض بسببها لأي نوع من أنواع الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة، كذلك كانت شرعية زيارة القبور في الإسلام حينما كان الناس حدثاء عهد بالكفر والشرك وعبادة غير الله نهاهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن الزيارة؛ حتى يكون هناك برزخ فاصل بين العهدين عهد الشرك وعهد التوحيد، وعهد الجاهلية، وعهد الإسلام؛ حتى يذهب ما في النفوس من الالتفات إلى الأرض وما عليها ممَّا يقدِّسه الناس، وعهد السموِّ الروحي والصفاء القلبي والذهني الذي لا يبقى معه التفات إلى غير الله – عز وجل -، وفعلاًُ حينما حصل ذلك، خاطب النبي – صلى الله عليه وسلم – أمته قائلاً: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكر الموت». وفي رواية: «فإن في زيارتها تذكرة»، وفي أخرى: «فإنها تذكر الآخرة»، وفي ثالثة: «فزوروها، ولتزدكم زيارتها خيراً»، وفي رواية رابعة: «فإن فيها عبرة»، ومن حديث أنس – رضي الله عنه : «ثم بدا لي أنها تُرقّ القلب وتُدمع العين وتُذكر الموت، والدار الآخرة، وتزهِّد في الدنيا»، وينبغي أن يحرص الزائر أن تزيده زيارته للمقابر خيراً، وهذا كله فيما يخص الزائر، وأما الأموات فإن لهم فيها نصيباً –أيضاً- حيث كان – صلى الله عليه وسلم – إذا زارهم دعا لهم كما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: كلما كان ليلتها من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجَّلون، وإنا – إن شاء الله – بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد»، ففي هذه الأحاديث بيان أن من مقاصد الزيارة وعللها السلامُ على الأموات والدعاء والاستغفار لهم، قال الإمام الصنعاني -في سبل السلام بعد ما شرح أحاديث الإذن بالزيارة-: والكل دالٌّ على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها وأنها للاعتبار… فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعاً.

فهذه هي زيارة القبور في هدي الإسلام كما علمهم إيَّاها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فمن أتى بها على هذا الوجه ولهذه الغاية ظفر بالأجر والفائدة المترتبة عليها، ومن زارها لغير ذلك فهي ردٌّ عليه، ثم إنها إما أن تكون بدعية، وإما أن تكون شركية بحسب ما يحصل فيها من أعمال، ويقارنها من اعتقاد، وقصد ذلك هو هدي الإسلام في زيارة القبور، وتلك هي أهداف وغايات الزيارة واضحة ناصعة بعيدة عن كل ذريعة تؤدي إلى الشرك بأربابها والغلوِّ في أصحابها، وقد جاءت بعض القيود التي تسد الثغرات الموصلة إلى ذلك.

القيد الأول: ألا تتخذ أعياداً، قال – صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم». فليس من هدي الإسلام تعيين يوم معين من سنة أو شهر، أو أسبوع يخصص لزيارة القبور كما هو شأن بعض الناس.

القيد الثاني: ألا تُشَدَّ إليها الرحال، فعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي». فهذا النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة مقصود به أن يشد رحله مسافراً إلى مكان بعينه لعبادة الله – تعالى – فيه، ولم يثبت أن أحداً من الصحابة أو التابعين، أو علماء أتباع التابعين سافر إلى قبر، أو مشهد لمجرد الزيارة، ولم يصرح أحد منهم باستحباب ذلك العمل، وقال العلامة صديق حسن خان -في كتابه السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم ابن الحجاج، وبعد إيراد مختلف الأقوال ومناقشتها- قال: وأما السفر لغير زيارة القبور كما تقدم نظائره، فقد ثبت بأدلة صحيحة، ووقع في عصره – صلى الله عليه وسلم -، وقرره النبي – صلى الله عليه وسلم -، فلا سبيل إلى المنع منه، والنهي عنه، بخلاف السفر إلى زيارة القبور فإنه لم يقع في زمنه، ولم يقرَّ أحداً من أصحابه، ولم يشر في حديث واحد إلى فعله، واختياره، ولم يشرعه لأحد من أمته لا قولاً ولا فعلاً .

