كتب وبحوث

قراءة “سنّية” لعقائد “الباطنية” في الإمامة والفقه والتأويل

قراءة “سنّية” لعقائد “الباطنية” في الإمامة والفقه والتأويل

قراءة أحمد القاسمي

الكتاب: عقائد الباطنية في الإمامة والفقه والتأويل عند القاضي النعمان
الكاتب: محمد الهادي الطاهري
الناشر: مؤسسة الانتشار العربي، بيروت لبنان، دار محمد علي الحامي، صفاقس تونس 2011
عدد الصفحات: 409 صفحات

1 ـ بين يدي الكتاب

يُنزل هذا الأثر، وهو بحث لنيل شهادة الدكتوراه بالجامعة التونسية في الأصل، ضمن الجهد البحثي السني لدراسة التشيع ولفهم العقل الشيعي وتدبر منطلقاته العميقة تدبرا رصينا يقطع اندفاع القراءات المتأدلجة. فكثيرا ما أثارت العقائد الباطنية الجدل على مرّ التاريخ، وكثيرا ما حاول الدارسون تفكيك خطابها لفهمه. ولكن كانت حماسة السياسي والتاريخي تدفع بالمعرفي إلى الخلف. ويبدو الباحث محمد الهادي الطاهري مدركا تماما لهذا التحدي. فيجعل عقائد الباطنية الإسماعيلية في الإمامة والفقه والتأويل موضوعا لدراسته معلنا أنه يعمل على تقليب النّظر في سماته المنهجية ومضامينه المعرفية على الوصل بين الخلفيات والأثر الذي أحدثته في تفكير القاضي النعمان عبر مصنفاته المختلفة.

والقاضي النعمان القيرواني المولد والمتوفي بعد منتصف القرن الرابع للهجرة هو فقيه مالكي في الأصل تحول إلى المذهب الإسماعيلي في نهاية الثلث الأول من القرن الرابع وصنف فيه عديد الكتابات كـ “اختلاف أصول المذاهب” و”دعائم الإسلام” و”تأويل دعائم الإسلام”، حتى غدا أحد أهم أعلامه وأحد أبرز رجالات الدعوة للدولة الفاطمية، عينه الخليفة الفاطمي عبيد الله المهدي قاضيا ثم اصطحبه المعز لدين الله الفاطمي إلى القاهرة وجعله قاضي قضاة الدولة والمشرف على مجالسها العلمية يعلّم أسرار التأويل وحقائق الدين.

2 ـ العقائد الباطنية، من خلال المصنفات

حتى يتمثل القارئ إسهام القاضي النعمان في بلورة العقائد الإسماعيلية، يعمل محمد الهادي الطاهري على تقريبها له من خلال المصنفات المختلفة. فيعود إلى “مقالات الإسلاميين” لأبي الحسن الأشعري و”الملل والنحل” لأبي الفتح الشهرستاني على سبيل المثال من القديم، ويعرض نماذج من المصنفات المعاصرة.

وينتهي من خلال عرضه التحليلي النقدي إلى ضبط ثلاث وجهات نظر حول هذه الدعوة وعقائدها. فعدّ وجهة النظر الكلامية الأشعرية التي غلب عليها الدوافع العقائدية التاريخية وتنزل ضمن منطق التكفير والتبديع أولها. ويجد أهميتها مضاعفة. باعتبار سريانها في الكتابات اللاحقة، كما في “الفرق بين الفرق” لعبد القاهر البغدادي أو في مصنفات أبي حامد الغزالي، في “فضائح الباطنية” منها خاصّة.

وعامة لم يقتصر تأثيرها على كتابات الأشاعرة. فعلى منوالها صنّف أعلام المذاهب الأخرى من شيعة وسنة الآثار في مهاجمتها، ويذكر من بينهم القاضي عبد الجبار وابن حزم الظاهري. ولا يتعلّق الاحتراز الذي اشتركت فيه هذه المذاهب إلى تأثرها ببعضها البعض بقدر ما يعود إلى تشريع العقائد  الإسماعيلية لمفهوم مختلف للدين ولرؤية مغايرة للعالم مثلت خطرا يهدد أمن الجماعة الإسلامية المادي والروحي، وفق الباحث. وكان لهذه المصنّفات امتداد فيما حبّره المعاصرون عربا ومستشرقين. فجاءت متحاملة تستعيد مواقف الماضي وأفكاره ضمن نزعة إحياء أفكار السلف.

يحدّد النعمان أهم وظائف الإمامة ودواعي ظهورها وموجبات القيام بها وشروطه. ومن أهم مقوماتها عنده قيامها على علاقات الولاء على المستوى الاجتماعي والروحي ضمانا للتماسك بين القائد وأتباعه.. فجسّد تصوره النظرية الإسماعيلية للسلطة.

ومثلت بعض الدراسات المعاصرة المحتفية بهذه العقائد وجهة نظر ثانية. فقد كانت تجعل منها جذورا بعيدة للفكر المعاصر كالاشتراكية والمادية والديمقراطية، في ضرب من الإسقاط الذي يتغاضى على السياق الابيستمولوجي والحضاري.. أما وجهة النظر الثالثة فتجسدت في الدراسات الأكاديمية الجادة  التي كانت تعمل على فهم هذه المعتقدات الفهم الرصين وتحاول تنزيلها في سياقها التاريخي الدقيق. ويختزل منجزها في الانتباه إلى أن الدعوة الإسماعيلية تكاد تمثّل ديانة موازية تسهم عرفانيات ما بين النهرين ذات الصلة بتراث المندائية والعرفانيات اليونانية في تشكيلها، وفق تقدير الباحث، أكثر من كونها مجرد فرقة من فرق الإسلام.

ويمثل القاضي النعمان، وفق الباحث تتويجا لهذا المسار عقائدها. فقد جاء في مرحلة نضجها بعد تبلور نظريتي الإمامة والتأويل. فهذا “التيار يعدّ بحقّ التيار الفكري الأكثر جرأة في تاريخ الثقافة الإسلامية عن طريق الكثير من الأسئلة التي تمس صميم الفكر الديني “. وعامة يجد محمد الهادي الطاهري أن البعد الإيديولوجي كان غالبا على الكتابات المعاصرة التي تناولت العقائد الباطنية. فقد كانت في أغلبها تردد أصداء الماضي مما يحول دون تحقق المعرفة الموضوعية بحقيقة إثرائه للفكر الإسلامي ” وكان بعض قليل منها يعمل على الفهم يعيدا عن الحماسة.

3 ـ الباب الثاني: نظرية الإمامة في فكر القاضي النعمان

يمثل الموقف من الإمامة جوهر الاختلاف بين الفرق الشيعيّة. فعلى على خلاف الزيدية التي لا تشترط أن يكون الإمام من البيت أو الإمامية التي ترى أنّ الخلافة حق حصري لأهل البيت أي لعلي ولزوجته فاطمة والأحد عشر إماما من أبنائهما، ترى الإسماعيلية في إسماعيل خليفة للإمام جعفر الصادق باعتباره ابنه الأكبر فيما يراها آخرون في شقيقه موسى الكاظم لموت إسماعيل في حياة أبيه وشهادة الناس ذلك.

فيبحث الطاهري في خصوصية رؤية النعمان للإمامة وفي ما يجعل من فكره مختلفا عن غيره ممن طرقوا هذا الموضوع. فيجده متوسطا في تصوره للتوحيد، أي يقف موقفا وسطا بين المعطلة إي الذين ينفون عن الله ما وصف به نفسه باعتبار أن إثباتها يقتضي التشبيه والتجسيم والصفاتية الذين يشبهون الله بخلقه. وهذا ما يقرّبه من مذاهب السلف في التوحيد. أما النبوة فيتناولها تناولا تاريخيا فيه يتشابك الشأن المعرفي بالشأن السياسي. فالأنبياء عنده متعلمون يرتقون في مسالك المعرفة الدينية. وعليه يجد في الإمامة مؤسسة دينية شاملة يتخرج منها الأنبياء والرسل كما يتخرّج الأئمة والحجج والأوصياء. وهذا ما يباعد بينه وبين تفكير السلف.

ويحدّد النعمان أهم وظائف الإمامة ودواعي ظهورها وموجبات القيام بها وشروطه. ومن أهم مقوماتها عنده قيامها على علاقات الولاء على المستوى الاجتماعي والروحي ضمانا للتماسك بين القائد وأتباعه.. فجسّد تصوره النظرية الإسماعيلية للسلطة. وكان المفهوم يتجاوز المسائل الفقهية والكلامية والتاريخية أو يجمع بينها جمعا لا يجعلها محض سلطة سياسية وإنما يرتقي بها إلى مستوى مؤسسة إنتاج الحقائق الدينية واحتكار توزيعها. فيجعلها في آن بيت علم، يوجب انفصالها عن سائر البيوتات، وبيت حكم يقتضي الامتداد والتواصل من منطلق علاقات الولاء والنصرة والمودة. فكان القاضي النعمان بذلك مفكرا يؤسس لمشروع سياسي تكون فيه السلطة للعلماء وتكون فيه المسافة بين الدولة والمجتمع رمزية لا تقوم على الغلبة والقهر. وهذا كفيل، وفق الباحث، بمنع انفصال الدولة عن المجتمع.

يخلص الطاهري إلى أنّ النعمان بحث في الإمامة من مناظير مختلفة منها ما يتعلّق بمنظور المؤرخ ومنها ما له صلة بمنظور المتكلم أو الفقيه أو المؤول. ورغم تعدد زوايا المقاربات لم يكشف فكره عن تناقض في الرؤية أو مراكمة للمعاني كما اتفق. فحسب الكاتب حملت كتاباته رؤية كلية منسجمة يكشف عمقها الفلسفي عن نظام قيم موجه لهذه المؤسسة وضابط لوظائفها وعلاقاتها بالمجتمع. فالإمامة عنده “مؤسسة يتعدى دورها قيادة الجماعة إلى إنتاج الأنبياء والرسالات على مرّ العصور”.

وينغرس هذا التصوّر ضمن أساس عقائدي يعتبر النبوة الحد السفلي الأرقى الذي يربط ما بين السماء والأرض. ولكنه لم يكن يفكر في فن الحكم وأساليبه بقدر ما كان يعمل على ضمان الانضباط باعتباره داعي الدعاة الذي يفكر في الثورة لا في بناء الدولة وتسيير دواليبها. وبما كانت نظرية الإمامة، كما حدّدها، تمنعه من توجيه الحاكم المعصوم، لم يبق له إذن سوى أن يعلّم المحكومين فن الخضوع. ويجد في ذلك نواة تمهّد للاستبداد.

4 ـ الباب الثالث: في التأويل

يمثل التأويل أبرز التراث الباطني ومع ذلك كانت المصادر الإسماعيلية تخلو من ضوابطه الظاهرة، من جهة المفهوم والأدوات والآليات والقوانين المنظمة للعمل. فقد فات أعلامها أن يصوغوا له نظرية متكاملة نحو ما يفعل الأصوليون. وهذا ما فرض على النعمان العودة إلى التراث الإسماعيلي عامة، إلى نصوصه وأعماله التطبيقية لدراسة صيرورة التأويل فيه والبحث عن مفاهيمه المؤسسة وأنساقه الناظمة وقوانينه الخفية. وانتهى إلى الفصل بين آلياته وموضوعه.

فضمن الآليات يجده قائما على مفهوم الظاهر أوالمثل والباطن المرتبط به أولا للمثول والتنزيل والتأويل. وهذا ما يمنحه منحى مختلفا عن تأويل علماء التفسير وأصول الفقه. فبدل أن يعمل على البحث عن المعنى المقصود باللفظ وبدل أن يعتبر أن الأصل في الخطاب الحقيقة وأن يفهم مجازاته في ضوئها ضمن الرؤية البيانية التي حكمت الأصوليين، يبحث فيما وراء هذا اللفظ من المعاني والإشارات فيحمل الخطاب على الرموز والكنايات والاستعارات. وهذا ما أسهم في تأسيس تمثل مختلف لحقيقة النص الديني فضخّم من دور المؤوّل وضاعف من الحاجة إليه.

أما من جهة المضامين فقد مثل التأويل الباطني اتجاها مخالفا لما درج عليه المفسرون الذين يجدون في الخطاب تجسيدا حرفيا للحقيقة، من استسلام إلى المخيال والغرائبية عند فهم النصوص. فكان ينقيها عبر آلية الرمز من الخرافي ومن اللامعقول والعجيب ويردها إلى العقل.

وعليه لم يكن التأويل عندئذ تهويما بقدر ما مثّل محاولة لربط الخطاب بالواقع الاجتماعي وللالتصاق باليومي. فكان يقارب النص باعتباره نسيجا لغويا له بناؤه الداخلي ومن خلال السياق الذي أنتجه وكان يعمل على فهمه باعتباره بنية لغوية تنفتح على السياق الخارجي، الحضاري والاجتماعي. فالتفكير في الطقوس على سبيل المثال، كان عنده بحثا عن دلالات منسجمة تكسب الشريعة قدرا من المعقولية ترضي المكلفين. ذلك أنّ وظيفة الدين عند النعمان سياسية بالأساس “لما أرساه من بنى ثقافية تسمح للجماعة وأفرادها بتمتين عرى التواصل في ما بينهم كي تكون القدرة على الاستمرار في الوجود أظهر وأقوى” .

5 ـ في الفقه وأصوله عند النعمان

يمثل الفقه أهم العلوم الإسلامية الموجهة للتأويل، وعبر مسار التفكير الديني الطويل حقّق تراكماته واكتسب شروطه. أما في الحالة الإسماعيلية، فيبقى من الأنسب، وفق الباحث، أن نتحدث عن مواقف للقاضي النعمان. ففي الأصول يظل الرجل بعيدا عن القول بالإجماع والقياس والنظر والاستدلال. فالقول بها عنده، يعني أن الشريعة غير مكتملة، وأنّ الوحي قد توقف فيما تستمر الحياة. ومما يترتّب على ذلك ، وفق هذا المنظور أنّ عديد النوازل تظل بلا أحكام. وبجد في هذا التصوّر ضلالة وجهلا ورميا للشريعة بالنقص.

ولهذا التصور صلة عميقة بخلفيته الشيعية التي تعتقد باستمرار الوحي وتجعله من اختصاص الأئمة من آل البيت. فالكتاب عندهم محيط بكل شيء لما فيه من المعارف والحكم. والسنة مبينة له شارحة لما غمض منه. وهي صنف من أصناف الوحي. وعبر التوسع يُدخل ضمنها كل حديث مروي عن الأئمة من آل البيت من ورثة النبي المعصومين. وعليه فنفي للقياس والإجماع، على خلاف ما يعتقد الأصوليون، يجعل الجماعة الدينية قادرة على الأفراد المؤسسين.

العقائد الباطنية وبعد

إجمالا ينتمي هذا المؤلف الأكاديمي إلى علم الإسلاميات الذي ينظر في محصلات الفكر الإسلامي وأساليب عمله مستضيئا بالعلوم الإنسانية كتاريخ الأديان والأنتروبولوجيا والأثنولوجيا ودراسة تاريخ الأفكار وأركيولوجيا المعرفة، فيه عمل الباحث على التدرّج في بناء أثره من الشائع في عقائد الباطنية إلى المغمور منها وعلى دراسة فكر القاضي النعمان فيجده على عمقه فكرا مؤدلجا يوظف المعارف الكثيرة خدمة لأغراض دينية وسياسية معينة. ولكنه يجد أنّ المذهب الإسماعيلي مستقل عن جميع المذاهب وإن التقى معها في بعض الأحكام . فقد كان يمتلك آلياته الخاصة في الإفتاء ومنهجه المميّز في تناول القضايا. فكان ناشئا عن عقل فقهي يختلف عن العقل الأصولي. ويحاول أن يبرهن على وجاهة أطروحته انطلاقا من عرض أحكام الزكاة والجهاد في هذا الفقه ومقارنتها بأحكامها في مختلف المذاهب السنية وفي آليات إنتاجها.

المصدر: عربي21

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى