كان “الفُضَيل” لصًا (بلطجيًا) يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وذات ليلةٍ تسلّق جدار أحد المنازل ليسرقه، ولكن مشهدا ما استوقفه، فوضع يده على السقف وظل ينظر إلى ذلك الرجل العجوز الذي يقرأ القرآن بخشوعٍ ويبكي، وعنده بنت تجهّز له العشاء …
إنها قصة قاطع الطريق ، اللص (البلطجي)…
ليست فيلما سينمائيًا من تخاريف السُبكي أو العدل
ولا مسرحية درامية كتبها نعمان عاشور، أو عزيز أباظة
ولا مسلسل تليفزيوني مصري، ممطوط وغير منطقي….
ولا حكاية شعبية مثل أبو زيد الهلالي وعنترة بن شداد وسعد اليتيم..
ولكنها حياة العابد الزاهد، أمير الزاهدين “الفُضَيل بن عياض” (107هـ – 187هـ)
– هو فُضَيل بن عياض بن مسعود بن بشرٍ، يُكْنَّى بأبي عليٍّ، من بني تميم، وُلِد بسمرقند سنة 107 هـ ، ونشأ بأبيورد، والأصل من الكوفة بالعراق، عربيُّ الأصل ولكنَّه عاش باكورةَ حياته في خراسان.
(مُدُن: سمرقند وأبيورد وخراسان وسرخس، كانت تتبع إقليم قديم يشمل إيران وأفغانستان وبعض مناطق آسيا الوسطى)
– (كان “الفضيل” يسرق ويعطّل القوافل في الليل، فقد كان قوي البنية شجاعًا يخشاه الناس ويخافون منه، وكان يأخذ فأسًا وسكينًا ويتعرض للقافلة فيعطلها، وكان الناس يقولون لبعضهم في الطريق: إياكم والفضيل.. إياكم والفضيل..! والمرأة تأتي بطفلها في الليل تسكته وتقول له: اُسكت وإلا أعطيتك للفضيل..)
البداية
– روى ابن عساكر بسنده عن الفضيل بن موسى قال: كان “الفُضَيل” لصًا (بلطجيًا) يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وذات ليلةٍ تسلّق جدار أحد المنازل ليسرقه، ولكن مشهدا ما استوقفه، فوضع يده على السقف وظل ينظر إلى ذلك الرجل العجوز الذي يقرأ القرآن بخشوعٍ ويبكي، وعنده بنت تجهّز له العشاء،
إنها سرقة سهلة، ومهمة يسيرة، والشيخ العجوز لن يستطيع أن يدافع عن نفسه… تجمّدت أطراف “الفضيل بن عياض” وهو يستمع للشيخ الذي يقرأ القرآن، وكاد أن يسقط ، لكنه ظل متشبثا بالجدار، وعندما وصل الشيخ إلى آية :” أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُون”
صرخ “الفضيل” وهو في طريقه للأرض وقال:
بلى يارب قد آن
بلى يا رب قد آن
بلى يا رب قد آن
ورجع مهمومًا يجرُّ أقدامه، ودخل خرابة فإذا فيها رفقة من الرجال، وأحدهم ينصحهم: لا تتحركوا حتى نُصبح، فإن “الفضيل” على الطريق يقطع علينا .. فقال الفضيل: أنا أسعى بالليل في المعاصى وقومٌ من المسلمين هنا يخافوننى، وما أرى الله ساقنى إليهم إلا لأرتدع…اللهم إني قد تبتُ إليك وجعلتُ توبتي مجاورة البيت الحرام.
فتاب اللهُ عليه، فجعله إمام الحرمين في العبادة،
قاطع الطريق أصبح إمام الحرمين: الحرم المكي، والحرم المدني..
– قال الإمام الذهبي تعليقا على القصة :
وبكل حالٍ : فالشرك أعظم من قطع الطريق ، وقد تاب من الشرك خلقٌ صاروا أفضل الأمة، فنواصي العباد بيد الله ، وهو يضل من يشاء ، ويهدي إليه من أناب .
وقد ردَّ الشيخُ محمد متولي الشعراوي، على الذين قالوا إن قصة توبة “الفضيل بن عياض” من خيال الصوفية، وذكرَ القصة كاملة من كتب أئمة وعلماء الإسلام الكبار الثقات ، وإنها حقيقية.
– انطلق الفُضيل من الثرى للثريا ، وطبّقت شهرته الآفاق، وأصبح لص الأمس، هو المثل الأعلى للناس في الزهد حتى يرث اللهُ الأرض ومن عليها
طلَّق “الفضيلُ بن عياض” الدنيا، وجعَلَها خلف ظهرِه، وأقبلَ على العبادة، وقد حزن أشدَّ الحزن لَمَّا أبصر العلماء يتَزاحمون على أبواب الملوك، فرآهم يومًا وقد وقفوا على باب هارون الرَّشيد، وأخضَعوا له هاماتهم فقال لهم: “ما لكم وللملوك؟ ما أعظم مِنَّتَهم عليكم!
قد تركوا لكم طريق الآخرة، فاركبوا طريق الآخرة، ولكن لا ترضون؛ تبيعونهم بالدُّنيا، ثم تُزاحمونهم على الدُّنيا، ما ينبغي لعالِم أن يفعل هذا”
– يقول الفضيلُ بن عياض: المؤمن في الدُّنيا مهمومٌ حزين، هَمُّه مرمّة جهازِه، ومن كان في الدُّنيا كذلك، فلا همَّ له إلا التزوُّد بما ينفعُه عند العودة إلى وطنه، فلا يُنافس أهل البلد الَّذي هو غريبٌ بينهم في عزِّهم، ولا يجزع من الذُّل عندهم.
– من أقواله
– من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد.
– بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله.
– الخوف أفضل من الرجاء ما دام الرجل صحيحا، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل.
– عليك بطرائق الهُدى ولا يضرك قلَّة السالكين، وإياك وطرائق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.
– المؤمن قليل الكلام كثير العمَل، والمنافق كثيرُ الكلام قليل العمل.
– لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة، وحتى لا يحب أن يُحمد على عبادة الله.
– من استوحش من الوحدة واستأنس بالناس لم يسلم من الرياء، لا حج ولا جهاد أشد من حبس اللسان، وليس أحد أشد غما ممن سجن لسانه.
– كفى بالله محبا، وبالقرآن مؤنسا، وبالموت واعظا.
– خصلتان تقسّيان القلب، كثرة الكلام، وكثرة الأكل.
– جعلَ الله الشرَّ كلَّه في بيت، وجعل مفتاحه حبَّ الدُّنيا، وجعل الخير كلَّه في بيت، وجعل مفاتِحَه الزُّهد في الدنيا
– من أخلاق الأنبياء: الحِلم، والأَناة، وقيام الليل، إذا لم تقدر على قيام الليل، وصيام النَّهار، فاعلم أنَّك محروم، كبَّلَتك خطيئتك.
– قال الفضيلُ لرجلٍ: كم أتَتْ عليك؟ قال: سِتُّون سنَةً، قال: فأنت منذ ستِّين سنة تسير إلى ربِّك، يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنَّا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسيرَه؛ تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون؟ فمن عرف أنَّه لله بعد، وأنَّه إليه راجع، فلْيَعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فلْيَعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليُعِدَّ للسؤال جوابًا، فقال الرجل: فما الحِيلةُ؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تُحْسِن فيما بقي يُغْفَر لك ما مضى وما بقي.
الزهد
– حدَّد الفضيل بن عياض الزُّهدَ في الدنيا بأنه هو “القَناعة” فيقول: “لا يَسْلمُ قلبك حتَّى لا تُبالي من كلِّ الدنيا”؛ أيْ: لا يسلم قلبُك من كلِّ ما في الدنيا، فلا يأبه بك أحَد؛ فالزُّهد إذن هو القناعة، “وهو الغِنَى الحقُّ”، ولا يصل الإنسان إلى الإيمان حتى يزهد في الدُّنيا؛ أيْ: حتَّى يَقْنَع بما في يده، ويحمد الله تعالى عليه
قصته مع الخليفة هارون الرشيد
– عن الفَضْل بن الرَّبيع قال: حجَّ أميرُ المؤمنين هارون الرشيد، فأتاني، فخرجتُ مسرِعًا، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، لو أرسلتَ إلَيَّ أتيتُك، فقال: ويحك! قد حاك في نفسي شيءٌ، فانظر لي رجلاً أسأله، فقلتُ: ها هنا الفضيل بن عياض، قال: امضِ بنا إليه، فأتيناه، فإذا هو قائمٌ يصلِّي، يتلو آيةً من القرآن، يردِّدها، فقال: اِقرع الباب، فقرعتُ الباب، فقال: مَن هذا؟ فقلتُ: أجِبْ أمير المؤمنين، فقال: ما لِي ولأمير المؤمنين؟ فقلتُ: سبحان الله! أما عليك طاعة؟ فأجاب – رضي الله عنه -: “ليس للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه”،
فنَزل، ففتَح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة، فأطفأ المِصباح، ثم التجأ إلى زاويةٍ من زوايا البيت، فدخَلْنا نَجول عليه بأيدينا، فسبقَتْ كفُّ هارون قبلي، فقال: يا لَها من كفٍّ ما ألينَها – إن نجت غدًا من عذاب الله عزَّ وجلَّ – فقلتُ في نفسي (أي: الفضل بن الربيع): لَيُكلِّمنه الليلة بكلامٍ نقي من قلبٍ تقي، فقال له: خُذ لما جئناك له؛ رحِمَك الله (أيْ: مالاً) فقال ابن عياض: إنَّ عمر بن عبدالعزيز – رضي الله عنه – لما وَلِي الخلافة دعا سالِمَ بن عبدالله، ومحمَّدَ بن كعبٍ القرظيَّ، ورجاءَ بن حيوة، فقال لهم: “إنِّي قد ابتُلِيت بهذا البلاء، فأشيروا عليّ”، فعدَّ الخلافة بلاء، وعدَدْتَها أنت يا هارون وأصحابُك نعمة.
وإنِّي أقولُ لك: إنِّي أخاف عليك – أشدَّ الخوف – يومًا تزِلُّ فيه الأقدام، فهل معك – رحِمَك الله – مَن يشير عليك بمثل هذا؟ فبكى هارون بكاء شديدًا حتى غشي عليه، فقال له الفضل بن الربيع: ارْفُق بأمير المؤمنين: فقال ابن عياض: يا ابن الربيع، تَقتله أنت وأصحابك، وأَرفق به أنا، ثُمَّ أفاق، فقال له: زِدني رحمك الله.
يا هارون ، إنَّ العبَّاس عمَّ المصطفى – عليه الصَّلاة والسَّلام – جاء إلى النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال: يا رسول الله، أمِّرني على إمارة، فقال له النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّ الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعتَ أن لا تكون أميرًا فافعل)، فبكى هارون بكاءً شديدًا، وقال له: عليك دَيْن؟ قال الفضيل بن عياض: نعَم، دَين لربِّي يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألَني، والويل لي إن ناقشَني، والويل لي إن لم أُلْهَم حُجَّتي، قال: إنَّما أعني دَينَ العباد، قال: إنَّ ربي لم يأمرُني بهذا، أمر ربِّي أن أُوَحِّده وأُطيع أمره، فقال – عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 – 58].
فقال له هارون الرشيد: هذه ألف دينار، خُذها، فأنفقها على عيالك، وتقوَّ بها على عبادتك، فقال: سبحان الله! أنا أدلُّك على طريق النَّجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلَّمك الله ووفَّقك، ثم صمَت، فلم يُكلِّمنا، فخرجنا من عنده، فلمَّا صِرْنا على الباب، قال هارون: يا أبا الربيع، إذا دلَلتَني على رجل فدُلَّني على مثل هذا، الفضيل بن عياض، سيِّد المسلمين.
قالوا عنه:
– قال عنه الإمام النسائي: الفضيل هو الرجل الصالح المأمون
أما ابن عيينة فكان يقـبّـل يده.
– ابن المبارك: رأيتُ أعبد الناس، ورأيتُ أورع الناس، ورأيتُ أعلم الناس، ورأيتُ أفقه الناس…فأما أعبد الناس فعبد العزيز بن أبي رواد، وأما أورع الناس فالفضيل بن عياض، وأما أعلم الناس فسفيان الثوري، وأما أفقه الناس فأبو حنيفة
– الإمام الذهبي: الفضيل بن عياض هو الإمام القدوة شيخ الإسلام.
– ابن حجر العسقلاني: الفضيل هو الإمام العابد الثقة
– هارون الرشيد: ما رأيتُ في العلماء أهيب من مالك بن أنس، ولا أورع من الفضيل بن عياض.
– قال إسماعيل بن يزيد عن إبراهيم بن الأشعث: ما رأيتُ أحدا كان الله في صدره أعظم من الفضيل بن عياض، كان إذا ذُكر الله، أو ذُكر عنده أو سمع القرآن ظهر به الخوف والحزن، وفاضت عيناه، وبكى حتى يرحمه من بحضرته، وكان دائم الحزن شديد الفكرة.
– شريك بن عبدالله: لم يزل لكل قومٍ حُجة في أهل زمانهم، وإن فضيل بن عياض حجة لأهل زمانه.
– وقال إبراهيم بن شماس عن ابن المبارك: ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل بن عياض.
وفاة الفضيل:
تُوُفيَ الفضيل بن عياض، في مكة المكرمة ، سنة 187 هـ ، وقد بلغ من العُمر 80 عاما، لتبقى قصة حياته، حكاية باكية ترويها الأجيال، وتتناقلها صفحات الكُتُب، عن رجلٍ زلزلته آية من كتاب الله…
آية من كتاب الله، جعلت “البلطجي” يصبح إمامًا للزاهدين ، وقاطع الطريق، إمامًا للمسلمين
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ….) 16 – الحديد.
———————
المصادر:
– سِيَر أعلام النبلاء – محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي
– “نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام” د. علي سامي النشار
– “ميزان الاعتدال” شمس الدين الذهبي
– “تهذيب التهذيب” – ابن حجر العسقلاني
– “إحياء علوم الدين” أبو حامد الغزالي
– “طبقات الصوفية” أبو عبد الرحمن السلمي
– الترغيب والترهيب – المنذري
(موقع الأمة)