 

3 – البناء على القبور واتخاذها مساجد:

نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمته عن البناء على القبور وتعظيمها بأي نوع من أنواع التعظيم، وأخبر – صلى الله عليه وسلم – أنه لا يفعل ذلك إلا شرار الخلق عند الله – تعالى -، فعن جندب بن عبد الله قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل أن يموت بخمس يقول: «… ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ إني أنهاكم عن ذلك»، وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال: نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، ويبنى عليه. وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد». ففي هذه الأحاديث التي مرت النهي الصريح عن أي نوع من أنواع التعظيم للقبور ومن ذلك، النهي عن اتخاذها مساجد، والنهي عن مجرد البناء عليها، وعن تجصيصها، والكتابة عليها، وقد توجه النهي أول ما توجه إلى قبور الأنبياء والصالحين، لماذا؟ لأنها هي التي يخشى الغلو في أربابها عكس قبور سائر الناس، والفتنة لها أعظم من غيرها. وهذا هو الواقع المشاهد، فإنه ما من مشهد إلا ويزعم أنه بني على ولي صالح، ذي مناقب وكرامات عظيمة يرجى نفعه، ويخاف انتقامه، أو يزعم أنه على نبي من أنبياء الله كما ظهر ذلك تخميناً في أماكن كثيرة من بلاد الله، ولكثير من الأنبياء مع تصريح العلماء أنه لا يُعلم على التحقيق واليقين إلا قبر نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -، وزاد بعضهم قبر الخليل عليه في الموضع المشهور باسمه في فلسطين.

وقد قال النووي في تعليقه على حديث رسول الله السابق: قال العلماء: إنما نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن اتخاذ قبره مسجداً؛ خوفاً من المبالغة في تعظيمه، والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية، ولما احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة – رضي الله عنها -، مدفن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصاحبيه أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما -، بنوا على القبر حيطاناً مستديرة حوله؛ لئلا يظهر في المسجد، فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا؛ حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر، ولهذا قال في الحديث: ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. والله أعلم بالصواب.

وقد أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بتسوية القبور المشرفة مع قرن ذلك بطمس التماثيل، فعن أبي الهيَّاج الأسدي – رحمه الله – قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوَّيته. فهذا أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه – يبعث رئيس شرطته أبا الهياج الأسدي لطمس القبور كما بعثه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، أي: أنه يطبق ما عرفه وفهمه من أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بذلك.

وقد صرَّح العلماء بخلوِّ القرون المفضلة من وجود المشاهد، قال ابن تيمية -وهو يتكلم عن مشهد رأس الحسين – رضي الله عنه -،-:… دع خلافة بني العباس في أوائلها وفي حال استقامتها؛ فإنهم حينئذ في قوتهم وعنفوانهم ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام، لا في الحجاز ولا اليمن ولا الشام والعراق ولا مصر ولا خراسان ولا المغرب، ولم يكن قد أحدث مشهد لا على قبر نبي ولا صاحب ولا أحد من أهل البيت ولا صالح أصلاً، بل عامة هذه المشاهد محدثة بعد ذلك، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، وتفرقت الأمة وكثر فيهم الزنادقة والملبسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك في دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض المغرب ثم جاءوا بعد ذلك إلى أرض مصر، وقريباً من ذلك ظهر بنو بويه في كثير منهم زندقة وبدع قوية، وفي دولتهم قويَ بنو القداح بأرض مصر، وفي دولتهم أُظهر المشهد المنسوب إلى علي – رضي الله عنه – بناحية النجف، وإلا فقبل ذلك لم يكن أحد يقول إن قبر علي هناك، وإنما دفن علي – رضي الله عنه – بقصر الإمارة بالكوفة، وإنما ذكروا أن بعضهم حكى عن الرشيد أنه جاء إلى بقعة هناك، وجعل يعتذر إلى المدفون فيها، فقالوا: إنه علي، وإنه اعتذر إليه مما فعل بولده، فقالوا: هذا قبر علي، وقد قال قوم: إنه قبر المغيرة بن شعبة.. ويقول الذهبي في ترجمة عضد الدولة البويهي: وكان شيعياً جلداً أظهر بالنجف قبراً زعم أنه قبر الإمام علي، وبنى عليه المشهد، وأقام شعار الرفض ومأتم عاشوراء والاعتزال ثم قال: وبه ختم ترجمة عضد الدولة: قلت: فنحمد الله على العافية، فلقد جرى على الإسلام في المائة الرابعة بلاء شديد بالدولة العبيدية بالمغرب، وبالدولة البويهية بالمشرق وبالأعراب القرامطة فالأمر لله – تعالى- .

وقال ابن كثير في حوادث سنة 347هـ: وقد امتلأت البلاد رفضاً وسباً للصحابة من بني بويه وبني حمدان والفاطميين، وكل ملوك البلاد مصراً وشاماً وعراقاً وخراسان وغير ذلك من البلاد كانوا رفضاً وكذلك الحجاز وغيره، وغالب بلاد المغرب، وكثر السب والتكفير منهم للصحابة. ويؤيده كذلك ما ذكره السمهودي – رحمه الله – في كتابه وفاء الوفاء بأخبار المصطفى، وهو يتحدث عن قبر فاطمة – رضي الله عنها – قال: وإنما أوجب عدم العلم بعين قبر فاطمة – رضي الله عنها – وغيرها من السلف ما كانوا عليه من عدم البناء على القبور وتجصيصها. وقال الشافعي – رحمه الله -: ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة، قال الراوي عن طاووس: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى أن تبنى القبور أو تجصص، قال الشافعي: وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها فلم أرَ الفقهاء يعيبون ذلك. إن الحقيقة التاريخية تقول أن القرون الثلاثة المفضلة مضت وليس هناك قبور معظمة ولا مشاهد أو قباب ولا غيرها من مظاهر القبورية، ولا شيء من طقوس ومراسيم العبادات القبورية، وما حاول فعله الشيعة من ذلك فقد جُوبِه بردع قوي من خلفاء المسلمين وأمرائهم، كأبي جعفر المنصور العباسي، وهارون الرشيد.

 

رابعاً: خروج الحسين – رضي الله عنه – في الميزان الشرعي:

إن عدم التمعن في معارضة الحسين ليزيد، والتأمل في دراسة الروايات التاريخية الخاصة بهذه الحادثة، قد جعلت البعض يجنح إلى اعتبار الحسين خارجاً على الإمام، وأن ما أصابه كان جزاءً عادلاً، وذلك وفق ما ثبت من نصوص نبوية تدين الخروج على الولاة، فقد قال – صلى الله عليه وسلم:- «من أراد أن يفرق بين المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان». قال السيوطي: أي فاضربوه شريفاً أو وضيعاً على إفادة معنى العموم. وقال النووي معلقاً على هذا الحديث: الأمر بقتال من خرج على الإمام، أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك، وينهى عن ذلك، فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شره إلا بالقتل قتل، وكان دمه هدراً، وفي الحديث وغيره من الأحاديث المشابهة له جاء تأكيد النبي – صلى الله عليه وسلم – على أن الخارج على سلطان المسلمين يكون جزاؤه القتل، وذلك لأنه جاء ليفرق كلمة المسلمين، والتعلق المبدئي بهذه النصوص جعلت الكثير يظنون أنا أبا بكر ابن العربي يقول: إن الحسين قتل بسيف جده – صلى الله عليه وسلم -، وإن الجمود على هذه الأحاديث جعلت الكرامية مثلاً يقولون: إن الحسين – رضي الله عنه – باغٍ على يزيد، فيصدق بحقه من جزاء وقتل. والبعض قد ذهبوا إلى تجويز خروج الحسين – رضي الله عنه – واعتبروا عمله هذا مشروعاً، وجعلوا المستند في ذلك إلى أفضلية الحسين وإلى عدم التكافؤ مع يزيد. وأما البعض فقد جعل خروج الحسين خروجاً شرعياً بسبب ظهور المنكرات من يزيد. ولكن إذا أتينا لتحليل مخرج الحسين – رضي الله عنه – ومقتله، نجد أن الأمر ليس كما ذهب إليه هؤلاء ولا هؤلاء، فالحسين لم يبايع يزيد أصلاً، واعترض على فكرة التوريث؛ دفاعاً عن الشورى، ومبادئ الإسلام الداعمة لحق الأمة في اختيار من تريد، وخرج معه إلى مكة عبد الله بن الزبير، وذهبا لأجل جمع الأتباع وحث المسلمين على الوقوف في وجه الانحراف الذي أحدث في نظام الحكم وقلبه من الشورى إلى الوراثة، واستنهض الهمم لتصحيح هذا الخلل الذي استجد في عالم الإسلام، وبدأت رحلة الحسين لجمع الأتباع والأنصار نحو التصحيح، وإعادة نظام الشورى ومنهاج الخلافة الراشدة، والمبادئ الكريمة، لا كما يزعم البعض من كونه خرج طمعاً في الحكم والسلطة؛ لأنه ينبغي أن تكون فيه وفي ذريته. بتلك النظرة فيها بخس للحسين ومنهجه، ولأهل البيت ومنهج القرآن، وهدي جده – عليه الصلاة والسلام -. إن القول بنظرية النص في علي وذريته قول باطل، ولا توجد أية آثار صحيحة لنظرية النص في قصة كربلاء ولا في غيرها، وقد تحدث عن ذلك الأستاذ أحمد الكاتب في كتابه تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، وقد ناقشت نظرية النص على ولاية علي وذريته وأدلة الشيعة في ذلك في كتابي عن أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه -. إن الحسين – رضي الله عنه – لم يبايع يزيد بن معاوية، وشرع في إعداده العدة، ولم يخرج عن تعاليم الإسلام التي تشترط الإعداد الجيد لإزاحة الحاكم الجائر حتى يغلب الظن على القدرة على ذلك، فهو قد أعد القوة كما تصورها حتى ظنها كافية لتحقيق غرضه، ولكن حساباته – بلا شك – كانت خاطئة؛ فالحسين لم يقم خطأ شرعياً مخالفا للنصوص، وخاصة إذا عرفنا أن جزءًا من الأحاديث جاءت مبينة لنوع الخروج، فعن ابن عمر – رضي الله عنه – قال: رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «الصلاة المكتوبة إلى الصلاة التي بعدها كفارة لما بينهما، والجمعة إلى الجمعة، والشهر إلى الشهر -يعني رمضان- كفارة لما بينهما…» قال: ثم قال بعد ذلك: «إلا من ثلاث» قال: فعرفت أن ذلك الأمر حدث، «إلا من الإشراك بالله، ونكث الصفقة، وترك السنة: قال: أما نكث الصفقة: أن تبايع رجلاً ثم تخالف إليه تقاتله بسيفك، وأما ترك السنة فالخروج من الجماعة».  والحسين – رضي الله عنه – ما خرج يريد القتال، ولكن ظن أن الناس يطيعونه، فلما رأى انصرافهم عنه، طلب الرجوع إلى وطنه أو الذهاب إلى الثغر، أو إتيان يزيد، ولقد تعنَّت ابن زياد أمام مرونة الحسين وسهولته، وكان من الواجب عليه أن يجيبه لأحد مطالبه، ولكن ابن زياد طلب أمراً عظيماً من الحسين، وهو أن ينزل على حكمه، وكان من الطبيعي أن يرفض الحسين هذا الطلب، وحُقَّ للحسين أن يرفض ذلك؛ ذلك لأن النزول على حكم ابن زياد لا يعلم نهايته إلا الله، ولربما كان حكمه فيه القتل، ثم إن هذا العرض إنما كان يعرضه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الكفار المحاربين أعداء الإسلام، والحسين – رضي الله عنه – ليس من هذا الصنف، بل هو من أفاضل المسلمين وسيدهم، ولهذا قال ابن تيمية: وطلبه أن يستأسر لهم، وهذا لم يكن واجباً عليه. والحقيقة أن ابن زياد خالف الوجهة الشرعية والسياسية حين أقدم على قتل الحسين – رضي الله عنه -، فالظالم هو ابن زياد وجيشه الذين قدموا على قتل الحسين – رضي الله عنه – بعد أن رفضوا ما عرض الحسين من الصلح. ثم إن نصح الصحابة للحسين يجب أن لا يفهم على أنهم يرونه خارجاً على الإمام -كما ذهب لذلك يوسف العش-. بل إن الصحابة – رضوان الله عليهم – أدركوا خطورة أهل الكوفة على الحسين، وعرفوا أن أهل الكوفة كذَبَة، وقد حملت تعابير نصائحهم هذه المفاهيم. يقول ابن خلدون: فتبين بذلك غلط الحسين، إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه؛ لأنه منوط بظنه، وكان ظنه القدرة على ذلك، وأما الصحابة – رضوان الله عليهم – الذين كانوا بالحجاز ومصر والعراق والشام والذين لم يتابعوا الحسين – رضوان الله عليه -، فلم ينكروا عليه، ولا أثَّموه؛ لأنه مجتهد، وهو أسوة للمجتهدين به. قال ابن تيمية: وأحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – التي يأمر فيها بقتل المفارق للجماعة لم تتناوله؛ فإنه – رضي الله عنه – لم يفارق الجماعة، ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى يزيد، داخلاً في الجماعة، معرضاً عن تفريق الأمة، ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك، فكيف لا تجب إجابة الحسين، ولم يقاتل وهو طالب الولاية، بل قتل بعد أن عرض الانصراف بإحدى ثلاث… بل قتل وهو يدفع الأسر عن نفسه، فقتل مظلوماً.

 

خامساً: بعض الرؤى في قصة الحسين – رضي الله عنه -:

ومن هذه الرؤى المتعلقة بقصة مقتل الحسين – رضي الله عنه -، عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – في المنام بنصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه، قلت: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابه، لم أزل أتتبعه منذ اليوم، قال عمار -راوي ذلك الحديث-: فحفظنا ذلك فوجدناه قُتِل ذلك اليوم، وهذا سنده صحيح عن ابن عباس، وروى ابن سعد بأسانيده: قالوا: وأخذ الحسين طريق العُذيب حتى نزل قصر أبي مقاتل، فخفق خفقة، ثم استرجع، وقال: رأيت كأن فارساً يُسايرنا، ويقول: القوم يسيرون، والمنايا تسري إليهم، وقال بعض الناس إن الحسين – رضي الله عنه – بنى خروجه على يزيد على رؤيةٍ رآها لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وبأن رسول الله أمره بأمر وهو ماضٍ له، وقد اعتمد على الرؤى قوم في أخذهم الأحكام، ويقول الشاطبي: وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها، فيقولون: رأينا فلاناً -الرجل الصالح-، فقال لنا: اتركوا كذا واعملوا كذا، ويتفق مثل هذا كثيراً للمترسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – في النوم، فقال لي كذا، وأمرني بكذا، فيعمل بها، ويترك بها، معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ؛ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال، إلاَّ أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوغتها عُمِل بمقتضاها، وإلا وجب تركها، والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام فلا.

وعليه فلا عصمة فيما يراه النائم، بل لا بد من عرضه على الشرع، فإن وافقه فالحكم بما استقر؛ لأن الأحكام ليست موقوفة على ما يرى من المنامات، وإن خالف ردَّ مهما كان حال الرائي أو المرئي، ويحكم على تلك الرؤيا بأنها حلم من الشيطان، وأنها كاذبة وأضغاث أحلام.

ولكن يبقى أن يقال: ما فائدة الرؤيا الموافقة للشريعة، إذا كان الحكم بما استقر عليه الشرع؟.

فائدتها التنبيه والبشرى كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات».

قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة»، فإن الرجل الصالح قد يرى في النوم ما يؤنسه أو يزعجه فيكون ذلك دافعاً له إلى فعل مطلوب أن ترك محظور.

 

سادساً: أخبار الرسول – صلى الله عليه وسلم – بمقتل الحسين – رضي الله عنه -:

عن أم سلمة قالت: كان جبريل عند النبي – صلى الله عليه وسلم – والحسين معي، فبكى الحسين، فتركته، فدخل على النبي – صلى الله عليه وسلم – فدنى من النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال جبريل: أتحبه يا محمد؟ فقال: «نعم». قال: إن أمتك ستقتله، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها، فأراه إياها، فإذا الأرض يقال: لها كربلاء، وقد وقع الأمر كذلك بعد مضي سنين طويلة، وهذه معجزة من معجزاته – صلى الله عليه وسلم – الدالة على نبوته وأنه رسول الله حقاً وصدقاً، فقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك عن طريق الوحي.

 

سابعاً: انتقام الله من قتلة الحسين – رضي الله عنه -:

لقد انتقم الله للحسين الشهيد – رضي الله عنه – من قاتليه وعلى رأسهم عبيد الله بن زياد، ويزيد بن معاوية، وكل من شارك في قتله لم يَسلم، أما عبيد الله بن زياد فقد قتله إبراهيم بن الأشتر وحز رأسه وأرسل به إلى المختار ابن أبي عبيد الله الثقفي، يقول ابن عبد البر: قتل الحسين – رضي الله عنه – يوم الأحد لعشر مضين من المحرم يوم عاشوراء، سنة إحدى وستين… وقضى الله – عز وجل – أن قتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة سبع وستين، قتله إبراهيم بن الأشتر في الحرب، وبعث برأسه إلى المختار، وبعث به المختار إلى ابن الزبير وبعث به ابن الزبير إلى علي بن الحسين، وقد صحَّ من حديث عمار بن عمير قال: جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه فأتيناهم وهم يقولون: قد جاءت، قد جاءت، فإذا حية تخلل الرؤوس، حتى دخلت منخر عبيد الله فمكثت هُنيَّهة ثم خرجت وغابت. ثم قالوا: قد جاءت، قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً.

أما يزيد بن معاوية فقد مقته الناس وأبغضوه لمقتل الحسين وثار عليه غير واحد، وثار عليه أهل المدينة النبوية الشريفة، فارتكب جريمة أخرى هي موقعة الحرَّة بالمدينة فلم يمهله الله – تعالى -، وكانت دولته أقل من أربع سنين، وجاء عن أبي رجاء العطاردي قال: لا تسبوا علياً ولا أحداً من أهل البيت، كان لنا دار من بلهجيم قال: ألم تروا إلى هذا الفاسق الحسين ابن على قتله الله؟ فرماه الله بكوكبين في عينيه فطمس بصره!.

قال ابن كثير: وأما ما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح، فإنه قلَّ من نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة أو عاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض وأكثرهم أصابه الجنون.

 

ثامناً: القوى المضادة للإسلام ومصيبة كربلاء:

نجحت القوى المضادة لدولة الإسلام في حدوث واقعة كربلاء ثم وجدوا فيها الفرصة السانحة لتمزيق الجماعة الإسلامية، وتفريق الكلمة بتحويل النزاع بين المسلمين، فقد كانت الكوفة مجمع شذاذ الناس وأشرارهم مع خيارهم، فقد أتى إليها الصحابة، كما أتى النصارى واليهود، وأقبلت القبائل العربية، كما أقبل الموالي، وانتشرت الزندقة والسحر، وانتشرت الحلقات المتعارضة، والمجامع المتنافرة، وشرع اليهود بالكوفة في نشر التلمود، والنصارى كانوا ينادون بتجسيد الألوهية، فأطلت رؤوس مجامعهم السرية مع المراكز المتطفلة الخفية، واستُغل دم الحسين، واعتبروه ذا قيمة في التضحية تشبه دم المسيح عند النصارى، وتسلل إلى نفوس من أسلم من الفرس من هذا الطريق يستثيرونهم ضد الدولة بحجة أن الحسين كان قد تزوج جيهان شاه ابنة يزدجرد أم علي بن الحسين، فارتفعوا بهذه الفاجعة عن مصائب البَشَر الاعتيادية، فشبهوها بمصائب الأنبياء، وتسللت من خلالها أفكار أهل الكتاب بسهولة..

واعتبروا أن الحسين لم يتألم لما أصاب أهله ونفسه من القتل والإيذاء بل إنه تألم؛ لأن أمَّة جدِّه المسؤول عن هدايتها -بصفته الإمام والحجة- ضلت بحربها إياه، وهذا يذكرنا بفكرة النصارى عن صلب المسيح وتعذيبه، فكان من السهل بذر هذه الفكرة من قبل أهل الكتاب في نفس من أسلم حديثاً، فأقبل الموالي على التشيع ورأوا في الحسين إنساناً روحانياً قدر له الله منذ الأزل أن يفتدي الإسلام بدمه ويحفظه بتضحية نفسه، فقرن بدور المسيح المخلص…! وكان لمستشاري يزيد من النصارى مثل سرجون أثر في تلك الأحاديث الدامية وما ترتب عليها من نكبات ومصائب.

 

تاسعاً: استشهاد الحسين – رضي الله عنه – نقطة تحول في التاريخ الفكري والعقدي للتشيع:

يعتبر استشهاد الحسين – رضي الله عنه – نقطة تحول في التاريخ الفكري والعقدي للتشيع؛ إذ لم يقتصر أثر هذه الحادثة الأليمة على إذكاء التشيع في نفوس الشيعة وتوحيد صفوفهم، بل ترجع أهمية هذه الحادثة إلى أن التشيع كان قبل مقتل الحسين مجرد رأي سياسي لم يصل إلى عقائد الشيعة، فلما قتل الحسين امتزج التشيع بدمائهم، وتغلغل في أعماق قلوبهم، وأصبح عقيدة راسخة في نفوسهم، لقد نظر الشيعة إلى استشهاد الحسين على أنه أهم من استشهاد علي بن أبي طالب نفسه؛ لأنه الحسين ابن بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وقد اعتنق الفرس مبدأ التشيع وبذلك تمركزت العقيدة الشيعية حول الحسين وسلالته دون الحسن وذريته، وإلى اعتناق مبدأ حق الحسين بن علي الإلهي وذريته في الخلافة، وأن الإمامة بالنص لا بالاختيار، بل اعتبر الشيعة سفك دم الحسين في سهل كربلاء ذا قيمة في التضحية تشبه سفك دم المسيح المزعومة عند المسيحية، ولم يقتصر التمايز الفكري والعقدي بين أهل السنة والشيعة بعد مقتل الحسين، بل إن الشيعة أنفسهم قد أثر فيهم مصرع الحسين، وانقسموا على أنفسهم، وافترقوا بعد مقتله إلى فرق، ولكي يكون لمقتل الحسين أهمية خاصة عند الشيعة فقد أكدوا على أهمية يوم عاشوراء، وتفننوا في إظهار الحزن في ذلك اليوم كما ابتدعوا لفضائل ذلك اليوم من الأحاديث والآثار ما لا يقع عليه الحصر، وقد جعلوا البكاء على الحسين يوم عاشوراء يمسح الذنوب ويغفر ما تقدم منها، مما جعل الاحتفال بيوم عاشوراء واجباً دينياً يقوم به الحكام والمحكومين على السواء، ويبالغون في إظهار عواطفهم المذهبية في هذا اليوم الحزين، لقد أراد واضعو التشيع وعقائده التأكيد على يوم عاشوراء، ويكون التشيع عقيدة ملتهبة في نفوس أتباعها، وكانت دولهم تهتم بهذا الأمر، كالدولة البويهية بالعراق والدولة العبيدية الفاطمية بمصر، وقد تعرضت لعقائد الشيعة بنوع من التفصيل في كتابي عن أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه – .

 

عاشراً: من دعاء الحسين – رضي الله عنه -:

دعا الحسين – رضي الله عنه – بهذا الدعاء قبل المعركة: اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبةً مني إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة.

إن الحسين – رضي الله عنه – يعلمنا حسن الدعاء والالتجاء إلى الله – تعالى – والثقة به والتوكل عليه والرغبة إليه فجدُّه – صلى الله عليه وسلم -، قال:  «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء»، وقد تعلم الحسين – رضي الله عنه – من تعاليم جدِّه – صلى الله عليه وسلم -، بأن الاستعانة لا تكون إلا بالله، والشكوى لا تكون إلا إليه – سبحانه -، فلا يستعين المرء ولا يشكو إلا إلى الله وحده، دون غيره من نبي أو إمام أو صالح.. ويعلمنا الحسين – رضي الله عنه – أن الدعاء لا يصرف إلا لله وحده دون سواه، فهذا الحسين – رضي الله عنه – لم يدعُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو أباه علياً، وهو في هذا الموقف العصيب الذي يودع فيه الحياة، بل دعا الله وحده، وتوسل إليه فقط، وفي هذا يعلمنا الحسين – رضي الله عنه – منهجاً يجب ألا نحيد عنه، وهو عند الدعاء لحاجة المرء أو طلب رزق أو شفاء مريض أو غيرها عليه أن يدعو الله وحده ولا يشرك في دعائه أحداً كائناً من كان هذا المدعو، فمن أحب الحسين – رضي الله عنه – فعليه أن يدعو الله كما دعا الحسين – رضي الله عنه -، ولا يقول: يا حسين، أو يا علي؛ فإن دعاء المخلوقين انحراف عظيم عن كتاب الله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهدي العلماء الربانيين، وعلى رأسهم أئمة أهل البيت الأطهار.

قال الشاعر :

وأفنية الملوك محجبات وباب الله مبذول الفِنَاءِ
فما أرجو سواه لكشف ضٌريِّ ولا أفزعُ إلى غير الدُّعاء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى